الروم على حدود إمارة حلب.
ظرف المكان: قاعة الاستقبال الكبرى، في قلعة حلب.
ظرف الزمان: عام ألف، أو ألفين، وربما ثلاثة آلاف للميلاد.
أمر الأمير أبو المعالي وزراء حلب، فلاسفتها، علماءها، أصحاب الرأي، وقادة الجيش، بالمثول بين يديه.
حضر شاعر الإمارة الأخير، كفَّ صوته منذ سنوات طويلة، ظنه قد خرس، استدعاه ذرا للرماد في العيون.
عرض عليهم أبو المعالي الحدث الجلل، قام عن عرشه، وخطب فيهم بصوت يصطنع المهابة:
- يهددنا امبراطور الروم بجيش جرَّار، ويطلب منَّا تسليمه مفاتيح البلد، كنوزها، ذهبها، وفضتها على عجل.
إنْ رفضنا أوامره ، دخلت علينا كتائبه، التي لا ترحم، و داستنا حوافر خيله الهائجة.
صمت الأمير بعدها، وانتظر الجواب.
أجابه الحشد الغفير بصوت واحد:
- لكم الأمر سيدنا، ونحن له طائعون.
إلَّا واحدا صمت، ولم يرد.
استعاد الأمير ناصية الخطاب:
- أفكر أن نداهنه، والحرب خدعة، ندعي قبول الإنذار، ونرسل له الهدايا، بعض الذهب والياقوت، فنأمن شره إلى حين.
ردَّ الجمهور:
- الصواب ما يراه الأمير المعظَّم.
إلَّا واحدا صمت ، ولم يرد.
سكت أبو المعالي طويلا، فصام المدعوون عن الكلام.
تبسمَّ، فابتسموا بحذر، واستعدوا للجولة التالية.
تغيَّرت معالم وجه الأمير:
- أخشى بعد ذلك أن ينكث الروم بالعهود، وقد فعلوها مرارا، فماذا نصنع إن أرادوا دخول حلب على أيِّ حال؟!
عبس الحاضرون، فقد كانوا غير معتادين على اجتراح الحلول للمعضلات ، وغاية ما يطيقونه هو الدعاء للأمير بالسداد، وحتَّى قادة الجيش لم يكونوا أهلا للقتال، وإنما رجال طاعة، وتنفيذ أوامر.
لم يجب أحد رغم طول انتظار أبي المعالي، أثقلت قاماتهم أعطياته، تركوا له التفكير، وارتضوا بهزِّ الرؤوس، تأييدا بغير شروط.
استدارت الحاشية نحو الصامت، أشار له الأمير المرتاب بالتحدُّث، وقف، ونطق بعد طول انتظار و صيام:
- أصلحنا اللهُ، وأصلح لنا الأميرَ، أ تريدني ان أشير عليك بالباطل، أم بالحق الحقيق؟
أ أوصيك بالهرب، و أنا أرى حلب ساقطة دون قتال، فقد صفق الرجال لكلِّ ما قلت دون أن يسمعوه، وتعطلت الفطنة إلَّا عن الدرهم والدينار؟
ما ينفعنا نحيب، وقد سكنت الهزيمةُ القلوبَ، وسرى الخوف بيننا، ثمَّ أناخ ركابه قربنا.
الاحترام يا أمير يفرض على العدوِّ ولا يستجدى، وهو إنصافٌ لأبناء البلد، وليس منَّة من أحد.
أيَّها الأمير المسكين، إن أردت أن تسمع صدى صوتك ،فما حاجتك بآراء العشيرة، احذرهم قبل العدوِّ فهم عدَّته الخفية.
- لو تصرف المال على الجنود، وتشتري لهم سيوفا من فولاذ مقسَّى، ودروعا وأعتدة جديدة، لنافحوا عنك، وعن أبراج المدينة.
قبل أن يجيب الأمير، استلمَّ الوزير الأول زمام الدفاع المقدَّس:
- كيف تجرؤ أيُّها الحقير.
أنت الخائن، الذي نبحث عنه منذ أيَّام عديدة، من دلَّ الروم على أبواب المدينة !
لم نعد نخشاهم، فقد كشفنا مؤامرتك الدنيئة.
حاصرته بطانة السوء بشرر العيون ، وتطاولت أصابعهم إلى عنقه النحيل، لكنه لم يتراجع، وخاطبهم بصوته الواثق:
- دعوني يا لصوص العصر، لست طارئا في وطني، ولا متسوِّلا في بلاط الأقزام، وصائدا لجوائز الحكام، ومدَّاحا للوزراء والأزلام.
أنا صوت فقير أعياه السغب، و آهات مسكين أضناه التعب.
لن أتسوَّلَ عطفكم، ولا أخاف بطشكم.
صرت أحيا في فيء الحنين، وتحت أنوار العتب.
قطعتم الثلج في غيمه، و ماء النبع من شركم نضب.
لم يبق في البلاد طريقا واحدا سالكا، وأغلقتم كل المعابر إلا إلى السجون والمقابر. ما كان اسمه في الغابر وطنا، صار اليوم معروضا للروم بلا ثمن، وفوقه شعب معذَّب للبيع بلا طلب.
بنظرة من عين الوزير الغاضب، هرع حراس القصر، قيدوا المجترئ على عرش الإمارة، وقبل أن يوصدوا فمه، سمعه الحفلُ ينشدُ:
" كن كالطير المهاجر، لا تبالي بالمخاطر" *
أبدى الأمير أبو المعالي غضبا أشدَّ من وزيره، عرف أنَّ الرَّجل يقول الحقَّ، ولكنه خشي من جرأة الحاشية عليه، أصدر حكمه بحزم:
- اعدموا الخائن، ضعوا جسده فوق القلعة، و ليكن عبرة للمقيمين و المسافرين.
دمعت عينا الشاعر بحركتي شجن، منعا لالتقاء الساكنين، ثمَّ ارتدى الخشوع رداء للأبد.
اقتربت فرقة استطلاع روميَّة من حلب، رأوا جثمان الرأي الأخير، مسجى فوق أسوار المدينة.
أعلموا قائدهم، أمرهم باقتحام المدينة فورا:
- يمكننا الآن الانتصار بسهولة، تسقط الممالك حين يكون الحاكم فردا، يطربُ الصحب لصوته الوحيد، ويصفقون دون أن يفقهوا له قولا، و الأدهى أن يصدق الملكُ الكذبةَ، ويرفض حكم العقل.
خلع الرومُ أبوابَ المدينة، صادروا كُلَّ الذهب والجواهر، اختفى الأمير، حار الشعب، ما استطاع الهرب إلا المُطبِّلون.
خرج جيش الروم بعد أيَّام من حلب، لم ينسوا أن يحرقوا كلَّ الكتب، تركوا عمدا آلاف النسخ من كتاب واحد، خطَّه الوزير الأول قبل الانهزام، اتهمَّ فيه من خالف الأمير المفدى بالتجسس والخيانة.
* مقطع من أغنية شعبيَّة قديمة، بتصرف بسيط.