ارتضينا، مجموعة الزملاء والأصدقاء القدامى، أن نلتقي دورياً، مساء الجمعتين الأولى والثالثة من كل شهر، في مقر نقابتنا .. إخترناه كنوع من التأكيد على زمالتنا القديمة والطويلة، كخريجين في ذات الكلية؛ ودام ذلك لسنوات .. نتوافد إلى مكان انعقاد اللقاء، في حديقة النقابة، صيفاً، وداخل إحدى قاعاتها، شــتاءً؛ لا نفاجأ بأن تتغيب وجوه، ما دامت تعود فتواظب على اللقاء في المرات القادمة؛ ولكن المفاجأة الحقيقية تكون عندما يطل علينا وجه غاب لسنوات طويلة، أو كان – منذ البداية – خارج مجال الحلقة؛ ولكنها مفاجآت قليلة. وبمرور الوقت، بدأ التململ يدب بيننا. استهلكنا كل ما يمكن أن نتكلم فيه عن قضايا المعاش وتدخلات الحكومة في انتخابات النقابات، وغيرها من قضايا الوطن. واكتشفنا أننا نكرر كلام الصحف وبرامج الإذاعة والفضائيات، محلية وغير محلية؛ ونبدو ونحن نتكلم كأننا نقول كلاماً مختلفاً؛ ولكن أي مدقق من خارج الحلقة يمكنه بسهولة أن يلاحظ أن كلاً منا يعيد إنتاج نفس الأفكار، بكلمات مختلفة أحياناً، وبنبرات صوت مغايرة، وبدرجات مختلفة من الانفعال. كما أنه بمستطاع أي مراقب لجلساتنا أن يلاحظ تتعدد ألوان توجهاتنا السياسية؛ وهذا أمر لا غرابة فيه، فأغلب رواد اللقاء من أجيال متقاربة، ولدت عند النكبة – 48 – ونشأت مع الثورة، ودخلت الجامعة في سنوات النكسة، ثم شاركت في حرب أكتوبر 73، وعايشت التحولات الدرامية لأحوال المجتمع في سنوات حكم السادات، وبينهم عدد كبير نجح في الإفلات من وطأة هذه التحولات، فسافر للخارج ليجمع المال (إن كان ذلك يعدُّ نجاحاً)، وبينهم أيضا من لم يجد الفرصة، أو رضى بالبقاء، مشتغلا بالعلم أو في الصناعة، وتحقيق درجات مختلفة من النجاح. وفي خلال ذلك، كان أمراً طبيعياً، من وجهة نظري أنا على الأقل، أن تحدث انقلابات في المواقف السياسية، وأن تتلون التوجهات التي كانت قد خرجت كلها من رحم واحد.
فكيف، إذن، أقدم لهم ما وعدتهم به، دون أن أمس حفيظات البعض، وأثير الحساسيات عند البعض الآخر؟.
كان اقتراحي أن أعد لهم عرضا للشرائح، باستخدام الكومبيوتر، نسترجع فيه ذكرياتنا المشتركة من خلال عدد من الصور القديمة أحتفظ بها في أرشيفي. خفت، في البداية، أن يخرج عرضي فقيرا ضعيفاً، فأغلب ما لديَّ من صور غير ملوَّن، فلم تكن الأفلام الملوَّنَة في نطاق قدراتنا المحدودة، بالنصف الثاني من ستينيات القرن المنقضي، وكان التصوير بالأبيض والأسود هو السائد، فأمسكت بهذه الفكرة، وأعطيت للعرض عنواناً هو : زمن الأبيض والأسود؛ فكأنني أرد، فيما يشبه الاعتذار، لمن قد يسأل عن الألوان؛ وكأنني أُضَـمِّــنُ العنوان بداية للعرض، فقد كنا – في تلك السنوات غير البعيدة - نعيش، فعلاً، زمناً لا درجات رمادية فيه. وأوردت تحت العنوان كلمات قليلة :
" كـان الزمن صعبـا، ولكنـه كان جميـلاً ..
عشــناه بالطـول والعـرض ..
بالرغـم من وطـأة أحوال الوطن الخارج من هزيمة عسكرية ..
و بالرغـم من ضيـق ذات اليد .. كلنـا قـادم من أســر ( مســـتورة ) .. "
نجحت الكلمات في أن تشد انتباههم، فران صمت عميق، وقد تعلقت عيونهم بلوحة العرض. لم يعلق أحد. اكتفوا بمعايشة، أو ربما مكابدة، النقلة المفاجئة إلى الوراء، طاوين ما يقرب من أربعين سنة من أعمارهم. تريثت لحظات قبل أن أنتقل إلى الشريحة الثانية .. صورة مشهورة لجمال عبد الناصر، بالأبيض والأسود، ويكاد وجهه يملأ كل مساحتها، وكانت ملامحه مليئة بالانفعالات وهو يتحدث، وقد اصطبغ شعر جانبي الرأس بالأبيض. وضعت على الصورة عنوان : الزعيم. وجاء أول رد فعل : " يا ربي ! ". لم أتوقف كثيرا لأعرف من قالها، وتعمدت أن أسرع إلى الشريحة التالية. كانت كلمات قليلة، قصدت بها أن أخفف من ما قد تبعثه الصورة من انفعالات متباينة. قرأت الكلمات التي تضمنتها الشريحة :
" إنه الزعيم ..
قـد نختلــف الآن حوله ..
لكننـا وقتهـا، كنــا – جميعـا – حوله، نحبه ونُجـِـلَّـه ..
لنـدع مـن لا يزالون يحبونه يستمرون في حبه ..
وليحاول من تحـوَّل عنـه ألاَّ يكـرهــه .. أكثــر ! ".
اخترت الكلمات متأثراً بالمشادة التي جرت في لقاء سابق، غير بعيد، حين تطرق الحديث إلى احتفال بتأميم قناة السويس، وانبرى أحدنا، وهو عضو مؤسس بالحزب الناصري، يتحدث عن عبقرية ذلك الفعل التاريخي. كان صوته مرتفعا، وكان انفعاله واضحاً، دون مبرر. جاء التصدى له من أحد أصدقائه المقربين جداً، وكان الاثنان عضوين بالتنظيم الطليعي إبان العهد الناصري، ولكن الأخير غير طريقه 180 درجة، وتخلى عن ناصريته، بل أصبح خصماً لا يطيق أي ذكر لعبد الناصر. قال إن القناة كانت سترجع لنا بانتهاء مدة الامتياز، بعد سنوات قليلة من تاريخ التأميم، الذي يراه مغامرة سياسية غير محسوبة، أو "حمقاء"، وهي الكلمة التي أثارت حفيظة كل الناصريين في الجلسة، فتداخلت الأصوات، وارتفعت حدة نغمة الغضب من كل الاتجاهات. ومال عليَّ زميل، يعمل أستاذا للفيزياء في كلية العلوم، وحدثني بصوت منخفض، قال : أعجب لســلاَّم .. كان من الممكن أن يصبح الآن وزيراً إن تطورت الأمور وأفلتوا من السادات، على عكس ما حدث في مايو 71 !. واكتفيت بالابتسام.
مرة أخرى، لم ينتج رد فعل للكلمات التي أتيتُ بها على الشريحة، فهل يعني ذلك اتفاقاً عليها ؟. قلت، حسناً؛ ها هي الشريحة الخامسة، وبها صورة لصديق في ملابس الجوَّالة، وعنوانها : الجوَّال عبد المتعال. جاءت في وقتها، وأثارت بعض الأحاسيس الرطبة، وتتابعت التعليقات عليها. يرجع تاريخ الصورة إلى العام 1968، وهي لفكري عبد المتعال في سترة الجوَّال التي تميزها ربطة العنق الخاصة بالجوالين. لم يكن يظهر بالكلية، صيفاً أو شتاءً، في غير أردية الجوَّال، حتى ظننا أنه معوز، وتبين لنا أن أباه من كبار تجار المواشي في محافظة البحيرة، غير أن عبد المتعال كان مهووسا بالجوَّالة، حتى أنه لم يكن يخلع لباسها. قال زميل : إنه يشرف في شركته على فريق الجوَّالة، وينظم المعسكرات، بالرغم من أنه رئيس قطاع قديم. وحسبت أن زميلاً آخر يمزح وهو يؤكد على أن فكري يصر على مصافحة الآخرين باليد اليسرى، كما يفعل الجوالة والكشّافة، فهي اليد الأقرب إلى القلب. لم يكن أحد ينازعه أمانة لجنة الجوالة، وكان له مريدوه وتلاميذه، ولهم ألقاب ورتب في نظام الجوالة. كان زعيماً حقيقياً في حقله. كان ثمة أكثر من شخصية فى دوائر النشاط المختلفة لها حضور الزعامة. تساءلتُ، في تعليق أخير على الصورة : لماذا اختفت قامات الزعامات في أيامنا هذه ؟. رد زميل : هي موجودة، ولكن لا أحد يراها .. ليست في الصورة، فالصورة مشغولة بسحن من نوع آخر !.
لم يكن فكري عبد المتعال حاضراً العرض، كما أنه نادر التردد على لقاءاتنا؛ ولكن صاحب الصورة التالية، يسري مسعود، كان جالساً بيننا، وهو من الحريصين على ترابط المجموعة، ويتولي الاتصالات لتذكير الرفاق بالمواعيد. كانت صورة لنصفه الأعلى مائلاً، كأنه يحاول الخروج من صفحة الصور؛ وهو في كامل هندامه، كما اعتدناه دائماً، بالبذلة ورباط العنق. وضعت عنواناً للصورة : شابٌ أنيق !. كان هو ذاته أول المعلقين، قال : يا ولد !. قال سمير شحاته : يسري هو الذي عرَّفني على أنواع أربطة العنق، كان يمتلك مجموعة متنوعة منها. وقال الدكتور على سويلم : كنت معيداً، ولم أكن أملك سوى بذلة واحدة، بلا ربطة عنق، وكنت أحقد عليه، وأحياناً لم أكن أهتم بالرد على أسئلته. رد سامي الحناوي : هذا اعتراف خطير. قال الدكتور سويلم : أحقاد طبقية. عقبتُ : أنا أيضاً كنت لا أطيق مشاركته لقاءً، حتى رأيته مصادفةً في دكان أبيه بشارع محرم بك .. دكان خردوات صغير .. فتعجبتُ، وأدركتُ أن أناقة يسري جزء من شخصيته، وليست مظهر رفاهية أو أرستقراطية. قلت أيضاً، كانت ملابسنا، بعامة، تعكس أحوال أسرنا المتواضعة. وكنت أوشك على الاعتراف بأن أول بذلة ارتديتها تسلمتها من منظمة الشباب الاشتراكي، ومعها قميص أبيض، وكرافتة زرقاء، وحذاء أسود برباط. لم أذهب بها إلى الكلية سوى مرة واحدة، فأثرت الدهشة بين الأولاد والبنات؛ وسألتني واحدة : أين "البلوفر" الأحمر الذي تتمسك به طول الوقت ؟ .. هل تخليت عن شيوعيتك ؟. لم تكن تعرف أن أبي هو الذي اشترى لي البلوفر، ولم تكن الأحوال تسمح لي برفاهية مراجعته فيما اختار، فكنت مرغماً على ارتدائه طول الشتاء، لأنني لم أكن أملك غيره. غير أن أشد ما آلمني وجعلني أنبذ بذلة منظمة الشباب هو تعليق من زميل كان يأتي إلى الكلية راكباً دراجة بخارية، و كان يناصبني العداء ( لله في لله ! )، قال : إنها تشبه بذلة السعاة في البنوك !. تراجعت عن هذا الاعتراف الذي أحتفظ به في ركن خافت الضوء من ذاكرتي، وإن كنت أعتقد أن ذات الخواطر دارت بأذهان بعض الحاضرين.
كانت الصورة التالية لأحمد على، وتحتها تعليق : مدرسة في التهريج !. وفوجئت بزميل يترحَّــمُ عليه. كنت أحبه، وتمنيت وأنا أعد العرض أن تتاح له فرصة لمشاهدته لأرى ردود أفعاله. تغلبت على موجة الحزن العابرة. كان كثير من الموجودين على علم بوفاته. قال أحدهم : كان يحمل قاذف لهب في موجات الاجتياح الأولى لخط بارليف في 73، ومات غرقاً، أثناء نومه، في سيول "قنا" !. وحركت المؤشر لتظهر صورة جديدة لثلاثة أشخاص، لم ينجح كثير من المشاهدين في التعرف عليهم. كان اثنان منهم موجودين بين الحاضرين. تبدلت الملامح كثيراً .. الوجوه الشاحبة امتلأت وتوردت، والأجسام الرشيقة ترهلت، واختلف لون الشعر .. إبيضَّ أو زال معظمه. كانت الصورة في باحة داخلية بمبنى الكلية العريق في محرم بك؛ وكانت تحمل عنوان : رئيسان في صورة واحدة. الأول، سعيد حمدي، رئيس اتحاد طلاب الكلية في 1970، والآخر هو سالم عدوي، الذي تسلم منه الرئاسة في 1971. لم تكن رئاسة الاتحاد وأمانات أهم لجانه تخرج من دائرة الطلاب الأعضاء في منظمة الشباب والتنظيم الطليعي. وقد تبدلت أحوال الاثنين، فأما سعيد حمدي، فقد اختار الهجرة عبر المحيط الأطلنطي، واستقر بكندا، وتجنس بجنسيتها، وهو صاحب تجارة واسعة، ويقضي الصيف بيننا؛ وأما الثاني، عدوي، فقد كفر بكل ما كان يعتنقه حتى منتصف السبعينيات، وأصبح رجل أعمال متعدد النشاطات، ولا يحاول التجمل وهو يصب لعناته على أيام عبد الناصر.
فاجأتني أخبار الوفيات أكثر من مرة بعد ذلك. ظهرت صورة لزميل اسمه فتحي، عرفنا أنه مات في انفجار مرجل بشركة مواد الصباغة التي كان يعمل بها؛ ولما رأينا أحمد سيد القطري في إحدى الصور لرحلة بحدائق المنتزه، قالوا إنه استشهد في حرب أكتوبر؛ أما حامد النصري، وكان ينجح بتفوق، وعين معيداً بالكلية فور تخرجه، فقد اغتاله سرطان الدم.
وانتبهت إلى سحابة معتمة من الحزن تغطي الحاضرين، فأخذت أسرع من تتابع الصور؛ ثم جاءت متتالية من صور لرحلات ومعسكرات عمل أثارت جانباً من عواطف لم تستيقظ منذ سنوات طويلة .. قصص حب مخفقة، وأخرى توجت بالارتباط؛ وكانت أسماء البنات تحجب، إلا في حكاية صبري عليش وكاميليا، التي دامت طوال سنوات الدراسة، وفور أن تخرجا تخلت كاميليا عن عليش الذي اختفى تماماً، ولا يعرف عنه أحد شيئاً، كأن الأرض انشقت وابتلعته.
وكنت أحسب أن الصور الأخيرة لطفت جو اللقاء بعد أن اقتحمته الشجون ومسحات من الحزن، غير أننا التفتنا إلى مصدر بكاء شديد انطلق فجأة. كان سويدان يبكي بصوت عال، وجسمه ينتفض، وكانت الدموع تنهمر على وجهه وتبلل شعر لحيته الأبيض الكثيف. كان ممن يميلون إلى الصمت، ولا نكاد نشعر به في أي لقاء؛ ربما لأنه غاب عنَّا طويلاً، فقد قضى ربع قرن بالسعودية، لم يزر مصر خلاله مرة واحدة، وكان يشتغل مدرباً للكرة الطائرة، وهو المتخصص بالجيولوجيا. وكأن كل الحاضرين أجمعوا على أن يتركوه ينهي موجة بكائه الحارة، فلم يحاول أحد أن يهون عليه. فلما انتهى، راح يجفف وجهه المبلل بالدموع والعرق الذي سال من شدة الانفعال. وعاد إلى اعتدالته في جلسته، دون كلمة منه. وأشار القائم على شئون اللقاءات إلى عامل البوفيه، فجاء إليه ليحاسبه؛ وكان في ذلك إيذان بانتهاء الجلسة، فبدأ الأصدقاء يتسربون، على غير العادة، في غير جلبة.