..لم يهتم بالمطر ، الذي بدأ يسقط بغزارة على جسده النحيل في هذه المدينة ،التي فتن بها حتى الثمالة .. مذ صغره .مدينة الحركة و البطالة كما يسميها ..،المدينة التي تكبر كل يوم ، لكن هو.. يصغر كل يوم .إنها مدينة المتناقضات ،حسب تعبيره : الكبير يزداد كبرا ، و الصغير يزداد صغرا ، بل غرقا ..
ظل في مكانه ، بقامته القصيرة ، وشعره الأشعث .عدل من جلسته ، بفعل قوة المطر ،فعاد شيئا ما إلى الخلف .جلس على كرسيه الخشبي ، كما يفعل دائما ،منذ مغادرته للمدرسة بسبب مشاكل أسرته .
كان في حدود العاشرة من عمره .رغم ذلك يبدو أكبر بكثير .لكن "الشطارة "لا تقاس بالسن ، بل بالخبرة في الحياة .ليقنع نفسه في النهاية ، أنه في خارج أسوار المدرسة و في أرصفة الشوارع ،على الأقل ، يكون أقرب إلى كسب قوت يومه ،الذي يدعم به وضعية أسرته المدعمة ..
يرتدي ثيابا رثة ،و ممزقة من بعض الجوانب .هو لا يهمه الشكل :هذا ما يقوله لرفيقه هشام دوما ،رفيقه في الحرفة .. الرصيف حيث هو قابع الآن ينتظر خال من المارة إلا من بعض الرجال الذين يسرعون في خطواتهم ، غير مهتمين بصيحاته الخافتة أحيانا و الصارخة في الكثير من الأحيان ،من أجل أن يتوقفوا ولو لحظة لتلميع أحذيتهم .
-آسي ..أرا سباطك ..أرا تسيري ..
يبدو أن آذان الأحذية هذا الصباح الممطر مقفلة بالإسمنت ،هكذا خمن الطفل عيسى ،فعادت إليه وحشته و غربته ،في حين اكتفت الأجساد المارة أمامه بإلقاء نظرة صغيرة على حاله، و هي نظرة لا تخلو من رأفة حينا ، و لا مبالاة حينا آخر ..و المظلات المختلفة الأشكال و الألوان ،المرفوعة فوق رؤوس أناس على عجلة من أمرهم .. بلا سبب يذكر .. تقاوم دقات المطر التي باتت أقوى من ذي قبل ..لست أفهم – يفكر هشام -لماذا لا يلمعون أحذيتهم في يوم ممطر كهذا ..؟ مع العلم أنه كباقي الأيام ..، إن لم أقل أفضل الأيام ..
التصق جسد الطفل عيسى أكثر بكرسيه الخشبي .جمع أشياءه و أدواته التي يستعملها في مسح أحذية الراجلين .و أدخل الكل في كيسه المعهود البلاستيكي اللون .لكن ظل جالسا على كرسيه و ممسكا به بكلتا يديه ."أمس القريب ربحت مصروف ثلات أيام .و أدخلت الفرحة و البهجة إلى قلوب أفراد أسرتي ..و اليوم ..لكل يوم رزقه ."
توقفت في هذه اللحظة سيارة ،يبدو من خلال لوحة أرقامها أنها قادمة من الديار الفرنسية "هذه همزة أتى بها الله حتى عند قدمي "هذا ما قاله عيسى .،وهو يراقب سيارة ميرسيديس و هي تحاول أن تتموضع ، بالشكل المناسب ، بين باقي السيارات ،لكن بدون جدوى ..في هذه اللحظة بالضبط ، وقف الطفل عيسى ، و كأن نحلة لسعته ،وأخذ يشير لسائق السيارة إشارات ، تبين للسائق كيف ينجح في موضعة سيارته .و بالفعل لم تمر دقائق حتى وجدت السيارة السوداء ميرسيديس مكانها في البارك . خرج منها رجل قوي البنية .شكر الطفل هشام الذي حاول أن يتحدث إليه من النافذة ،ليقاطعه الرجل قائلا :
-من فضلك ..أولدي شي غسلة لهاذ السيارة ..تكون مزيانة (واضعا في كفه ورقة نقدية لم يصدق هشام بصره)...
الدشيرة 2007
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.