الشارع الطويل ممتد في التواءات طفيفة مثل ثعبان يئن وينوس بالحمل الذي يمشي فوقه، يتضور من هذه الأجساد المتلاطمة على غير هدى، أجساد متناثرة هائمة على وجوهها، تضرب في كل الاتجاهات، لا تدري إلى أين تقودها هذه الدروب المجنونة القاتمة.
ها هو سامح يمشي بين هذه الجموع وفي رأسه تتلاطم الأفكار، موج هادر من الذكريات يخضه، يصفعه، يرجه. وجد نفسه في هذا المدى الممتد من الهائمين فهام معهم، سار غير مكترث بهذا الكم الهائل من البشر. ها هو يمشي مترنحا وأمام عينيه صورة حارس السجن وهو يدفعه ليزج به في هذه المتاهة الفسيحة بعد أن قضى أسبوعين ذاق خلالهما ألوانا من العذاب، أسبوعان قضاهما لا هو بالبريء ولا هو بالمجرم، شبهة لم تثبت عليه...آه يا بلدي الجريح، مجرد تشابه في الأسماء يقودني إلى هذا العذاب.
تتشابك أمامه الصور وتضطرب، اقتادوه، عنفوه، عذبوه، ضربوه بالهراوات والعصي، حشروه في الزاوية، لوثوا ثيابه بالدم المتناثر من لثته وأنفه ثم نادوا كلابهم المدربة فتقززت من رائحة الدم العطنة فتراجعت، لم تنهش لحمه مثلما كانت تفعل مع المجرمين. أجلسوه على كرسي بعد أن جردوه من كامل ملابسه وشدوا يديه إلى الخلف وشوهوا جسده بالجراح وألهبوها بسكب الكحول فذاق العذاب والهوان...تضاءل حتى صار كالحشرة. تصلبت شرايينه وجحظت عيناه، صار كل شيء أمامه كالضباب وغاب عن الوعي. لم يفق إلا بعد ساعات ويد لطيفة تغرز إبرة الدواء في زنده. عندما فتح عينيه وركز نظره بدت كل الأشياء بيضاء بلون الثلج، تراءى له طيف ميدعة بيضاء ولحية خفيفة وشوارب مصقولة بعناية فأدرك أنه طبيب السجن. همس له الطبيب "اعترافك أفضل لك، خلص نفسك من هذا العذاب، لن يتركوك إلا بعد انتزاع اعترافاتك كاملة".
عندما خرج الطبيب سكن سامح بفعل المخدر، ولم يعد يسمع صوى صدى لصرخات سجناء الزنازين يتأوهون ويتألمون، هذا يتعرض لصعقة كهربائية، وهذا يقلعون أظافره بلا رحمة، وذاك يحاولون حشر قارورة في دبره ويرغمونه على الجلوس عليها... كل هذا وأكثر حدثوه عنه وهم يهددونه ويتوعدونه لترهيبه.
لا يعرف سامح سبب تواجده في هذا المكان الفض الموحش القاتم. كان ممددا على الأريكة في قاعة الجلوس ينتظر بدء مباراة كرة القديم على شاشة التلفاز، فتشجيع الفريق الوطني في هذه اللعبة أرقى تعبيرات الوطنية عنده، وانشغل قبل ذلك بمتابعة نشرة الأخبار ليعرف ما يجري في البلاد، يريد أن يكون مواكبا حتى يشارك زبائنه من أصحاب الأحذية اللماعة أحاديثهم، يريد أن يعرف أسماء حاكمي البلاد بعد أن غابت ملامحهم خلف الكمامات، فلا ترى منهم سوى العيون التي تدور في محاجرها كالجرذان الفزعة. امحت ابتساماتهم وصارت شفاههم قصديرية وخبا البريق الذي يلمع في ما مضى محيّا الحكام. هؤلاء الحكام الجدد صاروا بلا طعم وبلا رائحة، جاؤوا من مشارب متفرقة لفظتهم الأزقة الملتوية القذرة الحانات والمواخير والمزابل ولم تُزل قاذوراتهم قوارير العطر التي سكبوها فوق بدلاتهم الأنيقة المجلوبة من بلاد بعيدة. ربطات أعناقهم الزاهية بألوانها الكثيرة تقف شاهدة على تكرش بطونهم وولوغهم في مآدب لم ينضج لحمها، أخذتهم اللهفة، فالتهموه نيئا فضجت معداتهم وصار لوثة دنست أفكارهم وشوهت مبادئهم.
في تلك الليلة عندما كان ينتظر نقل أحداث مباراة كرة القدم بلغ الرعب بسامح منتهاه وهو يهتز عندما ارتج الباب بطرقات عنيفة، ثم صوت تكسر اللوح الخشبي المتداعي الذي سماه عبثا بابا، ووجد نفسه محاطا بثكنة من الأجساد. لم ير سوى العيون الدائرة في محاجرها. تكوّر في مكانه ثم غاص في الأريكة، ود لو يبتلعه تجوفها حتى لا يرى هذه الوجوه التي بلا ملامح. صوت قوي يأمره بالوقوف ومواجهة الجدار ورفع اليدين إلى الأعلى. أراد التحديق في الوجوه وتفرس الملامح لكنها اختفت وراء أقنعة سوداء وقفت حاجزا محايدا بينه وبين هؤلاء الذين اقتحموا بيته في هذه الساعة وزرعوا في نفسه رعبا لا حدود له ولا طاقة له على تحمله. لحظات حالكة شعر سامح أنه شاخ خلالها عشرين سنة.
وجه سامح ملتصق بالجدار، ووقع أقدام تدنو وسؤال وحد يُطرح وعليه أن يجيب بوضوح تام، كان السؤال عنيدا، حادا كسيف، موحشا كصحراء قاحلة، فجا وعميقا. فلم يجب.
جروه جرا وألقوه في السيارة وهم يقهقهون ويتغامزون.
أسبوعان لم ير خلالهما سامح نور الشمس. ألقوه في قبو مظلم وتناوبوا على تعذيبه، وكانوا يستمتعون بذلك، كانوا مدربين على الأداء فأتقنوا لعبهم. بلا أثار وبلا خدوش كانوا يتركونه بعد حفلات تعذيبهم. حرموه النوم طيلة أسبوع، وحين سمحوا له بإغفاءة سلطوا ضوء مصباح عليه وماء يقطر يوتر الأعصاب ويدمي النفوس.
انهالو عليه بوابل من التهم. ماسح الأحذية يهدد أمن الدولة ويحرض على العصيان المدني؟؟ إن هذا لشيء عجاب. سامح ماسح الأحذية يصير خطرا يهدد أمن البلاد واستقرارها وينصّب نفسه قائدا لمجموعة من الثائرين والرافضين الغاضبين ليصبح مثل السادة المبجلين يرتدي بدلة أنيقة ويضع ربطة عنق بلون الربيع ويغدو ويروج بين أروقة القصور تنحني له الرؤوس؟؟ سامح ماسح الأحذية يخطط لإحداث زلزال في البلاد يصير بمقتضاه حاكما للبلاد يأمر فيأتمر الناس بأوامره وينهى فينتهي الناس بنواهيه، ويوقع على أحكام الإعدام التي ستنفذ في من كان يوما معه ليبدأ عهدا جديدا يُدار بالديمقراطية والعدل؟؟ سامح ماسح الأحذية يتحول إلى خطر تتعقبه أجهزة أمن الدولة السرية والعلنية وتقتحم منزله في حيه الشعبي الملوث بمياه المجاري وروائح بالوعات الصرف الصحي. وتهنأ الدولة ويستتب أمنها بإلقاء القبض عليه؟؟ حقا إن الزمن يأتي بالعجائب.
وأخيرا صدرت التعليمات: يخلى سبيل سامح ماسح الأحذية في الحال بعد إلقاء القبض على سامح الشيوعي المعارض. يومها قاده شرطيان إلى قاعة نظيفة فسيحة لا تشبه الزنازين الضيقة العفنة ذات الروائح الكريهة التي تزكم الأنوف، وتركاه وانسحبا.
من وراء المكتب جاءه صوت حنون، سامح ابننا نحن آسفون على الذي حصل لك، مجرد تشابه في الأسماء، لم يكن ذنبنا، كان ذنب والدك الذي أطلق عليك هذا الاسم. باِسم دولتنا المحبة للسلام والعدل نخلي سبيلك، ثم سحب من أحد الأدراج ظرفا وقدمه له وهو يقول مطأطئا رأسه متظاهرا بالأسف "هذه هدية بسيطة من قائد البلاد الذي غضب حين علم بما حدث لك. داو جراحك يا سامح وحاول أن تتخلص من العذاب". أمسك الظرف بيد مرتشعة. وبكبسة زر انفتح الباب فقام صاحب الصوت الحنون مبتسما ومودعا.
في الرواق الطويل الممتد وجد عونا بزيه الرسمي في انتظاره، اغتصب منه الظرف وهو يدفعه في نهاية الممر إلى الباب الخارجي وهو يقول بصوت مُلِئ حقدا وغطرسة "نحن أولى منك بهذا الظرف ففي الخارج ظروف كثيرة في انتظارك"
الشارع الطويل الممتد كثعبان لا ينتهي، يتلوى، وسامح ماسح الأحذية يمشي وحيدا بلا روح، جسد يتدحرج فوق الرصيف. أسبوعان من عذاب هدّاه. لم يعد رجلا، اغتصبوا رجولته، أي رجولة يمتلكها وروائح البوح والقيء تثير اشمئزاز العابرين فيحدجونه بنظرات حارقة جارحة. بلغ سكة المترو، وقف بين الخطين شارعا ذراعيه كأنه يحتضن الريح. المترو يتقدم بأقصى سرعة ولا وقت أماه للفرملة أو التباطؤ أو التوقف، واليدان ممدودتان أفقيا لتشكلا مع الجذع صليبا وابتسامة عريضة تملأ الوجه. قُضي الأمر