أخذت الطريق المعبد المؤدي إلى مكان العمل.انه طريق طويل بعض الشيء عن الاتجاه الآخر الذي كنت أسلكه عادة.و يسلكه أغلب العاملين معي خاصة الذين يسكنون قريبا من مسكني. كنت قد قررت منذ البارحة أن أغير اتجاه طريقي لأقضي على الروتين الذي استوطنني منذ مدة.أٌقول منذ بدأت العمل بهذه المؤسسة..يوم ولوجي إليها، أخذت مكتبي بين الموظفين الآخرين، و كان أغلبهم تجاوز سن الأربعين و بدت عليهم علامات الكبر و الترهل في الحديث و في العمل حتى مشيتهم تراجعت و لم يعد لها أي لون.قلت لنفسي" يستحيل أن أتحول إلى شبح يقضي وقته مسجونا بين هذه الكراسي و الحيطان." كم ضحكت على أحلامي في هذا الصباح خاصة بعدما أدركت أنني تجاوزت السنوات العشر و أنا أعمل بهذه المؤسسة."لقد هزمني الزمن."أكملت طريقي علني أجد شيئا جديدا لم تألفه عيني من قبل.هناك أجساد تتمايل يمنة و يسرة، و عيون بلهاء تحدق في الفراغ أو ترى أشياء أمامها.صور مألوفة لا جديد. كأنني بنفس الشارع الذي ألفته في السابق.تثاقلت خطواتي و تمنيت أن أظل على هذا المنوال و لا أصل إلى مقر عملي. فجأة،و أنا أتجاوز مجموعة من الأزبال مرمية على حافة الطريق،لفت انتباهي قطيع غنم يحاول راعيه أن يجنبه مخاطر الطريق.فكان في كل مرة يلوح بعصاه في الفضاء و يخرج أصواتا مبهمة لا يفهمها سوى القطيع.و في الخلف، امرأة مسنة، تجر كبشا مشاكسا من بين القطيع و يساعدها طفل صغير لم يتجاوز بعد سن الطفولة.ملحفة بغطاء أبيض و تضع على رأسها رداء من الصوف و لا ترى سوى عينيها الضيقتين.
{sidebar id=1} و آثار الوشم على جبهتها المليئة بالتجاعيد. تصيح بأعلى صوتها الذي ظل متماسكا لم يتأثر بعوامل الزمن"ادفع ...سنصل متأخرين.."الطفل يدفع و يلهث و يسقط و يقوم و يعاود نفس العملية.و هي تصيح و تجر كبشها المشاكس "أسرع..سنجد السوق فارغا.." و صاحب القطيع مسكون بخرافه و باحترام النظام العام خوفا أن يحيد أحدهم عن الجماعة فتكون عاقبته قاسية. و تكررت العملية طيلة الطريق المؤدي إلى السوق. نادت على الراعي طالبة منه أن ينتظرها حتى تدخل معه السوق. لكن صوتها ضاع في الفضاء و اختفى الراعي و خرافه و ظلت هي عنيدة ترفض الاستسلام قالت "طيب، سأصل بدونك.." اقتربت منها و طلبت منها أن تستريح بعض الشيء و تريح الطفل. ابتسمت و أعادت ترتيب لحافها الأبيض و قالت"أين هي الراحة.ليس هناك من راحة سوى راحة القبر". و ضحكت و في نفس الوقت نهرت الطفل و طلبت منه أن يترجل أكثر و إلا سينال علقة ساخنة إن عادت إلى البيت دون أن تبيع الكبش . تبعتها و هي تجر الكبش و تعاند الطريق و أنا أسأل من جديد "ليس هناك في بيتك من يقوم بهذا العمل مكانك؟" لم ترغب في التوقف بل استعملت يديها الاثنتين و أحكمت قبضتها و صاحت "هيه..هيا تحرك" رمقتني بطرف عين كأنها تستهزئ بي أو تضحك مني. قالت " منذ كنت صبية و أنا أقوم ببيع الخراف في السوق . و أنا أكره أن أبقى دون عمل" قلت لكي أفهم شيئا لا يهمني"و من يكون الراعي الذي لم ينتظرك؟ "قالت و هي منحية الرأس " انه ابني.لكنه يرفض أن يسمع كلامي.." لما وصلنا إلى مفترق الطرق. و أثار انتباهي ردها و طيبة خاطرها. قلت بسرعة دون أن أنتبه إلى الطريق الذي سلكته معها و المؤدي إلى السوق" كل هذا العمر و أنت تقومين بهذه المهمة.ألم تملي؟ "قالت للولد الذي يرافقها " أسرع ..لقد وصلنا.." التفتت إلي دون أن تجيب وحيتني و هي تحمل بين ضلوعها كل حماس التائهين و المهمشين . صارت تدك الأرض برجليها الصلبتين و الابتسامة العريضة الجميلة تمتلك كل محياها.عدت إلى عملي دون أن أدرك كيف وصلت ... وجدت مكتبي في أحسن حال ،لا غبار عليه و لا أوراق تالفة .مضى الوقت بسرعة غير معهودة وعند العودة، أخذت طريقي الذي تعودت عليه.