مقدمة:
تعود فاطمة بعد أربعة سنوات حيث تقاطر عرقها حبات، حبات، وتعالى غناؤها وماجت أناتها صدىً، وهي تذرع المسارب والرفقة تجني حلو الثمرات، فرولة كالدم قانية، وحلوة كالشهد مذاقا، تداري الضنك وراء بسماتها الشاحبة، وتقوّم صبرها الواهن بحمدلاتها المتواصلة؛ وتقف على حدود عرزال متهالك، تتأمل الأرض الجرداء المنبسطة أمامها، ثم تغمغم:
ـ من كان يساوره أن هذه الضيعة تصير خالية على عروشها، وكأن لا ماء جرى فوقها، ولا يد قطفت ثمارها، ولا كان لها مجد وخبر.؟!
في اللحظة ذاتها تقف (مرسديس) بيضاء، يترجل راكبها ، ويقف قرب فاطمة، ثم يبادرها يالسؤال:
ـ أما زلت تحنين لتلك الأيام الخوالي، يا فاطمة، ليتها تعود ونبدأ من جديد، وأكون... أفضل مما كنت عليه...آه... مني آه..!
تلوذ بالصمت، وكأنها ما سمعت، بل وكأن الحاضر لا وجود له...!
***********
أتى من حيث لا مكان! وحط الرحال على ناصية الزقاق؛ و من دكّة على باب مهجور اقتطع ركنا ـ ترعاه بفيئها أغصان شجرة تين تطل من باحة وراء سور مشروخ ـ واتخذه متكأً. لم يبال به شبح الأم عائشة الهالكة صاحبة البيت، ولم ينهره كما يتوهّم صبية الجوار حين يلعبون قرب الباب لحظة تراخي موجة الصهد عشاءً، أو حين يحاولون جني ما تدلى من ثمار الأغصان الحانية أيام القطاف ...
كان شخصا عاديا، نحيلا شيئا ما وطويلا، أسبط الشعر، كث اللحية، ينتعل جزمة ويلبس "دجينا" باليا وقميصا كاكيا، بل ما كان شيئا مثيرا فيه عدا جلسته القرفصاء الانطوائية، وهيئة وقار تفيض على وجهه الهادئ، وما كان يملك من سقط متاع: معطفٍ افترشه، وجرابٍ، احتضنه احتضان الأم لوليدها، وعصاً لا حاجة له بها وهو السليم البنية، الرشيق الهيئة، الخالي من العرج..
لم يكن يغادر متكأه إلا لماما، وإنما يظل قابعا يطالع الزقاق الضيق، يمسحه وسابلتَه بعينين كسيرتين متقدتين فطنة ونباهة ، ولما يتعب ـ ربما ـ يشرع في نثر أوراق وصور أمامه ، لا أحدَ قد عرف، أو يعرف محتواها، ثم ما يفتأ ويعود ويلمُها حارصا على سلامتها من الطي والتلف.
لم تهتم به ساكنة الزقاق كثيرا، سريعا ما هضمت وجوده بينها وصار وشجرةَ التين المطلة من وراء السور القديم سيان ، قد تناولته الألسن يوما أو يومين، و لكن سرعان ما تناسته..
قدروا أنه رجل متعلم، خبير بالكتابة والقراءة، وازدادوا يقينا حين رآه بعضهم يخاطب سياحا مرة باللغة الإنجليزية، وبالفرنسية مرة أخرى بطلاقة وبدون لكنة وكأنه قادم من وسط باريس، أو سيد من سادة ( لندن ) وهو يقول لهم حين كانوا يحاولون أخذ صورة تذكارية لتعشيقات زُخرفية على طول إفريز ينمنم منزل أم عائشة:
" تنحوا عن المكان... اغربوا عن وجهي لست تمثالا ولا المكان صرحا تاريخيا... ابتعدوا من هنا "..
بلغ الخبر يوما أمّ حسن، فأتته ذات ضحى وفي يدها اليمنى شريط من تين جاف، وفي الثانية ظرف وورقة وقلم. وقالت له:
أيها السيد الطيب! منذ خمس عشرة سنة، ركب حسن .. ولدي البحر ركوبا غير شرعي، ورسا ورسّى على أرض النصارى، كما أخبرني في رسالته الأولى، واشتغل في مزرعة دجاج كما أخبرني في مكالمة هاتفية، وبشرني بأنه سيرسل لي قدرا من المال عما قريب، لكن يا حبيبي لم يبق يهاتفني ويكاتبني من يومها؛ اكتب له من فضلك خطابا حضّه فيه على أن يفتكر أن له أما وحيدة هنا تنظر إشراقة وجهه الجميل، وإن عز الطلب قل له : "تكفيني بضع كلمات على خط هاتفي الأخرس!"
تأملها في صمت وقال لها :
أنت يائسة يا أمي، أليس كذلك؟
ردت، وقد طفر ينبوع دمع من عينيها، سرعان ما مسحت أثره بظهر يدها المعروقة:
ـ قل سوداوية يا ولدي!..
غاص مرة أخرى في موجة صمت، استطولتها السيدة، فخرقتها قائلة.
ـ هل ستفعل يا عزيزي.
رد وابتسامة تضيء وجهه الملوّح بالشمس، والقر:
ـ استغفري الله أولا، فلا ذنب أكبر من اليأس من رحمة الله، ولا أشد سوءا من القنط من مدد الرب، سأفعل بما تأمرين، وتفاءلي خيرا
ردت الشيخة وهي تبتسم:
استغفر الله، لا إله إلا هو، خير الراحمين.
عندئذ، أخذ منها الظرف والعنوان وقال لها عودي بعد ساعة ومعك الطابع البريدي...
بعد ثلاثة أسابع كانت أم حسن جذلى، يكاد الفرح لا يسع صدرها الصغير، توزع قطعا شهية من الخبز الطازج وحبات التمر على الأطفال الصغار، وبين حين وآخر ترد على مباركات جاراتها على ظهور حسن من جديد من خلال رسالة قادمة من الديار الفرنسية بالدعاء لهن بالخير والبركة، أو تسال كل ذي علم بالمال عن قيمة صرف الأورو في الأبناك...
******
ذات صباح، والزقاق عائم في سكونه المعهود، والغريبُ جالس القرفصاء على دكته يرعاه بعينيه المتقدتين، يسحبهما ذات الشمال واليمين، وإذ بعنزة تعكر صفو الهدوء بمأمآتها، وركضها بلا وجهة!.
ضائعة كانت!.
ربما كانت تبحث عن قطيعها، أو جدي لها، ولما ضاقت بها الآفاق، قصدت دكته وشرعت تأكل ما نبت حولها من نجم وحشائش.
كانت قريبة منه، لم تجزع منه ولم تخف، رمى لها بقايا خبز بجانبه، فأقبلت عليها تلتهمها بنهم، ولما فرغت عفطت لتستزيد.. فزادها.
ولما اكتفت مأمأتْ مأمآتٍ متلاليةٍ مقلبة راسها ذات اليمين والشمال ثم ثنت رجليها في هدوء و ربضت قربه لاويةَ عنقها على جنبها، وأغمضت عينيها...
بعد قليل قام من مكانه فقامت، خطا خطوات، فخطت مثلها عددا وراءه ككلب، وخاض طول الزقاق، وخاضت معه نفس المسافة، عاد القهقرى، فالتفّتْ معه وكأنها جزء منه؛ سرّته رفقتها بل سعد بها، واستعجب منها كما استعجب سكان الزقاق والسابلة.
عن قصد أو دونه، ساقته رجلاه إلى المقهى، فاختار الطرف وجلس عل كرسي فارغ، ربضت العنزة قربه. وصاح :
ـ قهوة سوداء ياولدي، وكروسان كما هو... الحال!
شرب القهوة وأكل الكروسان برشاقة ونبل ومسح يديه بمنديل ورقي، ثم أخرج سيجارة وأطبق عليها بشفتيه دون أن يشعلها كما يفعل أبدا.
جال بعينيه في المكان، كان الكل يحسب أنفاسه، ويتابع حركاته وسكناته، حتى.. الأطفال كانوا حاضرين، فجاة، وقف واعتمد عصاه وقال:
ـ " لعلكم تستعجبون! ؟
رعيّة وراع، ضائعة وضائع!
كنت حزينا هذا الصباح، وكانت هي تائهة، لا أدري من حيث أتت، اقتسمنا خبزا زَرَعَ بيننا ودا، فشكرتني بصحبتها، وشكرتها بالرضى والقبول، سكن قلبي وذاب حزني، رغم أن لا شيء جدّ في حياتي البئيسة، وهي اطمان فؤادها وشاركتني المسيرة عن طيب خاطر..رغم أن نوالي ما كان إلا فَضلة خبز
الضعف قوة، حين يعاضده الضعف، والحزن حين يكبر يصير صرحا تقتعده السعادة، لا تيأسوا من رحمة الله، شدوا الرحيل إليه وأنتم ضعفاء ينصركم، سيروا وهو في قلوبكم، تبلغوا وطركم،
ما مسيرة الملح؟ إلا قوة ولدتها الحاجة، وقلة ذات اليد عند غاندي
وما مسيرة المليون؟ إلا اختمار الضعف في قلب مارتر لوتر كينغ و الشوق إلى التحرر والمساواة،
استغفروا الله حين يداهمكم اليأس من رحمته، فلا حياة لكم إن لم تحسوا بوجود الله معكم وأنتم تسيرون في دروب الابتلاء."
تحرك، وتقدم خطوات أحست العنزة بها فقامت من مكانها وحاذته ، عندها مد يده إلى ضرعها الكبير ومسحه براحته فأخذت حلمتاها معا تنز حليبا!
طلب كأسين فارغين وصار يوزع الحليب، ويقول اشربوا لتحسوا بالسعادة التي غمرتني بها وهي تتكرم علي بصداقتها!
أقبل الجمع على الهدية باندفاع، الكل كان يريد ان يحظى بالسعادة ويحس بها..
لما اكتفى الجمع ملأ كاسا له وهم بشربها، بيد أن رجلا مضطربا يقف أمامه ويسأله:
ـ لمن هذه العنزة يا سيدنا؟
يقدم له الحليب ويطلب منه شربه أولا، ثم يجيبه:
ـ الله وحده و... صاحبَها أعلم!
يرد الرجل وهو أكثر اضطرابا مما كان عليه ويقول:
ـ هي لي.. ضاعت مني هذا الصباح.
دون أن تفارقه الابتسامة يرد عليه:
ـ خذها فهي لك يا سيدي، وارعها ولا تجعل عينك تغفل عنها... إنها عنزة مباركة!.
يجر الرجل عنزته من ربقتها في حين، يلتقط هو عصاه من على الأرض ويشق طريقا له وسط الجمع مغادرا المقهى.
كان الجو حارا وقتها، وكانت شمس غشت في عليائها، تلهب الجو، وتلفح البشرات العارية، فتوقف عند ساقية الحي، ثم تجرد من قميصه وشرع يغسله ويعركه في مجرى الماء الدافق وكل مرة كان ينثر عليه من مسحوق صابون معه، ولما استبرأه رماه على كتفت وعاد إلى دكته وجلس عاريا بعدما نشره.
من بعيد لمحته (حسناء) من شرفتها المقابلة له، فآلمها حاله، فعمدت إلى الدولاب واختارت قميصا من قمصان أخيها البيض وحملته له.
لما وقفت عليه، اعتدل واقفا، وَقال لها :
ـ هل من خدمة سيدتي ؟
مدت له القميص الأبيض وهي تقول:
ـ خذ... استتر عن الحر، ما ألفناك عاريا!
أدبرت مغادرة فاستوقها، قائلا:
ـ شكرا لك سيدتي، على كرمك وعطائك.
استرسل بعد أن تأملها هنيهة قائلا:
ـ وكأني بك تحملين همّا لا طاقة لك به!
ردت بصوت خافت:
ـ لا أبدا.. مطلقا
ـ ولكنك تبدين يائسة.
ـ بل عانسة! والعمر يمر مر السحاب، ولا عملَ لي يدر مالا، ولا ...
قاطعها بضحكة خفيفة، وقال لها بكل لطف وطيبة:
ـ استغفري الله، فلا ذنب أكبر من اليأس من رحمة الله ولا أشد سوءا من القنط من مدد الرب، لربما الخير قادم، فقط هو آت من بعيد، ويحتاج لوقت أطول... الصبح قريب إن شاء الله !.
ابتسمت وشكرته وانطلقت جارية...
بعد ثلاثة أسابيع ارتفعت الزغاريد في الزقاق، وتعالى صوت الصاج والموسيقى، وقيل: إن حسناء العانس تزوجت.
لم يسر الخبر وينتشر دون أن تذكر بركات الغريب، مما جعل مكانه مزارا توضع قربه الأقمصة والأقمشة، وباتت له أغصان شجرة التين، مأواه مشجبا للتمائم، و أوراق المتمنيات المكتوبة .
*********
سلمى الطبيبة الدكارتية ما كانت تؤمن بتلك الخرافات المنتشرة عبر أثير الزقاق الطويل، وما كانت تصدق ما ينسج من كرامات حول شخصية الغريب أو المجذوب ـ كما صير يقلب ـ وما كانت لتشغلها أو تهتم بها، ومعانتها أكبر بكثير مما يُتصور!
فابنها ، ذو العشر سنين قابع في البيت لا حركة ولا حس له، جوارحه كلها معطلة، إلا دوران عينيه الحزينتين بين محجريه يبحثان عن مخرج له من بين زوايا البيت؛ يئس الأطباء من شفائه، وأوكلوه إلى الله، بعدما قال مرض السحايا فيه كلمته ذات صيف.
كان بيتها يضج بالحركة والنشاط و بعد مرضه صار ساجيا يئن تحت الرتابة والصمت القاتل، لا يبعث الحياة فيه إلا حسون ولدها داخل قفصة الحديدي الكبير بشقشقاته العذبة.
أحزنها أن يظل ولدها صامتا ويظل هو يشدو ويقفز، يذكرها بالعجز، وانحسار الأمل عنها. فحملته ذات مساء وقصدت المجذوب.
أمامه وقفت، وعلى الدكة وضعت القفص ،
تأملها المجذوب مليا وقال لها:
ـ هوني عليك يا سيدتي، سينفطر قلبك، وتغادرين وأنت حزينة هذا العالم.. ولا شيء أفظع في حياة الانسان أن يقضي وقلبه مفطور، وثقته في الله ورحمته مهزوزة، استغفري الله وتوبي إليه، فإن مع العسر يسرا. إن مع العسر يسرا
نظرت إليه دون أن تنبس بكلمة، ولكنها لما تولت مدبرة تمتمت كلمات ما تبينت.
لغريب الصدف، بعد ثلاثة أسابيع شاع في الزقاق شفاء ابن الدكتورة وصار يخرج و يلعب ويركض مع أقرانه.
بعد هذا الحدث ازداد يقين الناس ببركات المجذوب وبات اليائسون يحجون إليه محملين بأقفاصهم وقمصانهم وتينهم من كل حدب وصوب، حتى ضاقت به دكته واختنقت أنفاسه من العطايا التي ما كان يقربها، وإنما يهبها لمن هم في حاجة إليها، إلا الطيور ظل راعيا لها، قد وجد فيها عالما ثانيا ينشغل به عن ما يعتمل هو بداخله.
قرر إذن المغادرة والبحث عن مكان جديد لا يعرفه فيه أحد ويبدأ حياة جديدة، لكن لما لمّ سقْط متاعه ورماه على كتفه وبيسراه حمل كل حصيلته من الطيور في قفصه الكبير وانتوى المغادرة استوقفه شاب في مقتبل العمر وقال له اسمح لي سيدي بلحظة من وقتك.
على مضض استجاب وقال للشاب :
ـ هات يا أخي ما عندك:
ظل الشاب صامتا هنيهة وكأنه يبحث عن الكلمات المناسبة للتعبير عما يود قوله ثم اندفع مسترسلا:
سيدي كنت بلا عمل، يائسا، أظل طيلة اليوم ألوّك الفراغ، وأنسج من الرتابة أملا ميتا؛ يوما وأنت ذاهب تمسحت بك بقوة إيمانا مني ببركاتك وأسقطتك، ومن بعيد رأيتك وأنت تبتسم رغم ركبتيك الداميتين وقميصك الممزق؛ الجميل ... بعد يومين نُودي عليّ للعمل كسائق في مصنع لتكرير البترول، واعترافا بجميلك، اسمح أن اقدم لك مقابلا؛ فبما أنك عارف بالقراءة والكتابة، لا شغل لك، فهل تقبل بمأمورية ناطور بمزرعة يديرها صديق لي؟
ضحك المجذوب وقال له:
ـ أولا لتعلم إنه لا بركات لي، وأن حاجتك قضيت لإيمانك بي، وإني صلة وصل بين القادر.. وعباده، ومن يومن بالصلة حتما إيمانه بالقادر حاصل، فاستغفر الله ولا تتأخذ لك بعد اليوم مع الله وسيطا؛ ثانيا عرضك أقبله، فقد جاء في الوقت المناسب، فشكرا لك يا سيدي.
في اليوم الموالي صار المجذوب ناطورا، يأوي عرزالا وطيورَه الخمسين، على باب ضيعة كبيرة، تنتج الفراولة.
عند الصباح كان يفتح باب السياج للعاملات والعمال، ويراقب حضورهم عبر سجّل، وفي المساء قبل الغروب بقليل يتأكد من أسماء المغادرين ثم يغلق الباب الرئيس ويأوي إلى مخدعه، لا نشاط له ثان إلا جولة او جولتين ليلا حول الضيعة مفتقدا سلامتها وسلامة أدوات الري وحالة المضخات المائية، ونسبة امتلاء حوض السقي.
ارتاح بالمكان الجديد واستمتع بعمله، كما كان يستمتع بالعناية بطيوره حين يطعمها من ثمار الفراولة أحيانا، لما يحسها بها قد ملت حبوب الزوان... واندمج أيضا مع العمال وارتاح لهم كما ارتاحوا لوداعته ودماثة أخلاقه، و وكان أكثر ما يكون سعيدا عند نهاية الأسبوع حين تحضر المرسيدس البيضاء وتقف قرب عرزاله، ليصطف أمام زجاج بابها المغلق طابور العمال، و يبدأ بمناداة على الأسماء لتخرج يد تزينها سلسلة ذهبية وخاتما ثمينا بفص من ماس توزع الأظرفة الواحد بعد الأخر.
طارئ ما حدث !.
لا أحد يعرف ما هيته، غابت إثره السيارة البيضاء أكثر من ستة أشهر، ولم تبق تأتي، كما اعتاد العمال، في حين ظلوا هم في عمل متواصل، والشاحنات تغادر محملة إلى الأسواق بخيرات الضيعة، تفرغ وتعود، ويغادر العمال خاليّ الوفاض كما جاؤوا..
لم يبق له شيء مما اكتنزه.. قد ساعد به كثيرا من المحتاجين معه، وأكثرهم فاطمة!
ما كان للمسكينة عون، زوج أو أخ يتحمل عنها بعض أعباء الحياة، حتى أبوها كان مريضا في حاجة يومية إلى أنسولين وأقراص تعدل من ضغط دمه.
ساءت حال العمال، واعتلت وجوههم قتامة الحزن، والخصاصة، بعضهم كان ينزوي وينخرط في البكاء ولا يعود إلا بعد أن يمسح دموعه... طيوره بدورها عانت لم يبق يطعمها زوانا، حمد الله أنه عودها على أكل الفراولة.
كما غابت السيارة البيضاء عادت، لكنها دخلت كما خرجت! لم يعر السيد المبجل اهتماما لتلك الأرواح المقهورة ولم يطمئنها على نتاج عرق جبينها.
بعد يومين اثنين عادت البيضاء من جديد، ودخلت ... ولما سمع المنبه يأمره بفتح بوابة الخروج كما يفعل دائما، رفض ووقف وسط الطريق.
جن صاحب المزرعة وأخرج رأسه من النافذة وصاح به:
ـ ما دهاك يا مجنون؟ الم تسمع؟
رد المجذوب بكل ثقة نفس:
بلى، يا مجنون أنت، أين هو أجر الناس؟ ماذا سيأكلون، أين سيجدون فلسا لشراء ولو مسكنا ينسيهم صداع التفكير في أجرهم المهضوم؟.
نزل صاحب الضيعة، منتفخ الأوداج متعرق الجبين والرقبة، مزبدا مرغيا هائجا وصاح:
يا ابن... إن لم تتنح سأقتلك دهسا.
رد عليه بكل ثبات وثقة نفس:
ـ لن أخافك حاول وسوف ترى..
نادى الرجل على بعض العمال، ليثنوا صاحبهم لكنهم أبوا وادّعوا أن لا قبل لهم به، عندئذ ثارت ثائرته، وامتطى السيارة وداس على البنزين، فانطلقت السيارة كصاروخ قاصدة المجذوب، وكأنه كان مستعدا للحدث قفز قفزة وضعته على الجانب الاخر من الطريق.
انتصب واقفا وهو يرتجف من الغيض وقال: بصوت مرتفع :" لينعلك الله، بل لينتقم منك حتى يراك صحبي هؤلاء، محسورا، مذموما، كسيرا، تستعطف ولا تجاب".
بعدئذ دخل المجذوب العرزال ولمّ حاجياته ثم ودع اصدقاءه، وانطلق نحو المدينة...،لكن قبل أن يتعدى حائط المزرعة فتح القفص وترك الطيور تغادر سجنها.
******
قبل غروب الشمس بقليل حط المجذوب على الدكة وألقى ما فضل من متاعه غير مبال بمئات العيون المتابعة لحركاته وسكناته...
صباحا استيقظ أهل الزقاق ومسحوا بعيونهم دكته فرأوا عطايا كثيرة وتمائم ملأت الشجرة وطيورا وأقفاصا، ولكن... لا أثر للمجذوب...
انتظروا عودته، ظهوره ولكن بلا فائدة!
قال بعضم إنهم رأوه في المطار يروم سفرا
وقال آخر إنه رآه يلقي الأخبار في تلفزة عالمية.
وقال مصطفى ولد ام خدوج المولوع بقراءة القصص البوليسية والسلاسل السوداء الجاسوسية: إنه كان في مهمة سرية أتمها وذهب ليقوم بأخرى بوجه آخر، وكثيرون من صدقوا هذا الإدعاء حين وصل خبرٌ إلى أم حسن أن ابنها مات مذ أربع عشرة سنة خلت
النهاية
قرب سيارة المرسيديس البيضاء تقف سيارة ليموزين سوداء، ينزل منها شاب جميل الطلعة، رشيق الهيئة تحجب عينيه نظارة سوداء ويقف بين فاطمة والرجل، ويشرع يمسح بعينيه ـ هو أيضا ـ المكان ثم يسأل:
ـ آه...! ما حل بثمار الفراولة السكرية الطعم، الهضيمة المذاق؟
ترد فاطمة دون أن تلتفت إليه:
ـ أتت عليها جائحة، لا تبقي ولا تذر، فبمجرد ما تستوي الفاكهة تخرج طيور من حيث لا ندري طيور حسون كثيرة، وتأتي عليها في أيام، لا تهتم لا بعنب ولا بتين وكأن عقلها، قلبها من فراولة، لم يثنها لا فزاعات ولا بيوت بلاستيكية، كالعث هي... كانت !
يستدرك الرجل جنبها قائلا:
ـ كلا يا فاطمة هي لعنته علي، ليتني ما كسرت له خاطرا، ولا ركبت رأسي وحرمت العمال من مستحقاتهم حينها. ليته يعود فأتوب على يديه، عل الله يمسح خطاياي ويغفرها.
تنحنح الشباب وقال:
حين نحرم الطير مما يسكّن صداع مناقرها، ولا نفكر في قرقرة الأمعاء الفارغة لمن حولنا، يصعب أن ننال عفو الله ورضاه، وجمال مغفرته إن لم يغفر لنا من أذنبنا في حقهم..
تلتفت فاطمة وتتأمل وجه الغريب، تجد قسماته مألوفة لديها، لكن لن تكون لمن يساورها طيفه أنى حلت، وارتحلت، متصنعا يشيح هو عنها بوجهه ثم يخرج من جيبه ظرفا مليئا نقودا يدسه في جيب جبتها، ثم يركب سيارته ويغادر.
يسألها الرجل صاحب السيارة البيضاء:
من هذا؟ أتعرفينه؟
تمسح دمعة سخية ، وترد وهي تبستم:
ـ إنه هو..نعم... هو... صاحبك، لاعنك !.