أجزم.. لم يكن لأبى يوماً مثل هذا الصندوق الأسود المرتفع؛ لم يكن في بيتنا مكان يمكن إخفاؤه به.
.... وكان يمد يده ويخرج أشياء متعلقة بطفولتي، لا أعرف، يقيناً، إن كانت مرَّت بسنوات عمري الأولى. أذكر الحُـلل العسكرية الثلاث: جيش، وطيران، وبحرية. أذكرها، وكانت – كلها - تحمل رتبةً لم تتغير، هي "البكباشى"؛ ولا يزال محفوراً في وعيي حزني وحسرتي، لأنها كانت – جميعهـــا - بلا غطاء رأس.. كانت نقود أبى تعجز - في كل مرة- عن شراء الزيِّ كاملاً .. وكنت أقضي أيام العيد أحاول ألاَّ أُبدى النقص الواضح، ليكتمل زهوي بين عيال الشارع وتميزي عنهم. وكنت - عندما يسألونني - أرد عليهم، كما علمني أبى، وبشيـئ من عدم الاكتراث: الضباط العظام لا يضعون غطاءً للرأس في كل الأوقات!.
دعوني أُســـــــلِّم بأن أبى كان يملك مثل هذا الصندوق الأسود الكبير؛ والحقيقة هي أنني متأكد من أن هذا الصندوق، نفسه، كان يخص "الجاويش الشوربجي"، زوج "الست أم محمود"، جارتنا بالبيت الكبير، في ( غيط العنب ). تسللت يوماً إلى حجرة النوم الملحقة بـ "المقعد الكبير".. كان الصندوق مفتوحاً، تفوح منه رائحة الملابس والمهمات المخزونة، وكان به بذلات الشاويش البيضاء الصيفية والسوداء الشتوية، وأحذية غليظة، وبطاطين ذات ملمس خشن؛ كان هدفي أن آخذ غطاء رأس أسود، وأن ألمس المساحة النحاسية المستطيلة اللامعة في حزام الشاويش الشوربجى؛ ولكن الوقت لم يسعفني. كانت أم محمود مستلقية عارية فوق السرير .. لم تنهرني،ولكـن أطلقت ضحكتها الرنانة ذات الذيل، وقالت بلطف: " عايز إيه يا ولد إنت يا عكروت؟! ".
كان صندوق الشاويش محدوداً، ولكن صندوق أبى لا يكف عن إخراج أشياء عجيبة، أكاد لا أصدق أنها كانت لي؛ غير أن أبى يؤكد، ويظل يقول لي: هل تذكر هذه؟ .. أنظر.. هذه أوراق دعاية انتخابية للاتحاد القومي، كنت تجمعها، هل نسيت؟. انظر أيضاً.. أغطية زجاجات المياه الغازية.. " سينالكو ".. " سباتس " .. " بيبسي " .. كنت تلعب بها.. هل نسيت؟!.
ويظل يخرج أشياء من الصندوق، حتى ازدحمت الحجرة بالملابس والأوراق واللعب الخشبية وكرات مصنوعة من الجوارب القديمة.. ويخرج لي من بين فوضى الأشياء نبلة ذات مقبض حديدي، ويقهقه: هذه بعض أسلحتك.. كنت تحملها في 56، وضربت بها عين " على "، ابن المخبر، فكدت تفقأها!.
وأقول - متشككاً- ربما. وأقترب، فألمس المقبض الحديدي، وأجد الأجزاء المطاطية فسدت بتأثير الزمن.. ولكنى أجد قطعة الجلد السوداء، التي كنا نضع فيها مقذوفاتنا من الحصى، لا تزال متسخة بالتراب. وأقول: لابد أنني كنت أصطاد بها العصافير. والحقيقة أنني كنت أشارك الأولاد جولاتهم تحت الأشجار، عند " ترعة المحمودية " .. وكنت أجيد التصويب، ولكنى كنت أطلق حصواتي بعيداً عن العصافير، متعـمِّداً. وكان " على ابن المخبر " يرجع وفى يده خيط مرصَّـــع بعشرات العصافير، مؤكداً تفوقه علىَّ. كنت لا أكترث؛ وكانت البنت، التي لا أذكر اسمها، تقول لي إنه لا يحبك. ولما اختلفنا على من يكون " جمال عبد الناصر "، ومن يكون " إيدن "، كانت هي البنت، نفسها، التي احتكمنا إليها؛ وقالت: على يكون " إيدن "، فهو أحمر الوجه، ويسب الدين كثيراً !؛ وجعلتني أنا جمال عبد الناصر، لأنني ألبس بذلة " ظبَّــاطـــي" في العيد، ولأنني طويل، وفى وجهي مناخير تشبه مناخير " الريِّـــس ". وجهزنا كل شئ للحرب. وأحضرت لمجموعتي أقواساً، صنعتها من خشب الأقفاص المخرَّم، وسرقنا ( الأساتك ) من دواليب أمهاتنا، وجهزنا الأسهم المدببة. ووضع كل ولد خمس قطع متوسطة الحجم من الطوب في جيب جلبابه، واكتفيت أنا بالنبلة، وحشوت جيوبي بذخيرة كافية من الزلط .. وقلت للبنت التي جعلتني جمال عبد الناصر: أنتِ وزيرة. واختبأنا خلف عربات اليد، التي يتركها الباعة الجائلون وباعة الترمس في آخر الشارع. فلما ظهر " على ابن المخبر " وجنوده، أصدرت أمري بالهجوم، فكانت أول إصابة في عين على. صرخ، وذهب إلى أمه التي لفَّـــت ملاءتها حول وسطها، وهرولت إلى أمي، تزعق وتشتم. ولما عاد أبوه من الشغل، أصـــرَّ على سحب أبى إلى نقطة البوليس، لولا تدخُّـل أولاد الحلال. وكنت مختبئاً خلف باب عمارة (تودارى)، خوفاً من غضبة أبى. وهناك جاءتني البنت، وزيرتي، وأعطتني لقمة القاضي؛ وكنت مندهشاً جداً، لأن عظام ذراعها كانت واضحة تماماً؛ وكانت تبدو هشة، وأنا أبوسها، وكانت جميلة فعلاً . ..
في المساء، كان احتفالنا.. حملنا دمية من الأقمشة البالية، ألبسناها قبعة إفرنجية، أعطاها لنا " أبو طوبة "، تاجر الخردة والـروبابيكــيا، وطفنا بها في الشوارع نصيح: " إيدن يا إبن الجزمه .. يا اللي مالكشـي لازمه! ". ثم أحرقناها، وأخذنا ندور حولها، ونكُــحُّ من الدخان. وجلسنا أمام دكان " أم ميلاد " ... كان معي عشرة أولاد والبنت؛ اشتريت لكل واحد ( نبُّـــوت الغفير )، وقلت لأم ميلاد: قيديهم على حساب عمى سيد أحمد ..
كان جدِّي رئيس نقابة عمال شركة المياه، وكان مثقفا، يشترى الجرائد يومياً؛ وكنت أتفرج على الصور، وأقرأ بعض العناوين. ورأيت صورة جمال عبد الناصر يخطب في الجامع الأزهر. وبعد أن انتهى الأولاد من أكل ( نبوت الغفير )، وقفت على الزلطة السوداء الكبيرة، أمام بيت (أبو الشحَّــــات)، فصرت أطول من العيال كثيراً، وأخذ صوتي يعلو، ويداي تصعدان وتهبطان، وأصيح: " سنقاتل.. سنقاتل ! "؛ والأولاد يصفقون؛ حتى خرج أبو الشحات ووراءه كلبه الضخم، فجرينا إلى بيوتنا.
قال أبى: انظر.. هذه صورتي، وفيها الشريطان على ذراعي، وعلى رأسي البيريه الأحمر.. بوليس حربي .. وهذه هي الحقيبة الكبيرة، التي فزت بها في مسابقة ضرب النار، وسلَّـمهــا لي " عبد الحكيم عامر"، بنفسه.. هل تذكر؟. كنت تقرِّب إليك أحد أصحابك في الشارع، وسميته عبد الحكيم! .. ها .. ها .. ها .. !.
وكنت محرجاً، لأن الأشياء بدأت تتمدد، وتحتل أرضية الغرفة وتغطى السرير والطاولة، وكنت واثقاً من أنها غرفة غريبة علىَّ. لم يكن في أي بيت لنا غرفة بهذا النظام، عامرة بالأثاث .. لقد أحلناها إلى فوضى، بهذه الأشياء التي يصرُّ أبى على العودة إلى سحبها من صندوقه..
قال: كان خطك جميلاً.. انظر.. كراسة الإنشاء.. الصف الخامس.. مدرسة الجمعية السنية لتحفيظ القرآن الكريم. اقرأ بنفسك هذا الموضوع: ماذا تريد أن تصبح في المستقبل؟ أليس هذا هو خطك؟. قل لنا ماذا كتبت. مثلى الأعلى في الوطنية الرئيس العظيم جمال عبد الناصر؛ وعندما أكبر، أحب أن أكون رئيساً، مثل جمال عبد الناصر!
وكانت هناك مجموعة من الصور، فى الزي العسكري، وفي الزي المدني؛ وعليها توقيعات كان الأولاد يصدقونني عندما أؤكد لهم - لأنني كنت موقناً- أنه خطَّـهـــا بقلمه خصيصاً من أجلى. صـــورٌ كثيرة، ليست لعبد الناصر فقط، وإنما أيضاً لأم كلثـــوم، وعبد الحليم، وكمال الشناوي، و" المواطن العربي الأوَّل " ( شكري القُـوَّتـــــلــــــــى ) . لســــت أدرى، كيف تمكن أبى من صون كل هذه الأوراق والصور من الصراصير والفئران، التي كانت تجري في شقتنا المعتمة، بالدور الأرضي ؟!. كان أكثر الموجودات تضرراً كتابٌ بهت غلافه، ولم تسلم حوافه من الحشرات؛ التصقت بعض صفحاته واسودَّت بتأثير الرطوبة والفطر .. خطــوط تحت ســــطور عديدة.. ملاحظــات في هوامــــش معظم الصفحات .. والأســـتاذ " متَّــــى"، ناظر ( النيل الإعدادية )، ينقلنا بنفسه، في عربته المتهالكة، لنقابل المدارس الأخرى، في مسابقة " الميثاق الوطنى ".
أعطاني أبى مجموعة من الأوراق، وقال: هذه نصوص أغاني .. لم يكن لدينا جهاز تسجيل.. سجلتها بخطك وقت أن كان عبد الحليم يغنيها في الحفلات. وكنت أسرق المذياع الصغير، وأغلق الباب، وأسهر لأسمع عبد الحليم يغنى: ( قلنا ح نبنى وآدى احنا بنينا السد العالى ).. ( يا حبايب بالسلامة ) .. ( يا جمال يا حبيب الملايين ) .. ( نفوت على الصحرا تخضر ). وكنت تنهرني وتمنعني وتقول: " شوية عوالم يصفقون ويهللون، والناس حالها بالبلا ! ".
وكانت الكلمات تصنع عيداً.. ضوءاً خلاباً، أراه ينتشر أمام عينــيَّ، ويجدل رؤىً ووعوداً قابلةً للتصديق. وتنام أنت مرهقاً، وأســـهر أنا للفرحة في صوت حليم، وأقول كيف اســـتطاع ( صلاح جاهين ) أن ينظر في داخلي، وينقل ؟!.. وأنسى العشاء، شبه الدائم، من الفول المدمس أو البطاطس المسلوقة.
نعم.. كنت قاسياً مثلما كان جدي معك قاسياً. ولم ترحم فرحتي، يوم أن أنقذتُ بناء السد العالي من التعطل. كانوا – في أقصى الجنوب - يسابقون الزمن، ويضعون كل يوم لافتة جديدة، مكتوب عليها عدد الأيام المتبقية. وحين علمت أن ( التوربينات ) الهائلة سوف تمرُّ في ترعة المحمودية، توقعت أن يصير اليوم عيداً، في غيط العنب. كان يجب أن يلغى اليوم الدراسي، ويخرج كل تلاميذ المدارس إلى ضفتي المحمودية، ليكونوا في استقبال معدات السد، وهي تخرج من الميناء، في ( الصنادل ) الضخمة، التي تحملها، إلى النيل، جنوباً إلى أسوان. قلت لك إنني ذهبت لأنه حدثٌ لن يتكرر. أغلقوا الكوبري؛ ومرت الصنادل تجرها القاطرات، وعيناي تمسحان كل ما يمر أمامي. هذه القطع المعدنية الضخمة جزء من أيامي القادمة. لدىَّ أشد إحساس في الوجود بتملكها. وطال الوقت، وانتهى النهار مع تعطل آخر قاطرة. أسرعت إلى موقعها. كان العمال في حيرة، واحتاجوا إلى مسبك، يصنع لهم جزءاً معطوباً في الماكينة. لم يجدوا غيري دليلاً. وعدت، بعد أن اطمأننت إلى دوران القاطرة، وانطلاقها لتلحق بالركب المسافر جنوباً. كنت أدخل البيت معتزاً بمشاركتي في مسئولية البناء، ولكن إهانتك لي، وإصرارك على ضربي بالعصا، هدما بنائي الشامخ.
ولم تكن تصدقني، في كل المرات التي جئت إليكم فيها، وكُـلِّـــىَ بهجة، فقد رأيته!.
في أول يوم لي بالعباسية الثانوية، رأيته في ميدان محطة مصر. فجأة، وقعت عيناي على نافذة سيارة سوداء، مغطاة بالستائر، وكانت تمر قريبة منى جداً، وكانت بطيئة.. وكان جزء من وجهه يطل من فرجة بين ستائر المقعد الخلفي. جزء من الوجه، ولحظات معدودة.. ولكن ذلك كان كافياً جداً لأعرفه، وأبتسم، فيبتسم، ويأتيني من ملامحه الظاهرة ما يشبه الرجاء، ألاَّ أعلن عن وجوده في ذلك الميدان، وسط الباعة الجائلين. وفى عطلة الصيف، عند فيللا ( البرنسيسة )، على ترعة المحمودية، في ( محرم بك )، رأيته، ولم أكن وحدي .. ظللت مدة طويلة منتظراً ( فـريــــال )، ولم أره إلا بعد أن جاءت، فلو كنت رأيته وأنا وحدي، لصدقت - أنا نفسي - أنني ربما تهيأ لي .. خصوصاً وأن الجو هناك هادئ جداً، ولا أحد يمر، والأشجار عالية وكثيفة ومليئة بالعصافير، ولم أكن أنا الذي اخترت المكان، بل (فريـال). كانت تأتى إلى بيتنا، لتحصِّــل لأمها الأقساط الشهرية من ( ســتِّي ) أم سعد. وكنت أذهب إلى ( سينما النيل )، في ( كرموز )، وأشاهد أفلام ليلى مراد، وكنت أقرأ روايات محمد عبد الحليم عبد الله ويوسف السباعي؛ فقلت لفريـال أنا أحبك. وكنت جاداً، وظللت أقول لها ذلك، ومعه كلام آخر كنت أجيد ترتيبه، وكنت أنظر في عينيها وأتكلم؛ وكانت هي تضحك وتقول، إنها لا تفهم هذا الكلام؛ وفكت زرارين في بلوزتها، وأخذت كفى فأسكنتها بين نهديها، وأراحت ظهرها إلى جذع الشجرة. بقيت كفى هناك، وأنا في حيرة، وعيناي تتحركان، في ذعر، بين فتحة البلوزة والطريق. وكانت تشجعني، وتقول لا تخف.. لا تخف. وكنت خائفاً، لا أعرف ماذا أفعل بكفي؛ وكنت عرقاناً، وأفكر في مغادرة المكان، خصوصاً بعد أن سمعت صوت محرك سيارة يقترب. كانت سيارة سوداء أيضاً، ولكن بلا ستائر. وكان هو في المقعد الخلفي، وحده، ينظر في اتجاهنا. لم تكن فريـال ظاهرة. كانت المسافة تزيد عن عشرين متراً، ولكن حدة بصري، في ذلك الوقت، مكنتني من تمييز الابتسامة وتلويحة اليد؛ ولم أخبر أحداً، لأنه كان علىَّ أن أقدم تفسيراً لوجودي في ذلك المكان المهجور..
هل كان غريباً، بعد واقعة البرنسيسة بشهر، أن أراه في احتفالات يوليــــو؟ .. كنت أقف على الرصيف، بين حشد من الناس، في ( طريق الحرية ) – شارع فؤاد سابقاً - وكان في عربة مكشوفة، واقفاً يرد التحية. الطريق واسعة، والفضاء خلفه وفوقه متسع؛ وكان بنيانه العملاق يملأ ذلك الفراغ، بينما السيارة تمشى في الموكب متئدة؛ وكنت أصفق وأهتف له، ككل من حولي. لم يكن فــيَّ شئٌ يميزني عن الصف، أو الصفين من البشر، على الرصيف، ولكنى متأكد من أن رأسه، وهى تدور يميناً ويساراً، طال التفاتها باتجاهــي، كأنما حدثته الذاكرة بأمري، للحظات؛ كأنما كان يتعجب من توالى لقاءاتنا !.
لفت نظري، بين المتاع الذي لفظه الصندوق، كيس أسود كبير. نفس الكيس، بنفس المحتويات، كأنها لم تلبس. إنها البذلة التي نلتها مع عضوية ( منظمة الشباب ). كانت البذلة الوحيدة، التي ارتديتها - خلاف ملابس الطفولة - قبل أن أُضطر إلى تفصيل واحدة في مناسبة تقدمي لخطبة زوجتي. كانت الفرحة عامة في الأسرة، بل إن خالتي وخالي وأحد أعمامي جاءوا إلينا خصيصاً ليروها. وحين ذهبت بها - لأول مرة - إلى المدرسة العباسية، وكنت في الصف الثالث، ظللت طول اليوم الدراسي محل اهتمام كل من في المدرسة، حتى ناظر المدرسة، استدعاني إلى مكتبه ليراني في بذلة المنظمة، وليطلب مني إعداد فقرة ثابتة في إذاعة طابور الصباح، من توجيهات الزعيم. نسيت أن أقول أنها لم تكن بذلة فقط، بل كان معها قميصها الأبيض، وربطة العنق الرمادية، وحذاء أسود برباط، وجوربان. واحد فقط عاب عليها؛ كان منافسي في انتخابات اتحاد طلاب المدرسة؛ نظر إلـيَّ غير مبالٍ، وقال إنها تشبه أردية السعاة في البنوك والفنادق، وهى تحمل شعار المنظمة على صدرها. كنت أعرف أنها الغيرة، وتعجبت.. كيف، وهو المتحمس للفكر الاشتراكي، مثلى، يعيب على البذلة أنها تحمل شعار منظمة الشباب؟.
كنت آكل في معسكرات الشباب، طعاماً يشبه ما يقدم لنا بالبيت، في عيد الأضحى فقط .. أيام صيفية خالية من الضيق والقلق .. إقامة مجانية كاملة. وكانت العودة إلى البيت مؤسفة. وكنا نجلس في صفوف، أمام الرئيس، وقد تدربنا على ( تصفيقة ) موحَّدة، تنطلق بها أكفُّنـــــا المتحمسة، عند وقفات معينة في أحاديثه. الوجوه والأجسام والأردية متشابهة؛ آلاف النقاط، بنفس الدرجة من التوهج أو الانطفاء، أمام عيني الرئيس. لم يكن ثمة أمل في أن تقع عيناه علىّ وحدي .. ولا أعتقد أنني فكرت في ذلك. وفى ( حلوان )، وكانت سنوات قليلة قد مضت.. سنوات من الحزن والتخبط .. لم تكن هناك بذلات .. لم تكن هناك تصفيقات ذات إيقاع .. لم يكن يتحدث إلينا واقفاً، في بدلته ذات المنديل بجيب الصدر؛ كان جالساً، وكان الجو حاراً، وكان يستمع إلينا ويناقشنا. يدير الجلسة بنفسه، وكنت أرفع يدي؛ ولكنه - حتى انفض الاجتماع - لم يدعني للكلام. كان لدىّ – لابد - ما أقولـــــه. كنت أكتب الشعر، وأختلف كثيراً مع أفراد التنظيم. كنت أدرك أنه يسبقهم جميعاً، وأنهم يلهثون خلفه؛ ومعظمهم كيانات ظاهرية، خاوية، تجيد الابتسام والتكتم، ولا تحسن إنشاء جملتين خاليتين من الأخطاء، ولا رصيد لديها إلا فقرات محفوظة من الميثاق، وبيان 30 مارس، وآخر خطبة للرئيس. وكنت أواجههم بذلك، فيخافونني، وينتظرون أقرب فرصة للتخلص من تكبري وادعاءاتي الثقافية. أشياء كثيرة أعددتها جيداً لأعرضها عليه، وعدت بها – خائباً - إلى سريري، دون أن أمر بالمطعم. بفمي مرارة حقيقة، وفي صدري خليط من العتاب عليه، والحزن من أجله. كنت مرهقاً وأريد أن أبكي، وأن أتكلم وأنقل إليه خوفي وحزني. وكان جسدي نائماً؛ ولكنى بقيت متمسكاً بحقي في الجزع من أجله ومن أجلنا. فلما رأيته قلت له:
- " يا ريِّـــــس.. أنا خائف عليك.. أراك كأنما تريد أن تموت ! ".
ضحك وقال: لا تخف يا " رجب ".. وعلى أي حال، من سيبقى بالدنيا؟!.
قلت:
- " يا ريس البناء لم يكتمل.. يخدعونك، والجــدران لن تستمر بعدك!.. الفطرُ كامنٌ؛ وأخشى أن تُقتلع غرساتك عند أول ريح قوية ! ".
قال: " لا تبالغ.. والبركة فيك!.. الآن.. سأنام ! ".
وتمدد، فصرخت: " لا.. لا تفعل.. قم.. سيغلقون عليك التابوت! ".
ولكنه لم يكن ليسمعني .. كان خلف الغطاء الثقيل.
قال أبى: خذ.. هذه آخر ما حفظته من أشيائك!.
وكانت سترة عسكرية مثقَّبــة. عرفتها.. تذكرت حماقتي، حين فكرت في نشرها على حائط من سلك شائك، لتجف. كنت في فصيلة لخدمة الجبهة بالإسماعيلية.. طرحتها على السلك، واستدرت لأنزل إلى الخندق، فمرت رصاصة القنَّــاص الصهيوني أمام وجهي، لتستقر في صدر السترة. لم أمت؛ ولكنه يقول: " إنها كانت نهايتك ! ". وهو يعرف تماماً أنني تخرجت، وصرت جندياً؛ وكابد هو بنفسه، مع أمي، القلق علىَّ، في حصار الجيش الثالث. ولكنه يصر، ويطل داخل الصندوق، الذي تغير شكله، واتسعت فوهته، ويقول: انظر.. لقد أنزلتك بنفسي .. وكانت أشياؤك معك.. فما الذي تريد إثباته؟.
وتقدمت خطوة، لأنظر في قاع الصندوق. كان القاع بعيداً، مغطىً بالتراب الناعم. وفى اللحظات التي استغرقتها إطلالتي إلى ذلك الفراغ شحيح الضوء، كنت متوجساً، وأكاد أحس باليد المتسللة، خلفي، لتدفعني إلى القاع.