(إليك أنيس هذه الموسيقى)
"لنفترض أن لدينا فندقا بغرف لامتناهية ,يقيم بها زبناء بعدد لا متناه أيضا ..
كيف نتيح لمجموعة لا متناهية من الزبناء الجدد أن يقيموا في ذات الفندق ذي الغرف اللانهائية والزبناء اللانهائيين الأصليين؟"والفندق ليس غرفا فحسب..
الفندق مقصف أيضا..
وبالمقصف نزفت جراح وتصافحت نظرات غير بريئة وصدح الأرغن بنوتات تسدل شراشف بهيجة على أسرّة الروح.
أضواء خافتة تضفي على الفضاء سحر الكهوف الأولى, تكسرها بين الفينة والأخرى اشتعالات للأحمر الباذخ ..يباغت إغفاءات العيون المسدلة على غوامضها , فتتسع الحدقات باحثة عن بعضها البعض وتتحفز الجوارح لاقتراف الغوايات.
ومثلما يعبر وليّ ذو كرامات مبهرة فوق الماء, تمر أنامل العازف على لوحة الملامس بالشكل الذي يتيح للهواء أن يتوزع بمقدارعلى أنابيب الآلة ويرسل الصوت المبتغى الذي يحاكي دهشة البدايات.
يستمر للحظاتٍ دبيب واحد الخلية في نسغ الأرض , ثم يتدفق الأحمر المباغت على أرجاء المقصف مصحوبا بغرغرة للأرغن شبيهة بأنّات ماموث سينقرض بعد حين.
عندها يقول الرجل الذي تعتعه السكر دون أن يدرك ذلك :
- بإمكاني الآن أن أكتب القصة .
فيرد عليه الرجل الآخر الذي تعتعه السكر أيضا دون أن يدرك ذلك :
- تلك القصة المزعومة عن ساحر للمنطق والرياضيات يدعى "رايموند صموليان" يتحدث عن فندق بعدد لامتناه من الغرف وزبائن لانهائيين...
- بالتأكيد أيها المعتوه..ماذا تعتقد؟
- أعتقد أنك لن تكتبها أبدا, فقد كُتبت كل القصص التي تحتملها الأرض واكتملت دورة الجنس.
يتأفف الرجل الأول ويلتفت جهة عازف الأرغن قائلا:
- أصمت قليلا وأصخ السمع..لو تعلمت أن تشرب الموسيقى عوض أن تدلق في بطنك صناديق لا متناهية من الجعة, وتنطق بالتفاهات..
بدا العازف كما لو أنه يتهيأ للذروة..ألقى بظلال رأسه إلى الخلف, ووضع قدمه على الدواسات المعدة للإستقبال, وانطلقت الأصابع تعربد فوق اللوحات والمفاتيح ليضج المقصف بنوتات تسل صيصان الروح من بيضتها الفاسدة..
- يا للروعة
صاح أحد الرجلين وهو يقوم من مقعده..أرسل قبلات في الهواء باتجاه العازف , و التف على نفسه .. ترنح يكاد يهوي , ثم تهاوى بكتلته على المقعد.
- لماذا جلست؟
- كي أشرب
- لماذا قمت إذن؟
- كي أرتاح من الشرب
- والقصة؟
قصة عن السحر والجنون
عن موسيقى الأرغن المتلاشية عبر أقبية المسام ..
لكن ما قيمة السحر والجنون والموسيقى والغرف اللانهائية دون امراة؟
فلتكن قصة عن المرأة
لكن ما قيمة المرأة دون رجل يراها ويكمل حكايتها؟
لتكن إذن قصة عن المراة والرجل وموسيقى الأرغن والسحر والجنون..
قصة..عن رغوة الحياة..
- أين سرحت؟
- خلف امرأة من كلمات..
- أفضلها من لحم ودم..هاهاها ..
- يبدو أنك سكرت
- بل أنت من سكر..أعرف ذلك حين تشرع في الحديث عن القصة, فأنت لم تكتب قصة واحدة في حياتك..
أطرق الرجل الأول..
ولو تفرس الثاني في عينيه الخفيضتين لرأى التماعة دمعة تحت الرموش وظلال حسرة دفينة..
غمغم كأنما يحدث نفسه:
- أتعتقد أنني لا أعرف ذلك يا صاحبي..لست موهوبا بما يكفي كي أكتب قصة رفيعة , لكني لا أترك لهذه الحقيقة أن تمنعني من الحلم..
استمع الآخر الى صاحبه حتى النهاية, أمسك بيده في ود, وقالا لبعضهما:
- هيا نغادر.
كانا يعرفان أنها حبة الوجع الأخيرة للأرغن, يعقبها انسلال العازف باتجاه الظل.. سيخرجان الآن كي يسبقاه الى الباب الجانبية حتى إذا أطل بأنامله الرفيعة وعينيه الدامعتين لذكرى بعيدة,ربتا على روحه بإيماءة مّا او نظرة سريعة,ثم يمضيان في طريقهما..يفترقان بدورهما على قارعة ما, وقبل أن يغيب الباب الرجل الثاني, يفكر لمرة أخيرة في القصة التي لم يكتب أبدا:
سيصدح الأرغن أيضا بموسيقى لانهائية
والمرأة مضاعفة بلا حدود كحور الجنة..
سيكون لدي الدهر كي أشهد على ذلك
وأكتب القصة المبتغاة ."