راح ينظر بلا مبالاة نحو شاشة التلفاز حيث كانت تلك الممثلة المغمورة تقول جملتها الوحيدة فى هذا العمل الفنى ، اعترف بداخله بأنها جميلة ، الجملة لا الممثلة ، غير ان الكارثة تتكرر : الشخص غير المناسب فى المكان غير المناسب .
غير انه لا يهتم بذلك كثيراً ، لكنه كعادته يبحر فى التفكير حتى يشمل بتفكيره الكون كله دون ان يتحرك من موضعه او يبذل مجهودا ليأتى بشربة ماء هو فى أمس الحاجة اليها . حَوّل نظره عن شاشة التلفاز وراح يشخص ببصره فى السماء المظلمة والتى كانت تبدو كفستان عروس زينته النجوم اللامعة ، وجد نفسه يتأمل بشدة فى هذه النجوم ، وخُيل له أن هذه النجوم هى عبارة عن ثقوب عديدة مثل الثقوب التى تملأ ثياب الشحاذين ، وان تلك الثقوب تكشف عن اليسير من الضوء المبهر الذي يكمن من خلفها .
عاد ليحمل عينيه ثانية داخل الغرفة وبالتحديد نحو أرضية الغرفة حيث كانت السجادة المزركشة ، سرح فى تلك التشكيلات الفنية التى حاكها صانع السجاد ، مثلثات ومربعات ومستطيلات ، راح يتخيل أن هذه الأشكال تُحاك من جديد لتصنع أشكال أخرى متنوعة تداخلت فيها جميع الأُطر، حتى شعر أنه على وشك أن يفقد وعيه فنهض فجأة . شعر بالظمأ فذهب ليأتي بشربة ماء ، وما كان ليفعلها لولا أنه نهض ، فهو اذا جلس خارت كل قواه بشكل غير مسبوق لايصدقه هو نفسه .
سار نحو الثلاجة ومد يده ليفتح بابها ، كانت هناك زجاجتان ممتلئتان بالمياة المثلجة ، احداهما صغيرة والثانية من الحجم المتوسط ، فكر ألف مرة وتردد بشدة : اذا ما كان عليه ان يُمسك بالثانية ليضعها بجانبه فى جلسته أمام التلفاز فلا يحتاج الى ان ينهض مرة اخرى ، ولكنه استبعد هذا بعد أن انتبه الى أن المياه ستفقد درجة برودتها لوجودها بعيداً عن الثلاجة ، وبين ان يُحضر الأولى حتى اذا ما فقدت المياة برودتها كانت الخسارة ليست كبيرة ، انزعج بشدة لأنه لايزال يشعر بالتردد في حياته وخاصة فى مثل هذه الأشياء التافهة ، شعر بغصة فى حلقه ، وشعر بإهانة لذاته ، غير أنه أنصت لصوت العقل بداخله ، وهو الصوت الذي ينقذه دائماً ، كان يذكره بأنه قد قرر منذ زمن أنه اذا شعر بالتردد عليه ان يقوم بالحسم وباختيار اى شيء مهما كانت النتائج كما قرأ في أحد الكتب . وبالفعل اختار ، وكان حاسماً في اختياره ، لا لشيء سوى انه اختار التردد نفسه !! لا عجب فى ذلك فالشيء الوحيد الذي يثق فيه تماما هو : انه لا يثق فى شيء ، والمثير أيضاً أنه يعشق الأمور المعقدة ويفهمها بشكل أسرع ولديه قابلية لفهمها اكثر من مثيلاتها البسيطة . انها مفارقة عجيبة ولكنها للأسف حقيقة على الأقل بالنسبة له .
وقف أمام المرآة ينظر ولا ينظر ، رأى نفسه مشوهاً ، وكأنه لوحة تجريدية لفنان فقد عقله وراح يقسم بأغلظ الإيمان أنها لوحة مبتكرة ، لماذا ؟ سيقول لك حينها تلك الجملة الممطوطة ( لأنها تعبر عن الإنسان المعاصر وتأثره بالصراعات الدائرة حوله والتي تجعله يشعر بغربة داخلية وانعكاس كل هذا على تصوره لشكله حيث يعتقد أنه قد صار مسخاً ) انه شيء يذكرنا قليلاً ب" صورة دوريان جراى" عندما كان الشر بداخله يظهر على اللوحة التي رُسمت له وكان يظهر فيها سنه الحقيقي بينما كان وجهه لم يزل يحتفظ بوسامته . أخشى انه على حق هذه المرة ، وسيهلل كثيرون من أصحاب النظريات الفنية بهذا الكلام ، غير أن الأمر لا يهم .
عاد ليقف في منتصف الغرفة تماماً وكأن شيئاً ما يجذبه الى الأرض ، كان يشعر بهزة قوية تشمل كيانه كله ، فجأة تذكر أن عليه القيام ببعض الأمور قبل أن يخلد الى النوم ، عاد الى غرفته، ونسى طبعا ان يروي ظمأه ، استلقى على الفراش وراح يفكر فيها ، هى التى تجعله عيناها الصافيتان يذهب الى ابعد نقطة فى الوجود فى لمح البصر ، أميرة النساء التى عشقها وتمنى فقط ان ينظر فى وجهها الجميل بقية عمره ، أين هى الآن ، انها ليست ببعيدة عنه ولكنها ليست قريبة أيضاً ، يراها كل يوم تقريباً ويحاول دائماً ان يتقرب اليها وان تدرك هي انه يعشقها ، ولكنه يشعر دائما انها لا تهتم به كما يعتقد ، انه مجرد صديق . تلك الكلمة التى صنعت مأساته . انه يدرك تماما أن الفتيات يحبون محادثته ويعجبون دائما بشخصيته ، ولكن عندما يكون الحديث عن العلاقة الجادة ، تعود كلمة" صديق " لتطفو على السطح ثانية ، ويعود هو معها لحال اسوأ مما سبق .