… لم يبرح الحزن فؤاد "السيد سين" بعد، حزينا، منكسرا، كسيف البال ما يزال، بيد أنه يتحامل على نفسه، فيتصنع الانشراح، يتباسم طورا و "يتمسحق" بأمارات السعادة الظاهرية ليخفي شقاءه وتعاساته.
بات شديد النقرة من الناس، كثيرا الازورار عنهم. قلى الأمكنة التي ارتادها هنا وهناك في أحياء مدينته المكمورة في جوف الأطلس لتحرسها الجبال من كل الجهات. في العدوة الشرقية للمدينة تسيدت مقهاه الأثيرة "لافونتين" الأنيقة والفخمة، هناك يقهي، ويلتهم ما يقع في يديه من كتب الأدب العزيزة على قلبه، ويتصفح الجرائد التي يجود صاحب المقهى بها على زبنائه من "العيار" الخفيف، أمثال السيد سين، هناك يحس بالاغتراب وعدم التجانس مع فضاء أعد لغيره : لأعيان المدينة. خلا هذا المكان، وتنبه السيد "سين" ألا يوقفه أحد قط، وأن يكتفي بإرسال التحية إليه من بعيد، لكن لما يحدث أن يستوقفه أحد يبدل جهدا كبيرا كي يبدو متماسكا، محاولا السيطرة على أعصابه، والحفاظ على هدوئه وإذا كانت نار ملتهبة تثوي بداخله، آه لكم ودّ أن يصرخ في وجه الناس : كلكم منافقون، لئام، ثعالب، أنانيون، وصوليون، انتهازيون، همازون، لمازون، مشاؤون بنميم، ولكنه يتذكر الناس الطيبين فيتراجع في آخر لحظة.
يفضل الأماكن حيث لا يعرفه أحد ولا يكلمه أحد، لقد تخاصم مع الحياة ومع الناس ومع نفسه، ابتذلت الأشياء من حوله، كان حزينا ومازال كذلك، ربما لأن المعرفة حزن عميق كما ردد حيكم هندي يوما : أن يعرف المرء حقيقة الناس، ودهاليز نفوسهم المعوجة وما يثوي فيها من "نجاسات"، أن يدرك تفاهة الأشياء : المال والجاه والحب، أن يلم بما تنطوي عليه الحياة من مآسي، كل ذلك يبعث الحزن في نفسه، ويعمقه ما يجري حوله : العراق محتل، فلسطين محتلة، سبتة ومليلية محتلتين، سوريا وإيران مهددتين بالاحتلال، الديموقراطية في وطنه الكبير والصغير لا زالت معتقلة في اثنين وعشرين معتقلا سريا المبثوثة هنا وهنالك، ما بين الماء والماء، الأحزان الكبيرة، صارت صغيرة، كل شيء صار صغيرا غير اللحى التي استطالت في كل ركن معتم، ما كان يدعى "الجماهير" خلدت للرقاد، حتى القيم الجميلة تداعت واحدة تلو الأخرى، وغزت سوق البشرية قيم أكثر نذالة وبؤسا. فكيف للسيد "سين" أن يكون غير حزين ؟
بقلم لحسن الكزالي
خنيفرة - المغرب