وقف قبالة مبنى المحكمة من بعيد. كانت الشمس تشتعل فوق الرؤوس، و كانت العمامة تحمي رأسه من شرورها. تملّى في الجموع البشرية التي لا تني تدخل و تخرج دون فتور. رغم أن معظم مباني المحاكم في الجمهورية تتشابه إلا أن هذا المبنى بدا له مختلفا؛ و هو القاضي السابق الذي جال في البلاد وصال.
لم يرتدِ زيًّا أفرنجيًّا، بل آثر أن يلبس الجلباب والعمامة والمركوب المصنوع من جلد النمر. أراد أن يوحي أنه ابن بلد للقاضي. بصفته قاضٍ سابق فهو يعلم بالحقائق الصغيرة، و الحقائق الضغير رغم أنها كثيرة، إلا أنها تبقى دائما مثيرة.
***
الظن بأن صغائر الأمور وقشورها مثل زيّ المتّهم و هيئته لا تؤثّر بتاتًا في القُضاة والقضايا، إن هو إلا وهمٌ شائع. من الساذج الذي سيصدّق هذا! إلا –اللهم- طالبًا جامعيًّا بريئًا يقرأ في كتب كلية القانون و يتوه في أجوائها المثالية التي لا تشبه قاعة المحكمة إلا في الوصف الخارجي فقط. المحكمة مكان صنعه البشر العجيبون أولاء أنفسهم، والتقاضي هو عمل بشري يقوم به في الغالب بشر خائفون وجشعون ورعديدون. يا لها من بديهة تائهة!
***
"مولانا فرح.. إن القضية المطروحة أمامكم.." أخذ يكلم نفسه و هو يتصور نفسه مدافعا عن قضيته. كان قد انتوى أن يقوم هو بالدفاع عن نفسه. أخذ يراجع جميع جوانب مرافعته في خياله. لن يقرأ من ورق، سيرافع من عفو خاطره ومن إحساسه الداخلي بانفعالات القاضي. بعد أن تمت إقالته، عمل مباشرة بالمحاماة واستخدم خبرته الشخصية في أسلوب عمله. كان ينفق جهدا في فهم قضاة قضاياه أكثر مما ينفق في الضياع في تفاصيلها القانونية. كان قد طوّر أسلوبًا خاصا به يجعله يستخدم ما استشفّه من أحاسيس القاضي ليُفيد به موقفه في القضية.
كان هذا منذ زمن، وكان هذا أثناء عمله في الأقاليم وقبل أن ينتقل هو و زينب والأولاد إلى الخرطوم. لكن بعد أن جاء إلى الخرطوم استغرق زمنا في الوصول إلى الشقة التي اشتراها هو وزينب معًا، لم يكن لديه الزمن الكافي ولا الوقت الكافي ليفتح مكتبا في الخرطوم، تلك المدينة التي أدهشتهما بتكاليفها الباهظة وبألاعيبها الطائشة.
***
من قال أن الشغل متوفر في الخرطوم حتى أنه مرميٌّ في الشوارع فائضًا عن مقدرة المحامين! صحيح أن الشغل في الأقاليم لم يعد كما كان في السابق، لكن لا يعني أن الخرطوم شفطته. الحقيقة هي أن الأولاد كبروا، وأن الجامعات العريقة هي في الخرطوم، وأن الآباء كلما كبروا احتاجوا إلى أبنائهم أكثر، ولا يعودون يطيقون بعضهم بدون الأولاد. تصبح الأقاليم مملة و نهاراتها طويلة يلوك ساعاتها الناس مع أنفسهم ومع أصدقائهم الذين لا يتغيّرون.
زينب نفسها كانت قد ملّت من كل شيء، وصارت ترى أن الأولاد هم الحل الذي ليس معه ملل، حتى أنها وافقت على بيع قطعة الأرض التي كانت نصيبها من ميراث والدها من أجل أن تبدأ حياة جديدة في الخرطوم هي وإياي. لم تكن فكرة الطلاق تأتي إلى ذهن أيٍّ منّا. كانت فكرة الانتقال إلى الخرطوم تتضمن أيضا القرب من أختيها التوأمتين، وحين رحلا إلى الخرطوم سمحتُ لها بالإكثار من زيارتهما، بل وقمتُ بتوصيلها عدة مرات.
لم تكن هناك خلافات تذكر عدا تلك المشاجرات الزوجية المألوفة. كنت أتمتع بالثرثرة معها. كنتُ أحكي لها عن كل شيء في حياتي، عن مخاوفي وعن مسراتي، وعن غرائب القضاء و المحاماة. حكيتُ لها عن القضايا الغريبة للأزواج، وعماذا كنتُ سأحكي لها أنا قاضي الأحوال الشخصية السابق، و المحامي حاليًا وهي المحامية التي تجدّد رخصتها دورية خوفا من أن يصيبها النسيان حول دراستها!
كم سمعتها وهي تضحك من حجج الطلاق الواهية للأزواج المخادعين! وكم ضحكت معها على اتهامات المثلية الجنسية التي تلفقها الزوجات على أزواجهن! وكم حزنّا معًا على أولئك الذين يلفّقون تهم الجنون والخرف على آبائهم ليرثوهم أحياءاً! في الحقيقة كانت زينب مستمعة رائعة وذكية، لم يكن يفوتها شيء. كانت تسأل عن كلِّ ما يغمض عليها، وتستوعب المخارج والمآخذ القانونية والقضائية. كيف يمكن أخسر هذه المرأة!
***
بسهولة التقطت عينه زينب وأختيها في ثياب تقليدية بيضاء يجلسن في الصف الثالث. رآها ظبيةً بين حلّوفين. أتراه حنَّ إليها أم عليها! بدت له هادئة أو كأنها مستكينة.
كانت قضيتهما هي الثالثة في الترتيب. في الانتظار راح يستعيد جوانب مرافعته التي سيحسم بها رغبة زينب في خلعه والاستحواذ على الشقة. قد يضطر إلى تذكير القاضي فرح بأنه زميل سابق رغم أنه محامٍ حاليا، أو ربما لن يفعل. لا زال مصرا ألا يستخدم أي ورقة في يده. كان يريد أن يفحم كل من كان القاعة.
نادى الحاجب واعتلى القاضي المنصة، فإذا به أنثى وقورة لا تتقحّمها العيون. وبُهِت عبد الباقي؛ فقد كانت كل توقعاته و خططه مبنيّة على أن يكون القاضي رجلًا. لم يدر بخلده أن "فرح" هو اسم مشترك بين الرجال و النساء. استغفر بصوت عالٍ، ثم تشاءم عميقا لاضطراره الآن لتغيير خطته جذريًّا.
***
ليس هو ممن يستهويهم عمل النساء، بله أن يصرن قاضيات. لم يبق إلا أن ي اكمن الرجال على منصات القضاء الشرعي والأحوال الشخصية. في الخرطوم هنا يملأن مكاتب المحاماة، وها هن يزحمن مكاتب القضاة. لكن لا بد من أن تتغير الخطة سريعا الآن. القضاة بشر، والبشر –بوعيهم أو لاوعيهم- ما يزالون ينحازون منذ الأزل، وإلى الأبد سينحازون. إذن فدمعتان من زينب قد تحسم القضية لصالحها.
أهِيَ السِّنّ بالسِّنّ، والعين بالعين! لكن هل ستفعلها؟!
في قرارة نفسه كان مستحيًّا مما فعله وقتها حين لم يشارك في دفع ثمن الشقة رغم امتلاكه للمال. وقتها رضي بأن تدفع هي ثمن الشقة كاملا وتُكتب باسمهما معًا. كان يظن أن المال الذي لم يدفعه سيفيده بطريقة ما في حياته الجديدة في الخرطوم. كان يظن أن الضّبعتين الخرطومتين أختاها قد يسلبانهما كل ما لديهما. يظل ذلك احتمالًا ممكنًا طالما أن الأخوات لم يقسِّمن ميراث أبيهما بسلام أخوي بل بحرب قانونية استمرت سنتين في المحاكم. كان لا بُدّ من أن يكون هو الحكيم رجل البيت الواعي للمخاطر -سيّما غير المنظورة. كان سيوفر المال لمجابهة أي خطر محتمل مثل أن تكون عقود الشقة مضروبة، أو أن البائعين هم سماسرة أو مزّورون. كل شيء محتمل.
لم يكن يقصد أبدًا أن يستخدم ذاك المال في زواجه السري. هو لا يعرف بدءًا كيف استطاعت عبير الاتصال به بعد انتقاله إلى الخرطوم. كل الأمر كان عبارة عن مجموعة واتساب جمعت محامين و جمعتهما وتطوّرت الأمور بسرعة و و... حصل النصيب. ألا يظل الزواج قسمة ونصيبًا!
لم يكن ينتوي أن يعدّد أصلًا فوق زينب. أكانت نزوة، أم هوة؟! ثم كيف عرفت؟! من أخبرها بالسر؟! العقربتان؟!
***
نادى الحاجب وأتى دورهما. سألت القاضية عن محامِ كلٍّ منهما، فأعلنا انهما سيترافعان نفسيهما. أبرزا لها بطاقتا المحاماة وسجلت القاضية تفاصيلهما.
جرت الإجراءات بسرعة. قرأت القاضية المذكرات القانونية المرفوعة و فندتها بشكل سريع، ثم وجّهت استفسارًا مباشرا لزينب عن سبب طلبها للخلع. بكل ثبات أجابت زينب. لم تذكر الشقة، ولا نزوته العابرة، ولا استئثاره بماله عن مالها، ولا مصلحة الأبناء، ولا القرب من عائلتها. أحنت رأسها بخشوع، وهمست بصوت أنثوي خافت لكنه –لا شك- مسموع: أخاف الفتنة على نفسي.
وهكذا انتهى كل شيء بضربة الصاعقة. لم يدرِ ما يفعل. أحس بالعار يعتريه وبالخزي يشلّه. لم يتحمّل هول الموقف نفسيًّا. متيقنا من خسارته، أبدى موافقته فورا على طلب الخلع والتنازل عن الشقة. ما لبثت القاضية حتى و نطقت بحكمها مقرة الطلاق و بتحويل ملكية الشقة كاملة لزينب. غادرت الأخيرة قاعة المحكمة تسير سير اللبؤة و عليها سمت الانتصار، فيما غادر هو وهو يفرد العمامة الملتقى حول رأسه و يلفها حول وجهه متلثمًا فرِقًا من العيون التي تكاثرت كالنمل حوله –أو كما بدا له!
انتهت
يونيو 2020