ٱلأَنَا وظِلُّها:
-1-
قُبَيل الفجر دَاهَمَتْني مَنَامَة.
فقد رَأيتُ في ما يرى النَّائِم أضْغَاثَ أَحْلام ٍ لم أعْهَدْ مثلها من قَبْلُ..
على إِثْرِها ٱسْتفقتُ مَذعُورا والظَّمَأُ ينالُ منِّي إذ أَحْسَسْت ُ بِتَجَفُّفِ حَلْقِي. أَطْفَأتُ غُّلَّتِي بماء معدني فَٱبْتلَّتْ أَحْشَائِي.
ٱجْتَاحَنِي عَرَقٌ غزيرٌ وأنا أَتَفَكَّرُ في صُورِ رُؤْيَايَ وَأُقَلِّبُ رُمُوزَها الَّتِي تُقْت ُ قَدْرَ مُكْنَتِي إلى ٱلتِقاطِ بعض معانيها وَتَفَهُّمِ قَدْرٍ مِن ْ دَلاَلاتِها.
-2-
في كل صباح، ألْبَثُ مُسْتلْقِيًّا، لِوقْتٍ قد يطول أويقصر، كَدَيْدَنِ "روني ديكارت" وهو تلميذ وهو تلميذ في مدرسة "لاَفْلِيشْ" ٱلْيَسُوعِيَّة. على سريري أَظَلُّ أتأرْجحُ بين خَدَرِ الكَرَى وٱستيهاماتِ يَقَظَتِي. وفي مَضْجَعِي أيضًا أسْعَى جَاهِدا إلى ضَبْطِ بَوْصَلتي المُرْتَجَّة ٱلَّتِي تَجْعَلُنِي على النَّقِيضِ من "يُوهَان غُوتُه" أرى الشَّرقَ غربا، والغَربَ شرقا..
-3-
يَا لَأَوْهَامِي!
مَنْ أُصَدِّق يَا إلَهِي في غمْرَة تيْهِي وجُنُوني؟
ذَاتِي المُمَزَّقة بين الأَحلاَم واليقظة أمْ آخَرُهَا المُضَاعَف الذي يُكَابِدُ كَ "الفَتَى فِيرْتِرْ" أقصى درجات المعاناة؟..
يَا لَهَلْوَسَات سَمْعِي!
يمَامةٌ تَنْعَقُ وهْيَ تَرْمُقُنِي من نافذة بِنايةٍ خَرِبَة!..
سُنُونُو يَعْوِي وهو يَشْحذُ ريشَه ُ ٱلْمَنْفُوش على فَنَنِ سِنْدِيَّانة تَأهُّباً للتِّرْحَالِ المَوْسِمِي..
يَافِعُون مُشَرَّدُون يُدَخِّنُون بشَرَاهَة لُفَافَاتٍ مَحْشُوَّة على مَقْرُبَةٍ من قُمَامَة ٍ كُدِّسَتْ أمَام المدخل الرئيس لدار للثقافة..
شُحْرُورٌ أسود يَلْعَنُ من فَوقِ لاَقِط ٍ هَوَائِي بُؤْسَ العالم..
فَرَكْتُ بقوة عَيْنَيَّ المَكْدُودَتين حتى ٱحمرَّتا ثم عَزَمْتُ على مُزَايَلَةِ غُرْفَتِي مُنَاجِيًا نفسي:
يَالَرَنْحِي!
وَكَمَنْ يَرَى إلى مِرْآةٍ مكْسورة ٍ بَدَتْ من حولي أشياءُ العالم شَظَايا متناثرة. هكذا لَمَحْتُ من خَلفِ شُرْفَة مَقْطِنِي طَيْفًا يُشْبِهُني كُلِّيَّةً. كان السَّدَفُ يَخْطُو بِهمَّةٍ مُتَأبِّطا خُبْزَةً وَيَحْمِل جرائد، وحزمة أوراق، و قبطة نعناع، ونسخة من رواية " أُولِيسْ" ل "جِيمْسْ جُويْسْ"؛ وخَلْفَه قوانع ضَالَّة تَتَقَفَّى أَثَره دُونَ نُبَاح.
من الشُّرفة لَبِثْتُ أَرْنو إلى المشهد الغريب، إلى أَنْ تَوَارَتْ عَنِّي صُورَةُ الطَّيْف.
في الغُرفَة المُوَازية لغرفة نَوْمِي فاجَأنِي مَنْ يُشْبِهُنِي يَشْغَلُ مِنْضَدَتِي فَتَعَاظَمَ ذُهُولِي.
ٱرْتَدَى مَثِيلِي نظَّارتي الطبية ثُمَّ ٱنْهَمَكَ فِي تَقْلِيبِ صفحات رواية "ٱلْمَمْسُوسُون" ل "فيودور دوستويفسكي" التي بَدَأتُ قِرَاءَتَها في بَحْر ٱلأسبوع الفَارِط. بكل هدوء، اسْتَويتُ قُبَالَتَه على أَرِيكَةٍ من قَصَب فَطَفِقتُ أَتَفَرَّسُ في وَجْه زَائِرِي.
كان يُدَخِّن مثْلَ نَبِيلٍ من زَمَن البَاشَوَات غلْيُونًا
بُنِّيًا ذَكَّرَنِي بِصُورة "جان بول سارتر" المنشورة على الدَّفَّةِ ٱلأُولَى من سِيرَتِه الذَّاتِية "الكلمات"..
لَمْ يُعِر ْشَبِيهِي أَيَّ ٱهتمامٍ لوجودي..
لم أُكَلمْه..
لم يُكلِّمْنِي..
أُرَجِّحُ أَنَّ زَائِري الغَريب الذي تَجَاهلني وأنا على تَمَاسٍّ منه، عَلَی غِرَارِي، اسْتَعْذَبَ رواية الأديب الرُّوسِي الكبير فَصَرَفَتْهُ عني. مع ذلك تَمَاديْتُ لمعرفة السِّر فسَألتُ نفسي: لماذا ٱنْشَدَّ مَثِيلِي إلى رواية "ٱلمَمْسُوسُون" ولم يَنْجَذِبْ إلى "مَسْخ" فرانز كافكا؟
وَسُرْعَان ما ٱسْتَدْرَكْت:
ومِنْ أيْن لِي أن أدْرِي بِحَيْثِيَاثِ ٱختياره؟
ٱسْتَرْسَلْتُ أتفحَّصُ بٱتِّئَادٍ مَلاَمِح ظِلِّي.
أتَأَرِّجُ نكْهَةَ التبْغ المُثِيرة الَّتِي غَمَرتِ الغُرْفَة. أتَتَبَّعُ خُيُوط الدُّخَّان المُتَصَاعدة من الغليون البني.
وَأَتَأملُ الوُجُومَ الغَرِيب،
وَأُنْصِتُ لِلسُّكُون المُطْبَق!..
ٱلأَنا ٱلمُتَشَظِّية:
كنَقَّار الخَشَب دَأَبْتُ على التَّسَكُّع بَاكِرًا بين جذوع الأَشْجار كيْما أَصْنَعَ لنفسي وَكْرًا أعْتَصِم ُ به حَذِراً من ٱحْتِيَال صِلٍّ سام؛ أو دَرْء ً لهُجُوم كَاسِر يَجْعَلُنِي وَجْبَته المُشْتَهَاة فِي لَمْحِ ٱلْبَصَر.
وفي عِزِّ الظهيرة أتَمَتْرَس ُ في رُكْن رَكِين ٍ لِئَلاَّ أسْتَحِيلَ هدفا ليافعين يَعِنّ ُ لهم نَزَقهُم قَذْفِي بحَجَرٍ طَائِش بُعَيْد فراغهم من اختباراتهم الدورية؛ وإحراقهم لكتبهم ودفاترهم أمام بوَّابَات المدارسِ ٱستعدادًا للدخول في متاهات عَطَالَةِ المَصِيف..
وعلى قَدَمٍ وسَاقٍ، عند الأَصِيل، أَنْشَغلُ بالبحث عن أنثى تَحْنو علي من دَواعِي صَدْرِي نَهَارًا وَتَلْأمُ نُدُوبَ حافِظِتِي ليلاً..
وعندما يدْلَهِمُّ عَلَيَّ لَيْلِي أَجْنَحُ إلى مُحَاكاة "بُومَة مِنِيرْفَا" لَعَلَّ هَوَاجِسَ فلسفةِ الجِيرْمَان تَضْمَنُ لي ٱتِّسَاق ٱسْتِفْهَاماتٍ أتَوَسَّلُ بِهَا إعْقَالَ قَلَقٍ يَغْشَانِي، مَتَى نزَعْت ُ إلى نَزْعِ ٱلْغَرَابَةِ عَلَى عَالَمٍ بَاتَ أَشَد تَقَلُّبًا مِن ْ جِلْدِ ٱلحِرْبَاء..
بَلْ أَشَد لُوثَةً مِنْ خَبْلِي..
وَفِي ذِرْوَةِ ٱنْدِهاشي أعرجُ
إلى الإِصْغَاء لِصَوْتِ سقراط الحكيم يَعْرِضُ في "فِيدُون" خُلودَ النفس؛ أو يَعْتَرِضُ على الدُّوكْسَا في "أُمْثُولَةِ المَغَارَة"..
وَإذْ تُضْنِيني عَبَثِيةُ الوُجُود أتَحَوَّلُ رغْمًا عَنِّي إلى "حَلاَّجٍ" يُوَاجِهُ فَظَاعَة ٱلصَّلْبِ السياسي ٱنتصارًا للمعنى.
أمَّا فِي ٱلصَّرِيمِ الأَخِير من غَسَقٍ مُوحِشٍ أَسْرِي بين المَسَارِبِ والدُّرُوبِ شَوْقًا إلی لُجَيْنِ بَدْر السَّحَر..
ٱلأَنَا و ٱلسَّراب:
هَدَّنِي تَثَاقلُ نومي فَحَمَلَنِي على الاسْتِسلاَم لِوَابِلٍ من ٱلتَّهَيُّؤَات لاَنَاظِمَ بينها. وفي أثناء ذلك تَسَلَّلَ مِنْ تَشَقُّقَاتِ ذَاكِرِتِي قَوْل ٌ يَتَواتَر خِلاَلَ التَّدْلِيسِ السِّجَالِي: "الحَقُّ يَعْلُو ولايُعلَى عليه".
وبينما أنا أَغطُّ في نَوْمِ الضَّيْمِ وَفَدَتْ عَلَيَّ جِنِّية اللَّيْل
بِلاَ ٱستئذان.
كانَتْ مُتَوهِّجةً كَجذْوَةِ نَار.
أَيْقَظَتَنِي الجِنِّيةُ عُنْوَة ً ثم أنَاخَتْ بِحَافَة سريري.
رَانَ عَلَى ظَنِّي أَنَّ فِي جُعْبَتها قَصٌّا جَدِيدًا كشَهْرزاد..
حَدَجَتْنِي لِبُرْهَة ثم طَمْأَنَتْنِي بِإِشَارَةٍ خَفِيفَةٍ بِطَرْف ِ عَيْنِها ٱلْوحيدة مُتَفَطِّنَة لِنَفَاذِ صَبْرِي..
وَبِهُدُوء تَامٍّ بَدَّدَتْ وَجَلِي لَمَّا هَمَسَتْ في أُذُني اليُمْنَى كَيْمَا تُنْبِئَنِي أَنَّ الحَقَّ في مجتمع ٱلإنس لا يَعْلُو بَل ْ يُعْلَى عليه على مَرِّ التاريخ.
مِنْ فَزَعِي أَنَرْتُ الأَبَاجُورَة. ٱنْجَلَى بَهِيمُ ٱللَّيل فَلَمْ يَتَرَاقَصْ أمام نَاظِرَيَّ طيْفُ زائِرتِي ولا َرَأَيْت نِصْفَ عَدْلٍ أو ْرُبْعَ حَقّ...
رَأَيْتُ فقط ورقة كَتَبَتْ عليها جِنِّيَّةُ ٱللَّيْلِ بِالخَطٍ العُثْمَاني: "نَاد ِ علَيَّ إنْ لَمْ يَسْتَقِمِ القَصِيد!"
دَاهَمَتْنِي بَعْدَ حِينٍ شَرَارَةُ قَرِيضٍ يَتَغَنَّى بِالغُصَّة والمَرَارَة..
فلم يُسْعِفْنِي شَيْطانُ شِعْرِي،
وإلَهُ المُدَام،
وَلَا ٱسْتَقَامَتِ ٱلعِبارَة!
نَادَيْتُ عَلَى جِنِّيَتِي فَانْبَرَی لِي حَفَّارُ القُبُور..
رَجَفَ قَلْبِي. ٱنْدَسَسْتُ فِي فِرَاشِي. أَطْبقتُ عَيْنَيَّ عَسَانِي أَتَلَافَی تَوَاشُجَ صُوَرِ الأشْبَاحِ، وَأَسْدَافِ حَفَّارِي القُبُور وأنَا أَتَلَظَّى مِنْ بَأْسِي وَحِيداً علَى سَرِير ٱلسَّرَاب..