"سكاب"، يقول جدي الشاعر، حصان عِلق، لا يُعار ولا يُباع، الحبل فوق غاربه، يظل يصهل، وينتظر صاحبه دون جدوى؛ جرب ركوبَه أطفال كثيرون، لكنه بقوة يلفظهم،ويطيح بهم فوق الأرض، تصدر عنهم أنّات،فلا تحملهم أرجلُهم من جديد بعد ذلك،إلاّ بعد إسعافات.
وفي يوم مختلف،ظهر"حنظلة" مُنسلاً من رسومات ناجي العلي، مسح على ظهر"سكاب"، وشوش في أذنه بكلام ،فحرك رأسه، وحمحم،جثا كما الجمل،صعد "حنظلة وطار الحصان إلى عالم الألوان..
عاد حنظلة،بعد جولة دامت ساعات بصورة غير التي غادر بها البلدة حكى لنا نحن- أقرانَه- بأن "سكاب" طاف به بلاداً غريبة،الناس فيها مختلفون،هم كثيرون ويتحدثون لغات مختلفة،ومع ذلك يتفاهمون ،يكرهون اليباب،ويحبون، بدلاً عن ذلك، رائحة التراب، لا يشغلهم غير عشق النبات، يحرثون الأرض، ويغرسون الأزهار،والرياحين،ولا يصادرون الألوان في البساتين، لا يتنخمون أمام الناس، للظل عندهم، في النفوس ،مسقط ، وللون فتنة، وللضوء كُوات..
أكلهم لذيذ، ورائحة خبزهم نفاذة،ولا يحلو لهم الطعام إلاّ في لمة، لا يأكلون إلا إذا جاعوا، وإذا أكلوا لا يشبعون، وللمرأة عندهم سمعة ومكانة، شؤونهم يُستدعى لها أطفالُهم، يفكرون معهم لا عنهم... و(...)
قاطع حنظلةَ منيرٌ قائلا :" يا لحمقك، وكيف تترك هذا النعيم، وتعود إلينا" !..
أجابه حنظلة :"كان يجب أن أعود لأخبركم،وأيضاً عدتُ لأرسم بالألوان ما رأيتُ بأم عيني "
سكت برهة ، رمق فيها "سكاب" بحنو ثم أضاف جازماً :
"سكاب" وعدني بأنه سيعود ،و نصيب كل واحد،منكم،من الطواف آتٍ".
لم يطلِ انتظارنا ، ما رأى حنظلة شوقنا... عاد "سكاب" فعلا ، و فاز ت صديقتُنا ندى، هذه المرة، بالجولة الثانية على ظهره، ودّعناها بإيماءات ،وقد احتدت أكفّنا بالتصفيق حين طار الحصان، و ندى ،فوق ظهره، عروس.
في المساء، بعد العودة من المدرسة، التقينا عند الغدير، وانتظرنا عودة "سكاب"، تخاصمنا، من أجله، واختلفنا حول من سيفوز بنصيب الجولة التالية ، و فؤاد أنقذنا حين تدخل قائلا:
" دعونا ننتظر قليلا ،لعل أخباراً جديدة قد تحصل ،ثم بعد ذلك نقرر"؛ بيْدَ أن فكرته لم تصب هوى في نفوسنا، كان الحماس عنواننا، وكنا نتكلم دفعة واحدة،صدر منا ضجيج وعجيج ،كثرت الاقتراحات ، واختلفنا فيما يجب فعله ، ولم ينتشلنا من هذه الفوضى غيرُ آدم حين اقترح اعتماد القرعة لحل هذا المشكل.. خيم الهدوء، شكلنا دائرة، مكونة من ( فؤاد، آدم، منى، سعيد، باسل، عمرو، فاطمة الزهراء، أحمد، مصطفى، حليمة، وسيم، أميمة، منار، جواد، سهيلة، علي...) كتبنا كل اسم في وريقة صغيرة ، وظللنا ننتظر عودة ندى رفقة سكاب، وكانت الفكرة هي أن تُرمي الأوراق في الهواء، والاسم الذي يحط وسط ظهر سكاب ستكون الجولة من نصيبه.
ندى حين وصلت أخيراً حكت كلاماً جميلا ،أيضاً، عما رأتـه، بل وكررت ما قاله حنظلة، لكنها تكلمت بغصة مقارنة بين مشاهداتها ،هناك، والخراب الذي يسيج حينا المهمش، والمحاط بكل الأوساخ، من أزبال مرمية كيفما اتفق، وكتابة مشينة على الجدران، و انتشار المتسولين...
فجأة صهل "سكاب"، انتبهنا له جميعاً ،كأننا نكتشف حضوره ، بيننا، لأول مرة ؛كرر الصهيل حين انسابتِ الأوراق في الهواء، سقط بعضها على الأرض، فيما استقرت أخريات على ظهر سكاب ، في وضعيات مختلفة، لكن ورقة واحدة حطت كعصفور وسط ظهره ، فككناها ،كانت من نصيب فؤاد..
باركنا له الفوز بالقرعة، لكنه كان قد استقر على رأي، فاجأنا به جميعاً، صرخ في وجوهنا بصرامة :
" لن أركب ظهر سكاب"
فؤاد لم يكتف، فقط، برفض ركوب ظهر الحصان، بل ومنع ،أيضاً، أي أحد، منا، من أن يفعل..
قال لنا متحمساً : "إن لحينا علينا حقاً. اِسمعوا يا أُصيْحابي،لندع"سكاب"يمضي وحده، هذه المرة؛وحين يعود، فليكن على ظهره طفلٌ زائر لنا".
فهمنا القصد، وبدأنا العمل.