باب بيتك أبيض ، مثلك يكره الأبواب الزرق .تلك ماكرة ، مراوغة وتتآمر على السماء . باب بيتك مقوّس ، للشمس نصفه والآخر للقمر ؟ أراك تنحني وأنت تلجه وما كنت قطّ محتاجا إلى كلّ ذاك الانحناء . لست سامقا ومع ذلك خلتك مرّة تجمع النجوم . كنت ليلتها أرقبك عن بعد وعيني زرقاء اليمامة وأذني مصغية إلى دبيبك ، خلتني نملة سليمان أحدس خطوك وأسمع نبض حذائك يذرع الأرض . من أين تراك أتيت بهذه الليمونة اليافعة التي غرست على يمين المقبل عليك ؟ أنت لا تطيق اللّون الأصفر فكيف استطاعت هذه إغواءك حتى دلّلتها على هذا النحو فاخضرّت بكلّ هذه الفتنة وأرسلت عبقا أنا أشمّه كلما أغمضت عينيّ أو جاءني النادل بعصيره المثلّج . ولماذا أغلقت كلّ الشبابيك وأرسلت الستائر ،كنت على الأقل تترك بعضها مفتوحا نصف فتحة حتى إذا عبرت مرّة أكون ظفرت بصوتك ينفلت من بين القضبان أو أمسكت بربع ضحكة ترسلها رغم حزنك المكابر . هذا الصباح غائم وثمن الزيت ارتفع وأشغال الأنفاق متواصلة والماء ينقطع بين الحين والحين ونحن لا نفتأ نملأ الأواني وبعضنا يستعير من بعض ونخشى مع انقطاع الماء أن ينقطع الكهرباء ولست أدري لماذا لا ينقطع الماء والهواء إلا في هذه الأحياء ولما ذا لا تنتهي الأشغال أبدا ولماذا تزداد المدينة قذارة ولماذا قرّروا فجأة أن تتوقف أشغال المنتزه الوهميّ ، كنت على الأقل أذهب لأعابث الأيل أو أحاور الببغاء أو أدسّ في منقار البجع قطعة من الكاكي المالح أو أرقب الفيل الحزين وهو يغضّ الطرف عن مغازلة الفيلة أو أشتري من عند البياع بالونة زرقاء أو رمادية كقميصك أو أجلس عند البحيرة تلك التي كنت تقرأ لي على مائها المغبّش أشعار كيتس .
أمس زارتني جارتنا زكية وهي فرحة ببابها الجديد قالت إنها آثرت أن تطليه بالأبيض لأنها كرهت اللون الأزرق ذاك الذي عاشرها طول هذه السنوات التي لم تر فيها إلا ويلا ، ابنها الذي غرق وهو في الطريق إلى إيطاليا ، ابنتها التي عنّست وهي تبحث عن وظيفة محترمة ، زوجها الذي أصابه داء النسيان ، شجرتها التي أصابها العقم بعد أن كانت تهب الإجاّص العظيم الذي حبته بحجم الجمجمة . كدت أقول لها إن باب بيتك أبيض مع أنني لم أره إلا في الحلم وأنه مقوّس كوجه القمر وأنك تسكن في الربع الخالي من روحي وأزورك لماما كلّما برّح بي هذا الحنين الكافر، لكني عدلت عن ذلك فهي لا تعرفك وستسألني أسئلة غريبة عن سنّك ووظيفتك وعن زواجنا لماذا لم يتم ّ وغير مستبعد أن تقترح عليّ طلي بابي أنا الأخرى بالأبيض لأن ذلك فأل خير و أن تأخذني إلى العرّاف الجديد الذي أبلى البلاء الحسن منذ حلّ بالمدينة فكم من وظائف أوجدها للعاطلين وكم من مسروقات أخبر أصحابها بأماكنها وكم من قلوب متباغضة عقد ، حتى الأحزاب المعارضة استفتته في الانتخابات وليس بغريب أن يظفر بعضها بأماكن في المجلس البلدي . أمس استشاط صاحب البيت غضبا عندما طلبت منه أن يطلي الأبواب والنوافذ باللون الأبيض واعتبر طلبي نزوة لا مبرّر لها ثم ّ أضاف أن اللون الأبيض هو غياب المعنى وأنه عرضة للشبهات فقد يصوّر عليه الأطفال صورا غير لا ئقة وقد يكتب عليه المغرضون شعارات مناوئة للعولمة والتطبيع. ثم إن اللون الأبيض نشاز في حي كلّ أبوابه زرقاء . وعندما أخبرته أن اللون الأزرق خبيث وأنه متآمر على السماء نظر إلي شزرا ونصحني ان أزور طبيبا نفسانيا . ولكنه عاد ليذكرني بلطف أن اللّون الأزرق ثوب العمّال ورمز الكدح وعرفت أنا بعد ذلك من جارنا الممرّ ض أنّ صاحب البيت الذي أستأجره كان نقابيا فالحا قبل أن يبني هذا البيت وبعض الدكاكين إثر ضربة حظ ّ في اليناصيب ثم توسعت أرباحه فاتخذ دكانا لبيع الوجبات السريعة وافتتح محلّ تاكسفون فيه آلة ناسخة وعطور ماسخة وفتاة تقرا الكفّ ، أما زوجته فقد فتحت محلّ حلاقة وتجميل وأصبح هو يدعو إلى مذهب غريب لا يبوح به إلا للمقرّبين
لم أعدّ اليوم الغداء اليوم، خرجت أبحث بنفسي عن دهّان بعد أن رفض صاحب البيت طلبي ، أخبرته أنني سأتولّى الأمر وأخصم النفقات من معلوم الكراء فتوعّدني إن أنا فعلت ذلك أن يرفع ضدي قضية وعندما سخرت منه وصفني بصفات مشينة وغير أخلاقية فقرّرت في نفسي أن أرفع شكوى إلى مجلس الأمن.
وعندما تذكّرت ماكان من أمر الحرب على العراق أحجمت عن شكاتي ورفعت الأمر إلى الله.
غرّق العامل الذي استأجرت البيت في البياض ،الأبواب والنوافذ وحتى أشجار الحديقة طلاها إلى النصف قال إن ذلك يطرد عنها الهوام والخنافس ويمنحها نضارة وأنا قلبي غارق في بركة آسنة وشغافه أصابته التجاعيد .
قلت ،سيمرّ ذات يوم و يستمرئ فكرة أني طليت أبوابي باللّون الأبيض وليس غريبا أن يكتب لي في خفية فوق الباب كما يفعل العشاق " باقطف لك بس ها المرّة ها المرة بس " ولكني ذكرت أنه أعمى فأحجمت . ولكن مالذي يجعلني أصدّق فكرة أنه أعمى والأمر لا يعدو أن يكون كابوسا من تلك الكوابيس التي عسكرت في قواعدي الممنوعة وماذا يعني أن يكون ذهني ليلتها صافيا وأنا أذرع ذاك الحلم أو يذرعني .؟ ألم أستفق صباح اليوم التالي فوجدت الدنيا على حالها وفاجئني بائع السمك بعربته الخشبية وأسماكه الفزعة المفتحة العيون والنساء المصطفات على قارعة الدنيا وهنّ يعرضن كلّ أنواع الخبز من قمحه إلى شعيره ومن مبسوطه إلى ملويّه وكتبت الفتاة الخرساء ورقة على قفتها " مسوس ". أعدّت خبزها للمجلوطين ولمن فاضت دماؤهم عن أوعيتها فعجزت أجذاعهم عن حمل أحزانهم ونحن في حقيقة الأمر كلّنا مجلوطون ولكن كلّ حسب دوره وحسب ماتقتضيه قوانين الصدفة أو الحظ ّ ، والمستأجر أتاني زاعقا متوعّدا وقد رأى البياض يغطّي واجهة بيته ويغرّق الأبواب والنوافذ ويذكّرني بالملكية الفردية والتضحيات الجسيمة التي قدّمها حتى يبني بيته هذا الذي أستغلّه أنا ولا أحترم صاحبه مادمت قفزت من اللّون الأبيض إلى اللون الأزرق دون مبرّر فأخبرته أنّ الأمر لا يستدعي كلّ هذا الصّراخ وهذا الا حتجاج لان تغيير الألوان بات أمرا عاديا في عالم كلّ ما فيه متحرّك وذكّرته بأنه مثلا كان نقابيا لجوجا ثمّ بات مستثمرا يشغّل البنت التي تمسك الآلة الناسخة وتبيع العطور الماسخة من أوّل الصباح إلى آخر المساء بمرتب لا يكفي لتغيير واجهة من اللّون الأزرق إلى اللّون الأبيض.
تركني الرّجل ومضى وقد ازرقّ وجهه غضبا وابنه لحق به بعد أن نظر إلي شزرا. وأنا ارتحت كثيرا لمجرّد تفكيري بأن أمرا بات يجمعنا على الأقل فأبواب بيوتنا بيضاء ناصعة لأن الزرقاء خبيثة ماكرة متآمرة على السماء ولمثلك في بالي ردهة بيضاء صافية فسيحة تتفيّأ حسنها كلّما ضاقت بك الأرض أو ازرقّ الوقت .
كم أمضيت من الوقت وأنا أترقب ، لا لا تتصوّر أنني أرقب عودتك لأنك لم تكن هنا أصلا، أو أن تمتدّ جسور الوصل بيننا فلا نهر يمتدّ عليه هذا الجسر، ولكني رجوت أن تمرّ لتقول على الأقلّ، هذا بيتها أبيض مثل بيتي وبيننا لو شاءت الصّدف ينزرع حقل من الفلّ ويعلو برج من القطن الهش ّ تتخلّله أصابعنا فتلتقي عبثا أو مصادفة.
قرّرت أنا اليوم ودون سابق إنذار أن أمرّ ببيتك، قلت أغسل عيني ّ من التعب وحدّثت نفسي بهدايا نفيسة قلت أرى الليمونة الفاقعة أو أظفر بربع ضحكة تنفلت من بين القضبان أو أسمع صوتك معصوب العينين أو في أسوء الحالات أرى الباب وقد ابيضّ، للشمس نصفه والآخر للقمر .خبّأت العنوان بعد أن انتسخته من الظرف وشجعني دفء النهار وبرودة القلب . وعندما وصلت لم يكن عسيرا عليّ التعرّف إلى بيتك .
كان بابك بيتك أزرق ، من تلك الماكرة المراوغة المتآمرة على السماء.