حين غادر آخر المعزين المنزل وقف خالد في الساحة الفسيحة الممتدة يحدق في الآفاق اللامتناهية البعيدة، وأحس بدموعه المنهمرة الحارة، فلم يقدر على منعها. وسرعان ما انتقل ببصره إلى الحقل الممتد مترامي الأطراف. كانت أشجاره الحبلى بحبات الزيتون السوداء صامتة صمتا رهيبا، كما لو كانت تمارس طقوس عبادة مقدسة، وبدت له تلك الأشجار في حالة حزن مقيت لإحساسها بالفقد منذ فارقها راعيها، فخيل إليه أنها تذرف الدمع بلا انقطاع. وارتسمت في ذهن خالد صورة والده وهو يذرع الحقل جيئة وذهابا ويداه لا تكفان عن مداعبة الأغصان اليانعة المتدلية بحباتها اللامعة البراقة تحت أشعة شمس أكتوبر الحارة. ويراه الآن وهو يسير الهوينى بمحاذاة طابية الهندي يراقب سير الجرار البطيء أثناء حراثة الأرض بهديره الصاخب الذي يبلغ أقصى القرية.
تعلق والده بهذه البقعة المباركة من الأرض السخية بخيراتها، أحبها بخريفها المقفر الموحش وبشتائها الرطب القاسي وبربيعها الزاخر الحافل بالورود والأزهار وبصيفها الحاد الجارح كمخالب صقر. وأفنى شطرا من حياته يخدمها بما أوتي من جهد ولم يشك يوما ولم يتذمر، روّض نفسه على تقلباتها فراضت. زُرِع في تلك التربة فنمت فيها جذوره، وتشبث كلاهما بالآخر ولم يفرط أحدهما في صاحبه، يعود إليها مثل عاشق متيم مهما طوحت به المقادير وهو يعلم علم اليقين أن معشوقته في انتظاره تشتاق للقياه.
شعر خالد بألم ممضٍّ يعصر قلبه ويعصف بما بقي فيه من أحاسيس، ولأول مرة منذ ما يزيد عن العشرين سنة يحس بهذا المدى الرهيب من الفراغ والوحشة. فها هو والده وسنده في الحياة يرحل عنه بلا عودة. يحدق الآن في الفراغ، ويشعر كأن السماء تنطبق على الأرض فينسحق بينهما. لن ينتظر بعد اليوم أحدا، ولن يتقاسم بعد اليوم كأس الشاي مع أحد، فقد رحل كل الذين يحبهم وظلوا ذكرى تتأجج نيرانها بين الفينة والأخرى، وهاهو آخر حبات العنقود يقرر الرحيل دون وداع.
حاول لملمة ذاته وطمس الندوب المرسومة على وجهه وفوق كفيه فلم يفلح. لم يجد مرهما لجراحه، وهو يعلم أن الجرح الذي يلتئم دون مراهم لا برء منه فتظل تلك الجراحات فاغرة فاها محدقة إليه في عناد تستمتع بعذاباته.
تابع خالد آخر المعزين وهو يمشي مطأطئا رأسه وخيل إليه أن دموعه تنسكب ولا يمد يده لكفكفتها. تركه يواصل سيره ثم ارتد إلى غرفة والده، فرأى فراشه ومسبحته وعكازه كلها على حالها تماما مثلما تركها. لم يودعه، تناول معه آخر فطور وقاسمه كأس الشاي الصباحي اللذيذ، تركه ممددا فوق فراشه يداعب حبات مسبحته ولسانه يلهج بالأدعية والأوراد، وراح يتفقد الإسطبل والقن، ثم مال إلى أحواض مزروعة خضرا فسقاها، وعاد إلى الغرفة، نادى والده كما تعود أن يفعل حتى لا يفاجئه وهو يدخل عليه، كانت الجدران صماء والأبواب قد أصابها الخرس، كرر النداء فتردد صوته في الفضاء الممتد ثم ارتد إليه شهيقا ونواحا. دلف الغرفة فتسمر في مكانه، والده ممدد والعينان مفتوحتان تحدقان في الزاوية اليمنى والشفتان منفرجتان كأن صاحبهما يُنهي ابتسامة عذبة، والجسد الذي كم قد قطع تلك الفيافي وسار في تلك الوهاد ملقى كالهناة بلا حراك. رفع يد والده ثم تركها فتراخت. لم يدر ممن اكتسب تلك الجرأة حين مد يدا مرتعشة وأسبل الجفون على بعضها ثم مررها على الشفتين فأطبقهما، ثم أسند رأسه إلى الغرب، ومن الصندوق الخشبي العتيق أخرج قارورة عطر وسكبها فوق الجسد المسجى. ثم خرج وجرى نحو دار أقرب جار لهم وأعلمه بما حدث، فسرى الخبر ولم تمض سوى دقائق حتى كانت الدار تغص بالباكين والنائحات والمعزين والمتطفلين...
"إكرام الميت دفنه" قال الحاج الهادي إمام المسجد وخطيب القرية. فأمّن الجميع على كلماته، فهيِّء الميت وحمل على أكتاف الرجال وهم يكبرون ويهللون، ووري التراب في قبر حفره ذوي البر. وفي اليوم الموالي بُني القبر ووضعت الشاهدة التي تنبئ عن اسم الساكن الجديد وتاريخ مولده وتاريخ رحيله. كلمات قليلة محت مسيرة سبعين عام أو يزيد.
لم يدر خالد كيف قضى ليلته تلك ولا بقية الليالي الثلاثين التي أمضاها وحيدا يتقلب بين حزن وحزن. أمضى شهرا كاملا يصل ليله بنهاره في بكاء مر ونحيب مقيت ووحدة قاتلة. وحين جفت مآقيه قرر أمرا خطيرا...
ها هو يسلك المسلك الترابي الضيق الذي تعود السير فيه حين كان يريد الذهاب إلى المدينة. ابتعد عن الحقل وأشجاره والدار وساحتها. وحين حانت منه التفاتة رأى المالك الجديد ينزع قطعة الخشب التي ثبتها خالد منذ يومين وكتب عليها بخط غليظ يُرى من بعيد "للبيع".