عندما وقفتُ أمام باب بيتنا كتمثال حجريّ بارد، ملأني الاستغراب و هزّتني المفاجأة، فقد صفعتني رائحة غريبة لم أعهدْها سابقًا، رائحة رماديّة بطعم الملح و الأسى، يدي على مقبض الباب متعثّرة في خطواتي، تُثقلني حقيبة سفري وذكريات الصبا البعيدة، بدا بيتنا كئيبا، رغم سعادة بضعة فراشات بدتْ و كأنها ترحب بمقدمي، دفعت الباب الحديدي الثقيل فاستقبلتني أخْتايَ بشموخٍ واقفاتٍ كشجرة البرقوق في حديقتنا الخلفية، باسماتٍ في وجومٍ كالراهباتْ !! دفنتُ حزني في حضنيهما ......، ثم أخذتْ مني أختي الكبرى الحقيبة فوضعتها جانبًا ثمّ مشتْ أمامي عاتيةً وبدتْ بسُمْرتها البرُونزية مثل شمس الجنوب، قادتني إلى آخر غرفة الصالون، وفي آخر الرواق الطويل لاحظتُ بضعَ فراشات سعيدة تزين الخواء، هناك كانت أمي نائمة على فراش أعِدّ لها، بدتْ لي و كأنها في حالة إغماء إذ لم تنتبه إليّ، ناديتها لم تجبني، اقتربتُ منها وعانقتُها، التفتتْ إليّ و قد استلقت على ظهرها، ظلتْ تتأملني و كأنها لم تعرفني، غير أنها سرعان ما رسمت ابتسامتها البريئة على وجهها الصغير، نظرتْ إليّ بعينين كهْرمانيّتيْن نظرة عميقة، عانقتُها مجددا، مسحتُ على شعرها، و في لحظة انتبهتْ إليّ، فتحَتْ ذراعيها فضممتُها إلى صدري، وظللتُ أنتفض بين أحضانها باكية، ـ كانت رائحتها كرائحة ورق النعناع الأخضر اليانع، ..أغمضتُ عيني ...فتذكرتُها ....نعم ...تذكرتُها وهي ترجو مسؤولة الروضة كي تعطيني خفيةً رضّاعة الحليب أثناء الفسحة بعيدا عن أعين بقية الأطفال و أنا طفلة صغيرة لم أتجاوز الخمس سنوات .......تذكرتُها وهي ترسل لي في شهر رمضان وجبة إفطاري بالحافلة و تصرُّ خاصة على خلطة " كعبة البريك " التي تضعها بعناية في إناء صغير لأقوم أنا بقليها قبل آذان المغرب في مطبخ المبيت الجامعي ..فآكلها ساخنة شهية ......تذكرتُها عند باب المطبخ و هي تبرّد لي فنجان الشاي الأخضر بعد تناول الغداء، بأن تتناوب صبّه في كأسين واحد في اليد اليسرى وآخر في اليمنى بحركة رشيقة و ترجُوني أن أنتظر تسبقُها ابتسامتها البريئة، تريدني أن أشربه قبل أن أذهب إلى العمل بعد الظهر ...
تذكرتُها و قد اجتمع كل أفراد العائلة، تطمئنّ أن كل شيء جاهز على طاولة الطعام، مُرسلةً نظرة بعيدة من أمام باب المطبخ الأزرق وعرق قيظ الصيف يغسل ابتسامة الأطفال الغافية على وجهها، بينما غضبي عليها يتزايد لأنها كانت آخر من يجلس !! ....فتحتُ عينيّ فخنقتني الرائحة و شعرتُ في تلك اللحظة أن الجدار الذي طالما استندتُ إليه بدأ يتآكل و يحوّلني إلى خواء !!!.....غامت الذكريات البعيدة وساحت دموعي صامتة كسُخْف الزمن و أكاذيب الحياة !!! فجلستُ إلى جانبها و أختي الكبرى تربت على كتفي و تحثّني على الكفّ عن البكاء ..فتحتُ حقيبتي و أريتُها قارورة الكحل التي جلبتها لها و علبة القهوة الفرنسية التي لطالما عشقتْها، غير أنها لم تهتم بكل ذلك و عادت إلى غفوتها، نظرتُ إلي أختي في صمت فأخذتْ تفسّر لي سبب الانتكاسة المفاجئة التي اعترت صحتها، و ما تشخيص الطبيب لذلك و الأدوية التي وصفها و في الأخير طمأنتْني على حالتها بكلمات باردة و ملامح لا معنى لها ....نظرتُ إليها في صمت ثم سألتها عن الرائحة الغريبة التي تعمّ أرجاء البيت فاستغربتْ ملاحظتي و لم تهتم بالأمر، فاستفسرتُ أيضا عن الفراشات التي تملأ الرواق، التفتُّ إلى أمي و كأنها انتبهتْ إلى حديثنا عن الفراشات فافترّ فمها عن ابتسامة بريئة طاهرة غامضة .
أتذكّر إجازة الصيف الماضي حين كانت تأتي إلى بيتي غير بعيد عن شاطئ البحر لمّا كانت تنهض لتصلِّي الفجر و كيف كانت تملأ البيت حياة و بهجة بخطوات وئيدة حانية، صوت خطواتها لا أنساه أبدا و هي تنتقل من غرفتها إلى المطبخ لتطلّ من النافذة على الحديقة والشارع الرئيسي ثم تعود بعد ذلك إلى غرفة الطعام الدائرية و تجلس على كرسيها الأبيض تنتظر قدوم زوجي وهو يحمل معه الخبز وقطع كرواسون اللوز الساخنة التي تحبها، تنتظره و هي تجلس على كرسيها الأبيض عند نافذة غرفة الطعام وعلى رأسها وشاحها البني الفاتح و كأنها لوحة إسبانية ....لتتأمّل زرقة الشاطئ من بعيد بنظرات عميقة و تتنفّس رائحة البحر الصباحة المنعشة ممزوجة بذكرياتها البعيدة أيام شبابها مع أبي حيثُ قضت برفقتِه أحلى أيام عمرها ...كنتُ أصحو كل يوم على حديثهما يراقص رائحة القهوة العبقة تتناثر سعيدة في كل أنحاء البيت، بعد ذلك تنتقل إلى الصالون لتكمل قهوتها وهي تشاهد التلفزيون و تضع ساقًا على ساق أحيانا كالأميرات، فيتكلّمان بصخب وزوجي يثير ذكرياتها في شغف ليسمعها تتحدث عن طفولتها في حي " السِّنطارين" بضاحية باردو في تونس العاصمة و كيف تركتْ محفظة الدراسة طفلة صغيرة لتتزوج والدي الحاج رحمة الله عليه و كيف أنها من أجله رضيتْ أن تترك العاصمة و تستقرَّ في مدينة قابس بالجنوب التونسي ثم تطلق تنهيدة عميقة و بعد ذلك تختم كلامها بنفس الجملة :
" بعد الحاج لم يعدْ للحياة معنى "....... و تهرب إلى الخواء بنظرات لامعة كئيبة و حركة من أصابع يديها على ركبتيها .
..في تلك الأيام كانت سعادتي غامرة و أنا بجانب أمي أساعد أختي الكبرى في العناية بها، لقد هرِم كل شيء في أمي عدا ابتسامتها البريئة، ها هي الآن كطفلة صغيرة تنام على ركبة أخي وهو يُهَدْهِدُها مثل ملاك وديع ..غالبتُ دموعي طويلا و أنا أرى هذا المشهد خاصة نهاية الأسبوع حين ينام أخي الأصغر عندها .. لقد أتيت لأجلها و لأطمئنّ عليها ..أظن أن وضعها يتحسّن، لكن الذي أثار ذهني هو حكاية الرائحة الغريبة الملحّة التي لم أجد لها تفسيرا وقد سألت كل من زارنا بطريقةما ولكن لا أحد انتبه إليها و ذلك ما زاد في حيرتي و ذهولي وربما الذي ضاعف من استغرابي هو تزايد عدد الفراشات كل عشية ..
لم يكسر ذهولي سوى أخي الأصغر الذي جاءني ذات مساء و قال لي تسبقه ابتسامته الحزينة و نظراته المتعبة : " أمي وضعها يتحسن ..عودي إلى عملك و أسرتك ..ابنتك صغيرة وهي بحاجة إليك في بلاد الغربة ...عودي نحن سنهتم بالوالدة ..."
ازدادت وطأة الرائحة في بيتنا و الفراشات أصبحت تدخل غرفة الصالون وتقترب من أمي أكثر فأكثر ..بل إنها أصبحت تدخل من نافذة الحديقة التي لطالما سعت أمي إلى تنظيفها و العناية بأشجارها، إكرامًا لروح أبي ...غير أن كلام أخي الأصغر نفذ إليّ حقًّا فحالة أمي تزداد تحسّنا إلى درجة أنها أحيانا تتدخل في لباسي و تأمرني بتغيير اللون الذي لا تحبه شعرْت و كأنها أخيرا عرفت من أكون !!
لم يبق إلا ساعات على رحيلي و لا أحد استطاع أن يفسر لي سرّ تلك الرائحة و لا كثرة الفراشات وحوْمانها العجيب حول أمي النائمة كشموخ الأميرات و كوداعة الملائكة !!
بعد أن عانقتُها و قد ربتتْ على كتفي و مسحتْ على شعري، هربتُ من نظراتها مغالبةً دموعي، في تلك اللحظة و أنا أهمّ بالخروج، و في لمحة برقٍ خاطفة .... عرفتُ سرّ تلك الرائحة ...تلك الرائحة التي لوَّنت بيتنا منذ سبع سنوات ..إنها نفس الرائحة التي راقصتْ أبي طائر الرخ ....و هي نفس الرائحة التي ستحتفل بآخر الفراشات ....
أسرعتُ إلى سيارة أخي تخنقني الغصة .... لم أردْ أن ألتفت إلى الوراء حتى لا أفكر أو أشهد رحيل آخر الفراشات !!
لقد ظلّ طائر الرخّ وحيدا طيلة سبع سنوات...
و قد آن الأوان ليعود فيحلّق كما كان دوْمًا ....مع أوّل الملائكة و آخر الفراشات ..............!!!
العين- أبوظبي 30/6/2022