ك..ك. كتب
ق..ق.. قراءة
أ..أ..أدب
حـ..حـ.. حساب
ن..ن..نشاط..نحو..نقل
ت..ت..تاريخ..تصريف..تعبير..تفتح..
ع..ع.. عبادات..
ع..ع..عقائد..
ش..ش..شكل..
ل..ل.. لغة..
ج..ج..جغرافية..
ر..ر..رسم
أقول ويعيد الصغار، ثم أعيد ويرددون، وفجأة أظلمت الحجرة التي يدخل أعلب نورها من الباب، كنت وراء الصفوف أتكئ على الجدار الخلفي، أتابع التلاميذ وهو يرددون الكلمات المكتوبة على السبورة السوداء..
وقف يسد الباب بقامته المديدة، بمنكبيه العريضين وجلبابه الأسود الفضفاض، لم بدخل في الوهلة الأولى.. توقف يبحلق بعينيه الواسعتين في أرجاء الحجرة، لم يرني او لم ينتبه لوجودي هنا الى الخلف.. ربما كان ينتظر أن يجد شخصا طويلا عريضا بلباس أنيق، وربطة عنق مزركشة، يبظر اليه، فيحس بالهيبة والاحترام... تقدم قليلا داخل الحجرة وقد أحس بحرية التصرف، بدا لي وكأنه يدخل اصطبلا للبهائم، وتذكرت يوم جاء بي أبي الى المدرسة أول مرة، وقفنا امام مكتب السيد المدير ولما أذن لنا بالدخول، خلع أبي نعليه ووضعهما تحت إبطه، ثم طلب مني أن أفعل مثله، ودخلنا..انتصبنا امام المكتب الخشبي اللامع، وما إن انتبه الينا المدير حتى قام من مكتبه، تقدم من أبي، قدم له كرسيا، وطلب منه باحترام كبير ان يلبس نعليه وأنا كذلك، وسأله لم فعل ذلك.
- قال أبي مجيبا : أليست المدرسة كالمسجد يا سيدي؟
- صدقت، صدقت، رد المدير ، ثم ربت على كتفي وخاطب أبي باسما وعيناه تشعان ببريق جميل : سيكون ابنك ذا شأن في المستقبل إن شاء الله.
تقدم الرجل من الصف القريب من الباب وصاح في الصغار :
- أين هو؟ أين؟ لم يأت؟
ابتسم الأطفال والتفتوا نحوي، ربما هم الان يستغربون لصمتي، ويتساءلون، أين صولاتي؟ أين جولاتي وأنا أدور بين الصفوف صائحا معيرا حين يستعصي عليهم فهم شيء ما.. أكيد أنهم يشمتون بي في هذه اللحظة التي انكمشت فيها الى الخلف كفأر مذعور سدت في وجهه كل أبواب النجاة.. فتشجعت وتقدمت نحوه مخاطبا :
- أهلا بك يا عم، أمن حاجة أقضيها؟
نظر إلي باستغراب كبير، وكأن الأرض انشقت عني فجأة وصاح في وجهي غاضبا ورذاذ لعابه يصلني :
- شغلك أنت؟ شغلك؟ ثم مد يده، ودون أن يلمسني فقدت توازني وسقطت على طاولة، قهقه الصغار، ولما نظرت اليهم حبسوا ضحكاتهم وأحنوا رؤوسهم، نهضت بسرعة وأنا أكاد أنفجر من الغيظ والغضب، كنت أود أن أقفز عليه أسقطه أرضا وأخبطه على وجهه في بطنه وكل جسده، ولكنني كنت أعرف ان ميزان القوة غير متكافئ، ولن أستطيع قتال دب هائج، وخاطبته متجاهلا ما بدر منه بلهجة فيها شيء من التحدي :
- ماذا تريد يا عم؟
صاح بأعلى صوته : أريده هو..هو..أين هو؟
قلت على الفور : أنا هو..هو..أنا المعلم.
نظر الي وقد برزت عيناه وتجعدت جبهته، فتراجع بضع خطوات، وصار ينظر الي من أعلى الى اسفل، ومن أسفل الى أعلى كأنني ديك أعجف يريد ان يحدد له ثمنا، دار نصف دورة واتجه نحو الخارج وهو يدمدم بكلام غير مفهوم.. سألت عنه الصغار، فصاحوا إنه السي بوعزة أبو محجوب الذي يجلس في الطاولة الخلفية من الصف الأوسط.. نظرت اليه، كان الصغير مرعوبا حيث اصفر لونه وارتعدت يداه..
اسرعت الخطى نحو الباب .. كان السي بوعزة قد تجاوزه ونزل الدرجات الثلاثة، ناديته: يا عم بوعزة.. يا عم بوعزة..
دار على عقبيه، نظر الي وتوقف، وسرت اليه وقد قررت في نفسي –لا أعرف لماذا- أن لا أقلق منه ولو صدر منه ما يقلق فعلا.
وقفت امامه، فلوح بيديه في وجهي صائحا :
-ماذا تريد؟ ماذا تريدون مني؟ تعلمون أبناءنا؟ قلنا منذ اليوم الذي حللتم فيه بيننا بصناديقكم –أشار الي حجرة الدرس- أهلا ومرحبا، فزغردت نسوتنا، نط صغارنا، وتصايحوا فرحا .. وبعد مدة كره أبناؤنا طريقكم، وضقنا نحن بطلباتكم، كل عائلة مضطرة لملء محافظ صغارها بما يقارب نصف قنطار من الكنانيش الصغيرة والكبيرة وغيرها من الأدوات ثم سكت قليلا وتابع وقد هدأ بعض الشيء، في ذلك اليوم قيل لنا :
انهم يبنون المدرسة هناك فوق الربوة المطلة على القرية.
كنا ساعتها في الحقول، نجرد مناجلنا على السنابل المثقلة بالحب، وقلنا :
- وما المدرسة؟
قالوا : السبيل الوحيد ليكون أبناؤكم احسن منكم..
فرحنا واستبشرنا خيرا: فأقمنا الحفلات ثلاثة ايام بلياليهاـ أطعمنا فيها المساكين ، واسينا فيها المريض وزوجنا فيها اولادنا وبناتنا..
الا ان شيخنا التهامي الضرير كبير القرية وحكيمها سألنا مساء ذلك اليوم :
- أين بنوها؟
قلنا : على الربوة
قال : لا بأس، لا بأس، أمن تراب؟
قلنا : لا
قال : أمن حجر؟
قلنا : لا
قال : أمن خشب؟
قلنا : لا
فابتسم، كنا جميعنا نعرف ابتسامته ذلك وقال :
- اذهبوا فقد ظهر المعنى..
قلت : كلامك عسل يا عم بوعزة، تعال نجلس، ثم زدني من كلامك..
نظر الي نظرة غريبة كأنه لا يصدق ما سمعت أذناه، ربما كان ينتظر أن أثور، فأسب وأمد يدي بادئا معركة حامية، ولما رأى عكس ما كان يتوقع أحنى رأسه، فاتجهت به نحو جذع شجرة، وجدته أمام حجرة الدرس منذ جئت أول مرة الى هذه المنطقة لا أعرف كيف وصل الى هذا المكان، جلسنا، فقال، وقد اطمأن الي : ألا تعرفون أن ظهور أبنائنا قد تقوست؟ ما بقي لكم الا ان تطلبوا من بين ما تطلبون شراء الحمير لتحمل عن صغارنا تلك الأثقال..
وتصورت مربطا للحمير بساحة المدرسة، وتساءلت في نفسي : كم سيكون عددها إذا كان لكل تلميذ حمار؟ وكيف سيكون منظرها مصطفة او مختلطة، وهي تنهق تارة ويركل بعضها البعض تارة أخرى، أو..
ابتسمت..أحس بأنني لا اتابعه، فوضع يده على كتفي وحركني سائلا
- أتعرفون كم يتطلب ثلاثة أو أربعة أطفال في عائلة واحدة؟
لم ينتظر جوابي وأضاف : اسألوا أنفسكم، قوموا بعملية حسابية واحدة وتعرفون..
قات في نفسي : لو يعرف أن لي أنا كذلك ست إخوة في اخر نقطة على خريطة هذا الوطن الجنوب، وأبا وأما مريضة ليس لهم الا بقعة أرض كرقعة الشطرنج: شبر لبعض الخضر، شبران لبعض الحبوب وشبر رابع لبعض الأعشاب .. ينتظرون مني عند نهاية كل شهر نصف أجرتي الهزيلة..
ثم بلع ريقه وخاطبني سائلا : قل لي ماذا تعلمونهم؟
لم أجبه، فتابع : بضعة حروف وأرقام ليس الا، ان فقيهنا يستطيع ان يقوم بذلك وربما احسن، على ألواح صغيرة من خشب فقط، ثم سكت، اصعد زفرة طويلة وقال : وما فائدة كل ذلك ماداموا سيعودون بعد سنوات من المصاريف والمتاعب بشواهدهم ولحاههم، ليرعوا البهائم من جديد، ويحرثوا الأرض إن تساقط مطر؟ قل لي يا ولدي : ما فائدة كل ذلك؟ وبألم عميق قال وقد انقبض وجهه وامتقع لونه :
- ظهورنا يا ولدي تقوست بالعمل مقابل سنتيمات معدودة ويبدو ان ظهور أبنائنا ستتقوس أكثر، ثم نهض،نظر الي وقد اغرورقت عيناه وسار يردد : ستتقوس أكثر ..ستتق.. بقيت جالسا على الجذع اليابس، أتابعه وهو يخطو متثاقلا وكلماته الأخيرة ترن في أذني ..
نبح كلب مبحوح، نهق حمار مر غير بعيد .. ولم أعد أسمع بعد ذلك شيئا غير كلمات السي بوعزة الأخيرة تتردد في أذني بسرعة شديدة، شعرت لحظتها بأنني في دوامة أدور حول القسم، أدور وأدور، ثم رأيتني أتدحرج والجذع الضخم يتدحرج ورائي، سيسحقني إذا وصلني، زدت في سرعة تدحرجي علني أبتعد عنه، أو يتبع اتجاها آخر، ورأيته ينشطر نصفين وتخرج منه عقرب صفراء في حجم دجاجة، نظرت إلي، رفعت رجلها الخلفية وتبولت ثم تحركت في اتجاه باب القسم وقد صارت في حجم كلب، خرج الصغار وفروا في كل الاتجاهات تتناثر خلفهم الكتب والأدوات.. ثم سمعت فحيحا وأصواتا غريبة..
العقرب تتقدم من الباب وقد صارت في حجم بغل، تتزلزل الأرض تحت قوائمها وينسحق الحجر.. ورأيتها تحرك شوكتها التي تلمع كسيف صقيل، وتدخل..
انتظرت سماع تكسير المقاعد والطاولات.. فلم أسمع شيئا، انتظرت خروجها منه فلم تخرج، انتظرت وانتظرت، ثم قررت أن أتحرك.. وسرت نحو القسم كسلحفاة متعبة.. مددت رأسي من الباب، الصغار جالسون، هادئون وكأن شيئا لم يقع، ودخلت، نظرت في كل الزوايا وتحت المقاعد.. لاشيء .. لاشيء، وسألت:
-أين هي؟ أين هي؟
أشاروا إلى السبورة السوداء، فرأيت رسما كبيرا لعقرب، تحيط بها حروف كثيرة تبتدأ بالواو وتنتهي بالباء والياء والهاء.
- قلت : من فعل هذا من؟ وأشرت إلى الرسم.
ضحك الصغار ثم بكوا وتساقطت دموعهم، وصاحوا بصوت واحد: العقرب، العقرب يا أستاذ..
- صدقت، صدقت، رد المدير ، ثم ربت على كتفي وخاطب أبي باسما وعيناه تشعان ببريق جميل : سيكون ابنك ذا شأن في المستقبل إن شاء الله.
تقدم الرجل من الصف القريب من الباب وصاح في الصغار :
- أين هو؟ أين؟ لم يأت؟
ابتسم الأطفال والتفتوا نحوي، ربما هم الان يستغربون لصمتي، ويتساءلون، أين صولاتي؟ أين جولاتي وأنا أدور بين الصفوف صائحا معيرا حين يستعصي عليهم فهم شيء ما.. أكيد أنهم يشمتون بي في هذه اللحظة التي انكمشت فيها الى الخلف كفأر مذعور سدت في وجهه كل أبواب النجاة.. فتشجعت وتقدمت نحوه مخاطبا :
- أهلا بك يا عم، أمن حاجة أقضيها؟
نظر إلي باستغراب كبير، وكأن الأرض انشقت عني فجأة وصاح في وجهي غاضبا ورذاذ لعابه يصلني :
- شغلك أنت؟ شغلك؟ ثم مد يده، ودون أن يلمسني فقدت توازني وسقطت على طاولة، قهقه الصغار، ولما نظرت اليهم حبسوا ضحكاتهم وأحنوا رؤوسهم، نهضت بسرعة وأنا أكاد أنفجر من الغيظ والغضب، كنت أود أن أقفز عليه أسقطه أرضا وأخبطه على وجهه في بطنه وكل جسده، ولكنني كنت أعرف ان ميزان القوة غير متكافئ، ولن أستطيع قتال دب هائج، وخاطبته متجاهلا ما بدر منه بلهجة فيها شيء من التحدي :
- ماذا تريد يا عم؟
صاح بأعلى صوته : أريده هو..هو..أين هو؟
قلت على الفور : أنا هو..هو..أنا المعلم.
نظر الي وقد برزت عيناه وتجعدت جبهته، فتراجع بضع خطوات، وصار ينظر الي من أعلى الى اسفل، ومن أسفل الى أعلى كأنني ديك أعجف يريد ان يحدد له ثمنا، دار نصف دورة واتجه نحو الخارج وهو يدمدم بكلام غير مفهوم.. سألت عنه الصغار، فصاحوا إنه السي بوعزة أبو محجوب الذي يجلس في الطاولة الخلفية من الصف الأوسط.. نظرت اليه، كان الصغير مرعوبا حيث اصفر لونه وارتعدت يداه..
اسرعت الخطى نحو الباب .. كان السي بوعزة قد تجاوزه ونزل الدرجات الثلاثة، ناديته: يا عم بوعزة.. يا عم بوعزة..
دار على عقبيه، نظر الي وتوقف، وسرت اليه وقد قررت في نفسي –لا أعرف لماذا- أن لا أقلق منه ولو صدر منه ما يقلق فعلا.
وقفت امامه، فلوح بيديه في وجهي صائحا :
-ماذا تريد؟ ماذا تريدون مني؟ تعلمون أبناءنا؟ قلنا منذ اليوم الذي حللتم فيه بيننا بصناديقكم –أشار الي حجرة الدرس- أهلا ومرحبا، فزغردت نسوتنا، نط صغارنا، وتصايحوا فرحا .. وبعد مدة كره أبناؤنا طريقكم، وضقنا نحن بطلباتكم، كل عائلة مضطرة لملء محافظ صغارها بما يقارب نصف قنطار من الكنانيش الصغيرة والكبيرة وغيرها من الأدوات ثم سكت قليلا وتابع وقد هدأ بعض الشيء، في ذلك اليوم قيل لنا :
انهم يبنون المدرسة هناك فوق الربوة المطلة على القرية.
كنا ساعتها في الحقول، نجرد مناجلنا على السنابل المثقلة بالحب، وقلنا :
- وما المدرسة؟
قالوا : السبيل الوحيد ليكون أبناؤكم احسن منكم..
فرحنا واستبشرنا خيرا: فأقمنا الحفلات ثلاثة ايام بلياليهاـ أطعمنا فيها المساكين ، واسينا فيها المريض وزوجنا فيها اولادنا وبناتنا..
الا ان شيخنا التهامي الضرير كبير القرية وحكيمها سألنا مساء ذلك اليوم :
- أين بنوها؟
قلنا : على الربوة
قال : لا بأس، لا بأس، أمن تراب؟
قلنا : لا
قال : أمن حجر؟
قلنا : لا
قال : أمن خشب؟
قلنا : لا
فابتسم، كنا جميعنا نعرف ابتسامته ذلك وقال :
- اذهبوا فقد ظهر المعنى..
قلت : كلامك عسل يا عم بوعزة، تعال نجلس، ثم زدني من كلامك..
نظر الي نظرة غريبة كأنه لا يصدق ما سمعت أذناه، ربما كان ينتظر أن أثور، فأسب وأمد يدي بادئا معركة حامية، ولما رأى عكس ما كان يتوقع أحنى رأسه، فاتجهت به نحو جذع شجرة، وجدته أمام حجرة الدرس منذ جئت أول مرة الى هذه المنطقة لا أعرف كيف وصل الى هذا المكان، جلسنا، فقال، وقد اطمأن الي : ألا تعرفون أن ظهور أبنائنا قد تقوست؟ ما بقي لكم الا ان تطلبوا من بين ما تطلبون شراء الحمير لتحمل عن صغارنا تلك الأثقال..
وتصورت مربطا للحمير بساحة المدرسة، وتساءلت في نفسي : كم سيكون عددها إذا كان لكل تلميذ حمار؟ وكيف سيكون منظرها مصطفة او مختلطة، وهي تنهق تارة ويركل بعضها البعض تارة أخرى، أو..
ابتسمت..أحس بأنني لا اتابعه، فوضع يده على كتفي وحركني سائلا
- أتعرفون كم يتطلب ثلاثة أو أربعة أطفال في عائلة واحدة؟
لم ينتظر جوابي وأضاف : اسألوا أنفسكم، قوموا بعملية حسابية واحدة وتعرفون..
قات في نفسي : لو يعرف أن لي أنا كذلك ست إخوة في اخر نقطة على خريطة هذا الوطن الجنوب، وأبا وأما مريضة ليس لهم الا بقعة أرض كرقعة الشطرنج: شبر لبعض الخضر، شبران لبعض الحبوب وشبر رابع لبعض الأعشاب .. ينتظرون مني عند نهاية كل شهر نصف أجرتي الهزيلة..
ثم بلع ريقه وخاطبني سائلا : قل لي ماذا تعلمونهم؟
لم أجبه، فتابع : بضعة حروف وأرقام ليس الا، ان فقيهنا يستطيع ان يقوم بذلك وربما احسن، على ألواح صغيرة من خشب فقط، ثم سكت، اصعد زفرة طويلة وقال : وما فائدة كل ذلك ماداموا سيعودون بعد سنوات من المصاريف والمتاعب بشواهدهم ولحاههم، ليرعوا البهائم من جديد، ويحرثوا الأرض إن تساقط مطر؟ قل لي يا ولدي : ما فائدة كل ذلك؟ وبألم عميق قال وقد انقبض وجهه وامتقع لونه :
- ظهورنا يا ولدي تقوست بالعمل مقابل سنتيمات معدودة ويبدو ان ظهور أبنائنا ستتقوس أكثر، ثم نهض،نظر الي وقد اغرورقت عيناه وسار يردد : ستتقوس أكثر ..ستتق.. بقيت جالسا على الجذع اليابس، أتابعه وهو يخطو متثاقلا وكلماته الأخيرة ترن في أذني ..
نبح كلب مبحوح، نهق حمار مر غير بعيد .. ولم أعد أسمع بعد ذلك شيئا غير كلمات السي بوعزة الأخيرة تتردد في أذني بسرعة شديدة، شعرت لحظتها بأنني في دوامة أدور حول القسم، أدور وأدور، ثم رأيتني أتدحرج والجذع الضخم يتدحرج ورائي، سيسحقني إذا وصلني، زدت في سرعة تدحرجي علني أبتعد عنه، أو يتبع اتجاها آخر، ورأيته ينشطر نصفين وتخرج منه عقرب صفراء في حجم دجاجة، نظرت إلي، رفعت رجلها الخلفية وتبولت ثم تحركت في اتجاه باب القسم وقد صارت في حجم كلب، خرج الصغار وفروا في كل الاتجاهات تتناثر خلفهم الكتب والأدوات.. ثم سمعت فحيحا وأصواتا غريبة..
العقرب تتقدم من الباب وقد صارت في حجم بغل، تتزلزل الأرض تحت قوائمها وينسحق الحجر.. ورأيتها تحرك شوكتها التي تلمع كسيف صقيل، وتدخل..
انتظرت سماع تكسير المقاعد والطاولات.. فلم أسمع شيئا، انتظرت خروجها منه فلم تخرج، انتظرت وانتظرت، ثم قررت أن أتحرك.. وسرت نحو القسم كسلحفاة متعبة.. مددت رأسي من الباب، الصغار جالسون، هادئون وكأن شيئا لم يقع، ودخلت، نظرت في كل الزوايا وتحت المقاعد.. لاشيء .. لاشيء، وسألت:
-أين هي؟ أين هي؟
أشاروا إلى السبورة السوداء، فرأيت رسما كبيرا لعقرب، تحيط بها حروف كثيرة تبتدأ بالواو وتنتهي بالباء والياء والهاء.
- قلت : من فعل هذا من؟ وأشرت إلى الرسم.
ضحك الصغار ثم بكوا وتساقطت دموعهم، وصاحوا بصوت واحد: العقرب، العقرب يا أستاذ..