"ان الذي يقلقني هو انني لا املك حياة اخرى اقدمها لبلادي."
" سان يات صان"
وقد رجعت الشمس الى مغيبها فعم الهدوء واقبل الليل ، جلست امام كوخها الصغير الى جانبها قطتها الزرقاء ترقب الطريق وتنظر بعيدا بعيدا الى الافق..وطالت وقفتها فدمعت عيناها وانسكب الدمع على صفحة وجهها الهزيل الاصفر ..انها لاتحقد على هذا الطريق ولاتكرهه وان كان هو نفسه الذي اخذ ابنها وقبله اباه.في مثل هذا اليوم ذهب ، انها لاتكره كذلك هذا اليوم بل تحبه وتعتقد ان في مثله سيعود..
هي لاتتمنى على الله الا شيئا واحدا ان يرجع الطريق يوما ابنها ليتزوج ويلد للطريق.
كان يحب ان يتعلم ان يكتب ويقرا ، كان ابوه ياخذه معه وهو صغير الى المدينة فيرى اقرانه يحملون محفظاتهم ، يقطعون الشوارع فرحين مسرورين فيتحرق لذلك ويتالم ، لماذا لا اذهب الى المدرسة كالاخرين ؟
كان يجلس الى النار في فصل الشتاء فيتناول فحمة ويحاول ان يعيد ما كتب على علب الكرتون التي يستدفئون بها .ولما يستعصي عليه الامر يرفع راسه الى امه ويسالها لماذا لااذهب الى المدرسة كلاخرين يا اماه؟وكانت تجيبه في بساطة ان المدرسة بعيدة وان الطريق مخيف .ولا يقنعه الرد ، فيحني راسه ، ينظر الى النار ولهيبها يعلو فيحس بها تنتقل الى داخله وترسم علامة استفهام كبيرة، فيقترب من امه ويضع راسه في حجرها وينام .
وتذكر انه افاق يوما ، اطل على الحقل من فتحة في الكوخ ، فرأى السماء ملبدة بغيوم ممطرة ، فاحس بالفرحة وقفز من فراشه وخرج..
كانت متكئة على حائط الكوخ ، تنظر الى الطريق في شرود..
- مابك يا اماه ؟
نظرت اليه تاملته ، وفجاة تالق وجهها وخاطبته:
ابوك يوصيك بالارض ، تجوع وتحيى للارض تموت وتبقى الارض ، ابوك الان في الطريق ، عانق فاسه كما يفعل ابوه وخرج الى الارض ينفخ فيها من روحه ، وظهرت السنابل تحمل الخير العميم ، احس بالنشوة فسار في الطرقات البيضاء بين الحقول يخاطب السنابل والاشجار ويسالها عن المدرسة والطريق المخيف.
وتذكر ان الاخبار وصلت وان اقرانه قد خرجوا الى الطريق ..
ودخل عليها الكوخ والبشر يطفح من وجهه وقال لها :
-تعلمت يا اماه، تعلمت ..
- ماذا تعلمت ؟
تعلمت ان اكتب يا اماه
-ماذا تكتب يا بني ؟
تعلمت ان اكتب قصتنا
لمعت عيناها ودق قلبها وسالته:
-وكيف ذلك يابني ؟
اشار بيده الى الطريق وقال :
-ساكتبها غدا في اخر الطريق..
ما زالت تذكر انه جلس الى جانبها ، مسح على ظهر قطته ، نادى دجاجاته ورمى اليها بحفنة من قمح ارضه وقال لها :
-ان في اخر الطريق فرحتنا يا اماه .
قالت :صعب فراقك يابني
قال : لنضح ياماه، لنبن القنطرة ولنبدا العبور
قالت :في نفس الطريق سار ابوك وبطنه ضامر من الجوع
قال: وقد انساه جوعه آلام ابنائه قالت: ومن سيسير بعدك؟
ابتسم لها وقال :اخي وبعده اخي ، ثم نهض ، قبل يدها وراسها وسار وخطواته تبدد كابة السماء، ان اثار خطواته على الطريق ولن تستطيع الرياح مسحها ابدا ولا العواصف ..
وشعرت في وقفتها تلك بعاطفة غريبة وقوة تجرها الى الطريق ، ابنها يتراءى لها ، يلوح وينادي على جبهته اشراقة الصباح وعلى راسه عمامة ابيه ...