"من لا يحبُّ خضُّور، ذاك السند الصلب، والصديق الوفي، كم نحن محظوظون، بأن يكون جزءا من حياتنا"؟!
كان مقهى الأطلال القريب من كليَّة الآداب، ملتقى الزملاء الدائم، شباب في مقتبل العمر، يحلمون بتغيير العالم، وبمستقبل أفضل.
لم يكونوا مفرطي الغنى، ولكنهم ميسورو الحال، إلَّا خضُّور، لا أحد يعلم عنه شيئا، ولم يخطر ببالهم يوما أن يسألوا.
كان لا يتكلم إلَّا نادرا، ولضرورة قصوى، فكأنّه يملك عشرين أذنا ولسانا قصيرا، بينما يتحدث رفاقه دون توقف عن طموحاتهم، وخيباتهم العلمية والعملية، وأحزانهم العاطفية والنفسية.
استحقَّ هذا المكان اسمه، فقد شُيِّد في أوائل خمسينيات القرن العشرين، وشهد أحداثا عظيمة، وحفلات غنائيَّة، وأمسيَّات أدبية وشعرية لكبار ومشاهير.
فقد بريقه بمرور الزمن، ولم يبق من مجده الغابر، إلا ذكريات نادرة، تصدَّعت جدرانه، و غلب عليه القدم.
كان أول الواصلين، وآخر المغادرين، ما أن يطلُّ حتى يبدأ صاحب الأطلال ، بتحضير كأس شاي ضخم أحمر مسوَّد، كما يفضله خضُّور.
ما أن أخذ منه بضع رشفات حتى جاء ماجد، والدموع تطفر من عينيه، شكا لخضُّور كيف تركته حبيبته، ونسيت وعودها له بالإخلاص الأبدي، فقد تقدم لخطبتها عريس مناسب.
وضع خضور يده على رأس ماجد، الذي أجهش بالبكاء، وكقدِّيس من زمن آخر، تمتم في أذنيه كلمات الشفاء:
- سأتحدث إلى هدى، وأقنعها بالعودة إليك، لا تقلق.
لم يك خضُّور رجل كلام فقط، فقد وفَّى بعهده، ولم تمضِ أيَّام إلا وقد عاد الحبيبان كأفضل مما كانا، ونسيا الفراق والأحزان.
حين تخاصم مؤيد مع والده، وترك البيت، تولى خضُّور الوساطة، وكساحر طيِّب، أقنع أبا مؤيد بقبول اعتذار ابنه دائم السهر، والتأخر بالعودة حتى ساعات مبكرة من الصباح، كان خضُّور الكافل والضامن.
يوم قاد نزار سيارته بسرعة جنونية، تحت تأثير الغضب وشيء من الخمر، وصدم رجلا مسنا، وكاد يقتله، أصابه الهلع، ولم يجد إلا خضُّورا ليخرجه من السجن، ويقنع أهل الضحية بإسقاط حقهم الشخصيِّ.
ما ذكرته لكم عن خضور ليس إلَّا القليل القليل، غيض من فيض أفضاله على زملائه، كان أمانهم عند الملمَّات أثناء دراستهم الجامعية.
لم ينقطع التواصل بينهم بعد تخرجهم، استقر البعض في دمشق، و سافر آخرون إلى أوروبا، فمن شلَّه الحنين إلى الوطن، اتصل بخضُّور، ومن أغضبته زوجته أو ربُّ عمله هاتفه.
أمَّا خضُّور، فرغم الحرب، وتفرِّق الأحباب، والأصحاب، لم يغادر، وآثر ملازمة بلدته الصغيرة، في منزل العائلة القديم، مع والديه المسنين.
ما زال يعمل مدرِّسا للتاريخ، في ثانوية النهضة، محبوبا من طلابه، ومحترما من الجميع.
بلغ عمره الخامسة والأربعين عاما قبل أيَّام قليلة، ولم يحتفل طبعا بعيد ميلاده.
انشغل خضُّور بتمريض والدته، وما تبقى له من وقت، صرفه في تحضير دروسه، وانقطع إراديا عن أصدقائه.
تعطَّل هاتف خضُّور الأرضيّ منذ أشهر طويلة، ثمَّ تخلص فجأة من الخلوي!
على الجانب الآخر للأحداث، أصاب قلق عارم الأصدقاء القدامى، فماجد تشاجر مع زوجته، وضربته نوبة غضب عارم، صفق الباب، وخرج على غير هدىً.
دقَّ الرقم الذي يحفظه عن ظهر قلب، كان الجوَّال المطلوب خارج نطاق الخدمة!
كان والد مؤيد مريضا بشدة، أراد الترويح عن نفسه، حاول الاتصال بخضُّور، لكنه لم يسمع الضحكة المنتظرة على الهاتف الآخر.
لم يك لخضٌّور صفحة تواصل اجتماعيٍّ، تهاتف الأصدقاء فيما بينهم، تضاربت مشاعرهم، غضبوا منه فربما أصابه الغرور، لم يصدقوا، ماذا غيَّر الصديق القديم، قلقوا، فلا يمكن أن يكون بخير ولا يردَّ؟!
قال نزار:
- نعرفه منذ ما يزيد عن ربع قرن، ولم يسبق له أن تجاهل اتصالا واحدا منَّا!
ردَّ ماجد:
- لا نعلم، فتقلُّب الأيَّام قد يغيِّر القلوب، ولا يبقى الحال كما هو.
مضى على اختفاء خضُّور ثلاثة أشهر، استحال تعويض الفراغ الذي تركه في قلوب الرفاق، ولم يستطيعوا تجاوز شعورهم بالعزلة والضعف، كأنَّما أصابهم السبات...
تجمعوا لأول مرة منذ سنوات، بادر مؤيد، أخرج دفتره العتيق، ذهبوا معا إلى مقهى الأطلال، غطَّى الصدأ سقفه المعدني، كما كسا الشيب رأس صاحبه، الذي أجابهم:
- لم أر خضُّور مذ دهر، ولكنِّي أعرف اسم قريته.
قصدوا القرية الضائعة بين التلول، لم يرهبهم الثلج المتراكم، أو طريقها الخطر، ولا الريح الشرقية في أول أيام شباط.
كانت الأمكنة شبه خاوية، إلَّا من دجاجة تجتاز الشارع بطيران قصير في آخر لحظة أمام السيارة العابرة، أو فلاح يدفع بجهد بالغ حماره الهزيل المحمَّل بأغصان يابسة، ستصبح وقودا لمدفأة حطب، أو أولاد صغار يلعبون" الدحل"، تمردوا على البرد ليستثمروا عطلتهم الانتصافية التي بدأت منذ أيَّام قليلة.
اقترب نزار من أحد الأطفال، سأله عن خضٌّور، أشار الصغير إلى بيت يقع تحت مستوى الطريق العام، ولا يمكن للسيَّارة أن تصل إليه.
كان الدرب قصيرا نسبيَّا، ولكنَّه متعرج، يغطي الوحل قسما كبيرا منه، وتقطعه تجمعات ماء صغيرة، من جانب إلى آخر.
مشى الجميع بتؤدة ؛ تجنبوا السقوط الوشيك ؛ إلى أن وصلوا إلى منزل؛ فوقه غمامة دخان أسود؛ يبعثرها تيار هواء بارد في الفضاء.
كان بيت خضُّور مفتوحا على الوادي؛ أمامه فسحة طينية سيئة التنفيذ؛ تشغل بعض زواياها مساطبُ ورد جوري وزنبق.
دقَّ مؤيد الباب بيد مرتجفة، مضى وقت قصير جدا، كان أطول انتظار في حياتهم ، فقد اعتادوا على جواب خضُّور السريع لهم.
أطلَّ رجلٌ منتفخ الجفنين قليلا، أصلع ما بعد الجبهة، يغطي كتفيه بسترة عسكرية، فهذا اللباس صار علامة مسجلَّة للبائسين، يفرحون باقتنائه كما يسعد غنيٌّ بارتداء علامات ال أديداس وبوما ولاكوست.
رنا الأصدقاء إلى خضُّورهم بعيون جديدة، أدركوا الآن وجهه الحقيقي، كان هو هو، ولو تغيرت ملامحه بفعل السنين، لكنهم في الماضي ما عرفوه، إلَّا انعكاسا لرغبتهم بالأمان والدعم.
لم ينشغلوا بخضور نفسه، لم يسألوا يوما عن أهله كيف يعيشون، أ له حبيبة، أم هل لديه أخوة، أين يسكن، كم حافلة يمتطي من الجامعة إلى بيته ؟
كان لكلٍّ منهم خضُّوره، أمَّا خضُّور الحقيقي فلم يعرفه أحد.
في هذا اليوم الشتوي البارد، تعرفوا عليه من جديد، وسمعوا شيئا عن حياته، عن أبيه الفلاح المخلص لأرضه، وأخوته الذين يحرسون الجبهات، وعن الفقر خلِّه الوفي، بسببه هجرته الفتاة الوحيدة التي أحب: شادية.
حدَّثهم خضُّور عن والدته، أضناها المرض المزمن، وصرفه كل ما يملك من محبة ووقت ومال للعناية بها، عن شعوره الأزلي بالوحدة، ولم ينسَ أن يخبرهم عن فخره بتفوق طلابه.
فهموا أخيرا قراره بهجرة هذا العالم.
غلى الماءُ في الإبريق، وضع فيه خضُّور أوراقَ الشاي، تسابق مؤيد ونزار وماجد، ليرووا لخضور ما حدث معهم، في الأشهر الثلاثة الماضية.
أنصت لهم، صبَّ لهم الشرابَ الأحمرَ القاتم، انقلب تحفظه إلى ابتسامة حذرة، فضحكة عريضة مجلجلة.