كانا مرهقين متعبين، خرجا إلى طرف المدينة التي كانت تضغط لتلفظهما إلى خارجها كجسمين غريبين، وحسنا فعلت ، لأنها سمحت لهما بقسط من الراحة ، وفسحت أمامهما المجال لمد البصر عبر الروابي والتلال التي كانت الريح تغازل حقولها العامرة ، البديعة التلوين ، فتنثني خضرتها وألوانها متموجة وتتكسر في دلال وغنج آ سر ، تنفث أنفاسها الساحرة فتنتشي الريح أكثر وتزيد في صفيرها ، تعاند الأزهار في بث عبيرها ، وتسري هبة الله في جسديهما النحيلين فينتعشان، ويفتحان رئتيهما يريدان طرد ما بداخلهما من أدران هذا الزمن الموبوء.
تنهد صابر وقال : صبا الشام جاء يقرؤني السلام ، فبلغ يا صبا المغرب سلامي لأهل الشام. وقل لهم وعدا مني لبلدي باني سأعود بعد سنة، بعد مائة ،سأعود ولو بعد ستين ألف عام.
وستجتمع- بعد شتاتها في المنافي- الأرحام بالأرحام.
نظر نحوه غريب : وقال ما أسعدك يا صابر ، وما أروع حلمك الذي حققته فقد عشت-فعلا- ستين ألف عام.
- عجيب أمرك ، يا غريب ، أبث لواعج قلبي وحرقة منفاي إلى الريح فتحسدني، متجاهلا ، مأساتي ، أنا يا غريب لا أدري بأي أرض أموت ،وأي تربة ستمتص جزيئاتي...
- اعذرني يا صابر،فستين ألف عام ، عشتها أنا في الظلام ، سرتها في الظلام،بين جثث الأبناء و الآباء والأخوال والأعمام ، ستين ألف عام كلها آثام تلبسها آثام ، نسيت خلالها الفرق بين الغربان والبوم والحمام ،والفرق بين الشهيق ،والصهيل و النهيق ، والفرق بين البهائم والأنام.
اعذرني يا صابر ،فأنا أحسدك لأن في قلبك الذي يسقي وجدانك وطنا تحن إليه ؛ وتحلم بالعودة إلى مروجه و روابيه، أما أنا فاسمي غريب وبلدي عني مذ وعيت غريب، بين مخالب تنين خرافي رهيب ، فهل تضمن لي أن ينجو يوما ويحن بالعودة إلي، فأينا المنفي أيها المنفي ، المنفي الذي يعيش في منفى و بوجدانه وطن يحلم بالعودة إليه ، أو المنفى في ذاته المطرود من جميع المنافي والمهاجر ؟!!