هي أسرة قليلة العدد تسكن في بيت صغير ذي فناء ضيق. أمام البيت تقف شجرة زيتون مسنة وكبيرة الحجم، تتشعب أغصانها صانعة عريشه تمتد ظلالها إلى باب البيت. تقف الشجرة بثقة وخشوع، حتى تظن أنها توشك أن تخر ساجدة في أي وقت إلى معبود كنعاني طواه الزمن.. مغروزة جذورها في أرض فضاء متوسطة المساحة.. وراء الفضاء يمتد سلك الحدود الشائك، الحدود مع إسرائيل.. خلف السلك من الناحية الأخرى تقف دبابة إسرائيلية متحفزة لنثر الموت وبث الذعر كالعادة.. تقف الدبابة شامخة بلا خوف، وبلا خجل.. تنتصب باعتزاز كأنها تقمصت ملك الموت عزرائيل وتنكرت به، دون أن تلبس طاقية الإخفاء.. وبعز تقف في قلب العرب.. لا تهاب طول اللسان ولا تخشى الجعجعة، إلى درجة أنها لا تكترث بالكلام الكبير الطنان الملتهب.
الأب في الخامسة والعشرين، جسده بالكاد ابيض وقامته مسرفة في الطول، وعلى بطنه كومة من الدهن تصنع له كرشا عظيما له مهابة وأبهة طيبة.. الزوجة في الثالثة والعشرين، سمراء، متوسطة القامة، لها جسد متوسط السمنة جميل ومسحوب بتناسق كأنه صب في قالب صنع خصيصا من اجلها، وطري مثل الملبن، جمالها متعطش للحياة بعيدا عن الموت والرعب.. الحياة التي تبحث عنها في كل يوم وفي كل ساعة بلا كلل، وهي دائما على أمل، ضئيل هو ولكنه أمل..
الابنة البكر الوحيدة نسرين، نبت لها في لثتها السفلى سن صغير ينتصب متباهيا ببياضه المرمري الناصع، وبجواره سن آخر برز نصفه ويبذل جهده في محاولته إكمال نموه ببطء، في اللثة العليا سن صغير مزهو بمكانه العالي وقد أتم بروزه، وبجانبه مشروع سن في المستقبل، بالكاد ظهر طرف بياضه ليشق طريقه على مهل دون عناء.. تتدرب نسرين على المشي، تمشي ثلاث خطوات مترنحة، مادة ذراعيها وتبسطهما جانبا في الهواء، كجناحين ترفرف بهما كأنها فرخ طائر صغير يتعلم الطيران، ثم تقع على البلاط .. فتبكي وتسكت وحدها ووحدها تقوم ثانية معتمدة على أي شيء حولها، لتحاول المشي وتقع من جديد.. وأحيانا لا تمشي فتزحف قليلا ثم تتوقف، وتضحك أو تبتسم واضعة إبهامها في فمها تمصه، وتغمغم بلا كلمات، وبلا حروف.. وترسل عبر سنيها ونصف السن ابتسامات حلوات عذبات تخرج من ثغر وردي صغير، فم لا أظن انه يتسع لنصف حبة فراولة صغيرة الحجم.. كل ما في نسرين لونه وردي.. بشرتها التي ورثتها عن جدها لونها وردي.. وفستانها القصير إلى ما فوق الركبة بخمسة قراريط لونه وردي، والمريلة المسدلة على صدرها المبتلة بلعابها على الدوام لونها وردي، الجراب الناعم الشفاف في قدميها لونه وردي، والبكلة التي لها شكل الفيونكة.. حتى صندلها الذي يزمر كلما مشت، فتنظر إليه مبتهجة عندما تدوس به البلاط فيضيء في الظلام أيضا لونه وردي، ولعبتها البلاستيكية وردية أيضا.. ولا بد لك أن تخال لون ضحكتها وردي إذا زغزغتها بلين، أو إذا حملتها ما بين كفيك عاليا إلى ما فوق رأسك.. أو حتى إذا رميتها عاليا في الهواء ولقفتها ثانية كما يفعل أبوها في عصر كل يوم.. أبوها الذي في باله اليوم أن يجهز لها مرجيحة، ويربطها في غصن شجرة الزيتون التي تنتصب فارعة أمام البيت، تنتصب من زمن لا أحد يعرف مداه سوى الله.. الكل جاء إلى هذه الدنيا ليجد الشجرة هنا في مكانها تتضرع إلى أزمنة ولت عميقا في التاريخ وغابت.. هو التاريخ الذي ذهب وأبقى الشجرة وحيدة تتشبث بطينها وغصونها قرب الحدود.. أبقاها الزمن كي تكايد الدبابة وتناكفها.. وتتحداها بإباء.. تتحداها في ظل شيوع منظومة السكوت الكوني الشامل.
الأب في قيلولته وقت العصر ممدود جسده لصق الجدار، يغط ببذخ ويطيل الغطيط كأنما به يتلذذ، تزحف إليه نسرين مستغربة غطيطه وتتوقف قربه مستندة على راحتيها، حتى ينقلب الاستغراب في تقاطيع وجهها إلى نظرات مطمئنة، نظرات بريئات تعلو فم منفرج الشفتين جميل، وتوزع نظراتها ما بين جسد أبيها ووجه أمها المشغولة بتقميع كيلو بامية.. ثم تعتمد على يديها وتتسلق إلى خاصرة أبيها.. وتتشبث بجيب جلبابه بيد، واليد الأخرى تتشبث بشعر رأسه وتشده بلا دراية منها، وهي تحاول أن تحشر جسدها الضئيل بين الجدار وبين كرشه الكبير المكوم على فراش قديم.. فيستيقظ الأب ويأخذها بين يديه وهو يدير جسده، ثم يوقفها على بطنه فيغوص صندلها في كرشه ويزمر.. ويضيء.. ثم يرفعها عاليا بين كفيه الممسكتين بإبطيها، فتسيل ريالتها خيوطا رفيعة شفافة على رقبته السميكة.. فينزلها إلى جانبه ويعتدل محدقا إلى وجهها، وقد صنع على وجهه تكشيرة متعمدة، نتج عنها تجعيده مفلطحة بين حاجبيه الكثين، ويسبها برقة وهدوء بال، فتبكي نسرين.. فيضعها في حضنه ويطبطب على ظهرها ويحسس حتى تسكت.. ثم يمد لها لسانه فتضحك وهي تحاول الإمساك به، فتقلده وتخرج له لسانها الوردي من خلال السنين ونصف السن.. وتضحك بإسراف.
الدبابة ما زالت في مكانها جاثمة بلا تململ، الأب مقتنع أنها واقفة لا يخشى هديرها المبادرات.. ولا يخاف مدفعها أي قرارات قمم.. نهض الأب وعلى وجهه تحوم ابتسامة تحاول الانزواء، كي تفسح المجال لتثاؤب طويل ليطيح بآخر ذرة نوم، النوم الذي ما زال يطمس ملامحه ويغطى وجهه العريض.. توضأ وخطف ركعات العصر.. ثم تناول حبال مصيص في يده الغليظة، وفي اليد الأخرى أمسك بصندوق بلاستيكي صغير، يكفي لأن تقعد فيه نسرين وتمد رجليها بكل بحبحة.. وربط لها المرجيحة في غصن شجرة الزيتون، وأجلسها في الصندوق وأخذ يهزها هزات خفيفة، ليرتفع الصندوق بها ويهبط رائحا جائيا.. على حين راحت نسرين منتشية تضحك وتكركر من الضحك.. وسخسخت.
تركها أبوها في صندوق المرجيحة وذهب إلى الحمام داخل البيت ليفك زنقته.. محا السكون طلقات مدفعية الدبابة، طلقات ربما عشوائية وربما هادفة رجت أركان الفضاء الفسيح.. حزن وجه نسرين وغشيه الخوف، وسكتت ذاهلة وبقي السكوت برهة، ثم أمسكت بحبال المرجيحة لتنزل من الصندوق لكنها لم تستطع.. بكت نسرين، لكن الطلقات توقفت فكفت عن البكاء، وبقي في وجهها عبوس صارم لا اعرف كيف استطاع تحمل ثقله وجهها الصغير كالبرعم وبشرتها البضة.. والدبابة ما زالت في مكانها واقفة بلا وجل.. وبلا حياء.
عاد أزيز الطلقات مرة أخرى.. أصابت إحداها حبل المرجيحة وقطعته.. فسقط الصندوق مرتطما بالأرض ودوى بقوة.. وصرخت نسرين.. وفتحت فمها على آخرة متفحمة وكأن نفسها انقطع، وقد يحسب من يراها أن لها روح كبيرة جدا وخشنة تكافح كي تخرج من بلعومها الضيق.. خرجت أمها من البيت تجري مرعوبة والتقطتها بلهفة، وراحت تحتضنها مبسملة ومتمتمة بآيات من القرآن وقصارى السور مرة ، وتقبلها مرة.. حتى سكتت نسرين وهدأت وانغمست تضحك وتلعب لاهية مرة أخرى، وصارت تطوف حول أمها زاحفة في حين، و تخطو خطوات مترنحة في حين آخر، تطوف حول أمها وتتوقف مستندة إلى ظهرها، وتشد شعرها الطويل الأسود المنسدل على كتفيها آخذ طريقه إلى ما بعد منتصف الظهر بقليل، شدته بكل ما لدى يدها الصغيرة من قوة ضعيفة، أو ضعف قوي، فتتأوه الأم بجد ودلال ثم تأخذها بين يديها وتمددها في حضنها تناغيها..
- اخص عليك.. تشدي شعر ماما يا نسرين.. يلعن عينك.. أنت مش حلوة.
ثم فركت الأم وجهها في بطن نسرين حتى أغرقتها في الضحك الناعم البريء.
الدبابة في مكانها يشق هديرها الصمت ويهز من حولها أطراف الفضاء الواسع.
استبدل الأب حبل المرجيحة المقطوع.. وامسك نسرين من تحت إبطيها ليقعدها في الصندوق.. لكنها صرخت متشنجة وأبت متراجعة إلى صدره وأخذت تتشبث برقبته تشبثها في الحياة.. لا تريد المرجيحة تهابها رغم توقف طلقات الدبابة.
حملها أبوها راجعا بها إلى داخل البيت، وضعها برفق في حضن أمها، وجلس متربعا على الفراش.. حوقل.. بسمل.. نسي فبدل أن يستعيذ بالله من الشيطان ،استعاذ بالله من السلطان الرجيم.. وقرأ المعوذتين.
فك الأب المرجيحة من مكانها.
ربط الأب المرجيحة داخل البيت.. في عمود أفقي يتوسط سقف الفناء الضيق.
حمل الأب نسرين ليضعها في الصندوق.. لكنها صرخت وأخذ جسدها يتملص ويتلوى متمنعة.. وتعلقت برقبته لاصقة صدرها بصدره.. وأخذت تضرب بلا وعي منها ببوز صندلها كرشه المتدلي.
تناولها أبوها من الصندوق.. خرج بها يحملها إلى جدتها كي تلقط لها الخوفة.. لكن قذيفة الدبابة قتلته وغرق في دمه.. سقطت من حضنه نسرين إلى الأرض ودوت.. بكت وصرخت.. كأن صراخها بلا صوت، يطمسه فرقعة القذائف، وهدير الدبابة الذي ما زال يهز أطراف الفضاء ويدكها بلا خوف.. وبلا خجل.