الحالة الأولى: تَـلَـــبُّسٌ.
في لقاء معه على هامش ثرثرة حضرتها عن طريق الخطإ، في إحدى الندوات التافهة شكلاً، و الفارغة مضمونا، أثار صديق مُبتلى تعرفت عليه حينا، موضوع تلبسِ النص به في أوقات ربما في الكثير منها غير مناسب، وأنه عندما يبدأ في الكتابة يجد نفسه في بعض الأحيان يكتب باسترسال ظاهر وكأن جنيا يغذي عقله بأفكار ممتدة بخيط يدليه من الأعلى و يصب محتواه في المخ صَباً دون سابق ترتيب للقاء، فلا يتوقف قلمه عن الكتابة، استجابة لأفكار تتساقط عليه أحجارا من جبل، تصيب دماغه بشكل مباشر، فلا يكلف نفسه إلا بِتَرْجمتها إلى كلمات، ووضعها في جمل تحمل المعاني التي يوحي له بها هذا الكائن الغريب، الذي يزوره في أوقات غير مناسبة.
حكى لي صديقي فقال:
ــ يبدو أن هذا المخلوق، لم يجد سكنا يلبي طموحاته في مشروع الدولة المسمى "اجتماعي"فقرر أن يسكن عظامي.
ــ كثيرا ما يوقظني في الليل ليأمرني بالتدوين، وأنا أُجاهِد تَعَبي، أستجيب في استسلام لترهات هذا المخلوق.
ــ تسبب لي في مشاكل كثيرة مع أولادي وخصوصا الصغار منهم، فعندما يستيقظ أحدهم ليلا، يأخذه الخوف من وضعيتي، يجدني مرميا على البساط، ممدداً في فناء البيت أمسك قلما ومذكرة، وأنا أُسَوِّدُ البياض بشكل هستيري، والإرتجاف قد أخذ مني مأخذا.
ــ هذا المنظر يخيف صغار البيت، أما كباره فقد سئموا من هذه الوضعية فاهتدوا إلى التجاهل حلا للأمر، ولا أخفيك سرا، إن الحل الأخير أراحني.
ــ هذا المخلوق يُضايقني في كل الفضاءات والأمكنة التي أقصدها ، فيتعمد إحراجي، ويأمرني بإخراج القلم والمذكرة.
ــ وأنا منحنٍ في سوق الخضر بعد أن فاوضت الخضار عن الثمن، أجتبي البطاطس أو الطماطم، يوخزني بإبرته لأتوقف عن الفعلِ، وأمارس الفعلَ.
ــ يأمرني بالكتابة وأنا في مجلس مع أصدقائي، في حديث فكاهي أو جدي، فأتوقف مسلوب الإرادة عن الكلام، وفي خنوع ظاهر آخذ ورقة وقلما من جيبي فأكتب كلمات.
ــ يضايقني حتى وأنا في الصلاة، كِدْتُ يوما أن أنحوَ برأسي يساراً و أَلْعَنَهُ، وفي يوم جمعة والخطيب على المنبر، وَكَزَنَي بعصاه، فلم ألتفت إليه،(وكزني المخلوق وليس الخطيب) ولولا أني تذكرت الحديث الذي يروى قبل آذان الجمعة، لأخرجت القلم والورقة التي تصاحبني ولبدأت الكتابة على مرآى من خطيب الجمعة، وأنا على يقين لو فعلت لَلَعَنني الخطيب هذه المرة، وَلَرماني بعصاه، لكنني تمالكت نفسي وجاءني صدىً من داخلي " ومن لغا فلا جمعة له".
ــ كنت يوما في قاعة انتظار، فأراد صاحبي أن يمارس عليَّ لعبة الإكراه، فاستجبت بإخراج قلم ومذكرة صغيرة من حقيبة الظهر الصغيرة التي تلازمني على الدوام، فإذا بكل العيون التي في القاعة تنزاح عن الشاشات التي كانت تحدق فيها، وتلتفت إليَّ في استغراب ظاهر، ومنهم من أبدى استغرابه بكلمات خفيفة قالها بصوت خافت:
ــ عجيب ! لا زال بيننا من يكتب !
وأدار رأسه نصف دورة وأكمل:
ــ ويحمل الأوراق على ظهره !
ــ حديث في المشاعر يجمعني وزوجتي، على مائدة عشاء، فإذا بي أتلمس جيبي لأخرج الورقة والقلم، فأقسمت بأغلظ الأيمان إن أنا فعلت، لتغادرنَّ البيت ولن تعود إلا بعد إحراق كل الكتب والمجلات، وكل الأوراق المتناثرة داخل البيت وفي مدخله.
احتار صديقي وتأكد فيما لا يدع مجالا للشك أن الأمر جِدَّيّ، وأن حياته وحياة أبنائه في خطر، وعليه أن يتصرف، أن يتصرف التصرف الذي لن يجني حصاده تِبْناً، ويذهب الريح بالحَبِّ كما الحُبِّ.
ما عساه أن يفعل؟
هو السؤال الذي طرحه عليَّ صديقي.
وبكل ما أوتيت من حِيَّلٍ حاولت أن أتجنب ورطة الإجابة.
الحالة الثانية: هـــروب.
لقد راوغت صديقي، ولم أُشِرْ عليه بحلٍّ ليخرج من الحالة التي يعيشها، تمكنت من الهروب ببراعة وتركته يعيش ضيقه لوحده، حتى يتحمل تبعات القرار الذي سيتخذه، فأنا لست بقادرٍ على تحمل مسؤوليةٍ مثلَ هذهِ، وغير مستعد لتقديمِ مُساعدةٍ من هذا النوع.
أنا بدَوري أعيش حالة، لم أجد من يقدم لي يد المساعدة فيها، أعيش ضيقا يكاد يخنق أنفاسي، حالة ترتفع فيها درجة حرارة جسمي، وتصطك ركبتايَ، كما تتوقف الغُصة في منتصف حلقي لا تريد الخروج، تكاد تزهق روحي، أحس أنني سجين في غرفة، بهواء ثقيل لا يريد ولوج حنجرتي بالقدر والسرعة الكافيتين، حالة أعيشها في خضم نص أكتبه، لم أجد من يخلصني من لهيب يرسله مباشرة إلى وجهي، يريد أن يأكله بالكامل، وتذكرت قَولةَ صديقي:
كل نص فهو نار يحرق كاتبه، قبل أن يتلذذ بِطَبيخِهِ المتذوق من القراء.
ينتصب النص معاندا لا يريد أن يلين لِتنتهي الولادة بسلام، هو معاند إلى درجة لا يمكن تصورها، يجعلك تتصبب عرقا، تزفر زفرات، تتنهد بعمق، تمسك على فخذيك بعصبية، تتأسف لحالك، فتأخذك الشفقة من نفسك، هي المعاني لا تريد أن تستقيم، تستعصي على التراص، أحداث تأبى أن تجري بسلاسة، وشخصيات تتمرد على الأدوار، فتنتفض في استعلاء بيِّنٍ، وكثيرا ما تقلب الأوراق غير راضية بمسار حياتها في القصة، فتنبري بدون حياء لمحاورتي، لتدافع أو تشتكي، بل وترفض في أحيان كثيرة، فأعجز عن إيجاد الحل، وأتحول إلى قاضٍ جاهل، يوزع الظلم بين الشخصيات بلا عدل، لأنهيَ الجلسةَ في أغلب الأحيان، بهروب خارج الغرفة، تاركا النص في غمرة اللهب والفوران، وكثيرا ما تتوصل الشخصيات إلى توافق في غيابى، لترتب الأحداث في المنحى الذي يليق بمقام و مركز كل منها، فأعود منتشٍ بانتصارٍ موهوم:
ــ لقد تمكنت من بناء القصة، وما بنيتها ولكن شُبِّهَ لي.
تذكرت حال صديقي، فتراجعت عن قراري، وقررت أن أساعده بعرض تجربتي عليه.
لكن مع الأسف هاتفه غير مُشَغَّلٍ أو خارج التغطية، كما أخبرتني الحريصة على خدمتنا.