كانت جالسة على كرسي، خجولة، نظراتها مضطربة، تراقب حركات رجليها النحيلتين. تخبئ يديها تحت ابطيها حتى ينتعشا بحرارة جسدها الصغير. كان يوما باردا جدا، فصل شتاء بدون أمطار. حلت محله برودة تصطك معها الاسنان وترتعش معها الأبدان. ظلت جالسة لا تتحرك وأمامها صينية متوسطة الحجم من الخبز البلدي. مررت من امامها دون أن أنتبه اليها. كنت في حديث مطول مع صديقتي. فجأة، وأنا أبحث عن هاتفي في حقيبتي، لأنني أكره أن أنساه، لقد صار جزءا من حياتي اليومية. قالت لي صديقتي، بصوت حزين: انظري، ما هذا الظلم. فتاة مكانها في المدرسة ليس هنا وسط هذا الجو البارد وتحاول المسكينة أن تبيع القليل من الخبز.
لم تنته معركة البحث عن هاتفي، والتفت حيث توجد الفتاة، اندهشت ثم قلت لصديقتي: أظن أنني أعرفها. ابتسمت صديقتي ولست أدري لماذا. اقتربت من الفتاة، رأسها كاد أن يقتلع من مكانه من شدة الانحناء. ثم رفعته ببطء ونظرت الي بخجل شديد، خجل ممزوج بالحزن والفرح. وأعادت لف شالها على رأسها ووجهها حتى لا تتأثر بقوة البرودة التي تشل كل حركة او ربما حتى لا يتعرف عليها أحد.
سلمت عليها وصديقتي لا تفارقني وتتمنى في قرارة نفسها أن تكون لي سابقة معرفة بها. قلت لها: بكم ثمن هذا الخبز؟ ابتسمت من تحت شالها، كأنها تداري ملامحها عني وفي الوقت نفسه أحاول من جهتي التأكد من هويتها. أجابت بكل هدوء: قالت لي أمي، ان ثمن الواحدة بدرهمين.
تدخلت صديقتي من حيث لا أدري وقالت لها: هل أمك هي التي تعد هذا الخبز؟
أكدت ذلك برأسها. وأنا أبحث عن ورقة بعشرين درهما بحقيبتي، وجدت أخيرا هاتفي ووجدت ورقة بخمسين درهما. نهرتني صديقتي وقالت لي بصوت منخفض: مسكينة، هل تعرفت عليها؟
طلبت منها الانتظار قليلا حتى أتأكد. قلت للفتاة، بأنني سآخذ الخبز كله وتخبر أمها بأنها باعته كاملا.
تفاجأت وسقطت دمعة هاربة من قساوة الطبيعة والحياة، امتزجت بابتسامة ارتسمت خارج أسوار شالها. قالت لي: شكرا لك. ستفرح أمي كثيرا.
نظرت اليها وابتسمت محاولة تجاهل الحاح صديقتي. لكنني انهزمت وقلت لها: نعم، أعرفها. استغربت وتاه منها الكلام ثم أعادت تستفسر: ألهذا السبب اشتريت منها الخبز كله وبذلك الثمن؟ قلت لها: نعم.
ساد صمت طويل بيننا ثم سألتني: من تكون؟ ثم تابعت واللهفة تسيطر على ملامحها: لماذا أعطيتها رقم هاتفك؟
قلت لها وأنا أنتظر سيارة أجرة: لا يهم من تكون، المهم أنني احترمت كبرياءها. لقد حاولت الاختفاء وراء شالها، لم أرغب أن أحرجها. ردت صديقتي بسرعة شديدة وهي منفعلة: لو كنت مكانك، لسألتها وعرفت أحوالها ربما أساعدها. تجاهلت انفعالها وقلت لها: أهم ما يبقى للإنسان هو الكبرياء لكي يستمر في الحياة. لقد عرفتني وعرفتها لا داعي للإحراج. وربما ساعدتها بطريقة أخرى دون أن أدري.
لاحظت أن صديقتي لم تقتنع. سلمت علي وذهبت.
مالم تعرفه صديقتي، أن ذلك الخبز من اعداد الفتاة نفسها. وما جلوسها هناك لتبيع ما تعده هو الحصول في آخر النهار على لقمة عيش تعيل بها طفلها. لقد عرفتها وهي بعد طفلة تشتغل في البيوت وتنكر لها أهلها فيما بعد ورموها في الشارع خوفا من الفضيحة.