تمايل جسده على السرير .يزداد مذاق النوم حلاوة في أيام البرد القارس.هكذا فكر،قبل أن يرن جرس المنبه ،على يسار وسادته، للمرة الخامسة. وقف فجأة متعصبا . مفعول سهرة البارحة الخمرية ، في أفخم صالونات المدينة ، ما يزال ساريا في دواليب دمه . سار حافيا تجاه المرحاض . وجد هناك ماءا دافئا جاهزا .غسل بسرعة فائقة . فعاد إلى المطبخ . تناول وجبة الفطور. بعدها أفرغ كأس "بيرة" في جوفه الغائر . نظر إلى وجهه في المرآة . وجده وجه خفاش أشقر ، كما كان منذ زمن بعيد . وبعد لحظات ، أراد له أن يكون وجه طائر وديع ، يوزع البسمات على شجيرات هذه الغابة ، فكان له ذلك.الجو جد بارد .أفرغ كأسا ثانية في جوفه العطشان .تحولت أنيابه ،في رمشة عين ،إلى منقار بهي ، وقرناه الحادان انهارا انهيار جبل ثلجي في بياض إشراقة شمس . من عادته أن يعاملنا بكل احترام و تقدير، في وطن الورود والأشجار المغـتـالة ، والقـطيع المدجج بسلاح الخوف والصمت القاتل ، والنار المحاصرة في زنزانة النار ، تأكل ذاتها ،عند عتبات الحرف والغضب الوهاج ... إن هذا الخفاش الأنيق ، ليس غريبا أن يعيش أكثر غربة و غرابة في مغارتنا ..مغارة جسد حي ، كله حيوية و نشاط ، ينتج كل طاقة البلد ..،بما فيها طاقة الخفافيش الذين يحكموننا ..،في غابة ،يكاد يشلها الصراع غير المجدي ،صراع يشبه دورة العجلة المملة .
هو خفاش من هيئة الخفافيش الوازنة .. مدمن على امتصاص دم الشجر و البحر ..بحرنا الذي يعترف التاريخ بقوته وعزة نفسه ،و الذي يبحث لنفسه، عن جهة أخرى ،غير جهة الصراع ضد العواصف الحديثة..تائها ضائعا بين دهاليز الليل العاتي .لا هو ليس ضائع .بل يؤجل فقط سعادته إلى اليوم المناسب .
أحكم ربطة عنقه ، حول عنقه المنكمش والمزغب . أعاد أذني قميصه الأسود إلى وضعهما الأصلي . عاد له وجهه المزيف ،كرئيس غابة ، أو حارس زنزانة الأشراف .. هيئة الخفافيش . ارتدى معطفه الصوفي المفضل لديه . وضع أحسن عطر يملكه في مكتبة قنينات الخمر/ الدم الفارغة .غادر جحره الليلي ،متجهما إلى باب الإدارة . تذكر ،وهو في ساحة المعمل الواسعة سعة الفراغ ، ذنبه الطويل الذي يلازمه كثيرا ،هذه الأيام الباردة و القاسية ، ربما أكثر من ظله . يبدو الخفاش المقنع بربطة عنق ، نشيطا هذا الصباح أكثر من اللازم . طرق بابا من قصب . خرج ذنبه المعكر الوجه..، والذي حياه . ألصقه الخفاش في مؤخرته ،بسهولة تامة ، و دون أن ينبس الذنب الرفيق بكلمة واحدة .... وبطريقة إيقاعية ،توحي بإحدى نغمات رقصة الراي ، تابع سيره الجميل إلى مخدعه الدموي ، حيث تجرى عمليات سفك رحيق الورد دون ذبحه ...لتصل روائح زبالة تاريخ ،هذا الشيخ الأحمق البليد ،إلى أعشاشه الوصية ،في قمم أشجار الشمس الصديقة..
جفف دمعك المصقول بنجمات جرأة من قصب ، أيها الخفاش المجرور بجسر أقمار خائنة.. ينبذها التاريخ ... تختفي داخل سلال كلام مغربل الوجه ، كصورة وجهك المخصي في مرآة ندية ... أنت مغدور فاكهة ، فخاخك الجبانة ...
دخل عليه فجأة العامل الهادي .وجده في قمة سعادته . الهادي كان ممثلنا في معمل صناعة السكر .لكن في الآونة الأخيرة ،اكتشفنا أمرا خطيرا .إن صاحب المعمل يجرنا دون أن ندري إلى ارتكاب جريمة ، في حق المواطنين و الوطن و كل البشر .لأن السكر ،الذي نعتقد أننا نصنعه بكفاءة عالية ، يصدر إلى الكثير من دول الخارج .لكن بوجه آخر غير وجه السكر ..إن الذي كنا نجهله ،هو أن يعمل الخفاش ،بمعية أعوانه و أمثاله ،على شحن الصناديق السكرية بالمخدرات ،ليقوم بعد ذلك بتصديرها إلى جهات أخرى ،في المواسم الباردة و الليالي الكالحة،المعدة مسبقا لإنجاح العملية .هذه المعلومات وصلتنا من مصدر جد مؤكد ،لأنه جد قريب منها.
دق الباب ثم دخل .. يبدو الهادي كما نعرفه منذ زمان ، واثقا من نفسه، رغم جسمه الهزيل ،و مرضه المستمر .حقيبته الجلدية ، على ظهره ككومة رمل في كيس ثقيل . أشار له المدير بالجلوس على أقرب كرسي .لم يستجب له العامل .ظل هادئا دون أن يظهر أي شيء مما ينوي القيام به ..في هذه الأثناء ازدادت ملامح وجهه وضوحا و صلابة . عدل الخفاش من جلسته ،على كرسيه الجلدي و المتحرك . حاول أن يوقظ في دواخله منقاره الدموي.يبدو عليه نوع من التوتر و عدم الإرتياح ، لوجود العامل الهادي غير المتوقع ..و الواقف هكذا أمامه كالنخلة السامقة .
ـ سمعت أنك تحرض العمال ضدي .كن جميلا يا بني لأكون معك أجمل.
ـ صحيح سيدي .. .لكن ليس ضدك ..بل ضد قهر الإدارة..ثم أنني لا أريد أن أكون جميلا ..بل أقبح من القبح ذاته مع أمثالك ..إنهم كلهم في المعمل باتوا يعرفون حقيقتك .. إنك تحتقرنا و تستصغر من حجمنا نحن الذين صنعت أمجادك بسواعدنا و على ظهورنا ..إنك و من معك تتلاعبون في السكر ..و تصدرون بدلا عنه مادة المخدر ..
ـ اصمت يا كلب ..أنت تهذي بلا شك..سأكلم طبيب المعمل ليكشف عن حالتك ..الصحية ..
-الكلب هو من أنجبك و لم يربيك يا مجرم ..أنا في كامل قواي العقلية.
بعد أن صرخ الخفاش ،و شمر عن أنيابه ،و كل ما يملك من مخالبه و أسلحته الظاهرة.. و بقيت الخفية ..لم يلحظ أي تأثير لكل ذلك على ممثل العمال الهادي .أنذاك رفع سماعة الهاتف ،و أجرى مكالمة قصيرة ،ليحضر بعد قليل الكثير من عمال المعمل ، في رمشة عين ..
وجدوا صديقهم و زميلهم العامل الهادي واقفا أمام مكتب المدير العام للمعمل ، دون حراك ، كما لو كان نخلة سامقة ..
-يقول زميلكم كلاما غريبا في حقي ..
-ماذا يقول يا سيدي ..؟
-نظر الهادي إلى زميله المتحدث،دون أن يفهم ..
-يقول بأنني أصنع مادة أخرى غير السكر..
-أفصح سيدي ..نحن لا نصنع في هذا المعمل غير السكر ..
-إن هذا الكلب يزعم أنني أصنع المخدر ..هل صحيح..
و قبل أن ينهي كلامه ،رد جميع العمال الحاضرين بصوت واحد ،و كأنهم اتفقوا ..
-هذا غير صحيح ياحاج ..أعوذ بالله...
لم يتحمل الهادي صدمة ما رأى و ما سمعت عيناه ..و لم يستطع أن ينبس و لو بحرف واحد ، بل ابتلع ريقه و تركهم ،دون أن يعلم إلى حد الساعة أين ذهب ..و إلى أي منحى اتجه..
قال أحدهم للمدير ،الذي تحول إلى خفاش في غاية سعادته:
-سيدي ..، الهادي مريض كل هذه الأيام ،و قبل أن يأتيك بتلك "الخزعبلات"، كان ينطق بيننا بكلام كله غريب...
محمد بقوح .
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.