يتأمل الفنان التشكيلي لوحاته...يمسحها بنظرات صامتة وغارقة في التأمل...يطفئ النور يغلق الباب وينصرف... الفارس العربي راكبا حصانه العربي الأصيل بكل زهو، مأخوذا باحساس نصر زائف وكأنه يعيد أمجاد عروبة بائدة... الأمير الوسيم يطل من شرفة القصر على منظر الغروب، يستمتع بآخر شعاعات المساء الذهبية، التي ترسلها الشمس قبل ذهابها للنوم في مهدها الكبير. و الفلاح الكادح في حقله ماسكا محراثه كريشة فنان يخط بها أزهى الخطوط على لوحته الأرض. الصياد العجوز تجاعيد وجهه التي رسمها الزمان، توحي بسنوات عجاف مرت و استقرت على هذا الوجه. يلقي صنارته ينتظر ما سيجود به البحر بأعصاب باردة لم تعد تتأثر بأحداث الزمان.
لاحظ الفنان وهو يتابع لوحاته بنفس الإهتمام و التأمل المعهودين، أن لوحاته لم تعد على سابق إشراقها وحيويتها، فقدت روح الحياة وسكن الملل و الموت جنباتها. لم يعد الفارس مزهوا بفرسه، ومل الأمير منظر الغروب، وضاق به القصر بما رحب. حتى وجه الصياد أصبح أكثر شحوبا وقتامة، أصبح كمومياء من العهد الفرعوني.الأرض لم تعد لوحة الفلاح و المحراث لم يعد ريشته... ملامح لا تتحرك كأنهم موتى أو أنهم حالا سيموتون.
ثارت اللوحات واحتجت وطالبت فنانها بإخراجها من إطاراتها... فقد الجميع لهفة إكتشاف المجهول، دهشة الإكتشاف الأولى، لوعة وحرقة البدايات ...تقدموا في العمر ولم يتقدموا في الحياة...كسمكة ذهبية تعيش في حوضها الصغير الجميل، يقدم لها الطعام الوفير في سجنها الأبدي دون أن تعلم أن هناك سمكة تسبح في أرجاء المحيطات الواسعة و العميقة تصطاد و تصطاد...تخوض غمار الحياة ...
رفض الفنان بشدة طلب اللوحات وثار في وجوههم صارخا: كيف يمكن لأمير أن يمسك محراثا خشبيا ؟ وهل يستطيع الفارس التخلي عن أنفة وكبرياء ركوب الخيل ليجلس كتمثال محنط من الأزمنة الغابرة ماسكا صنارة ؟ وماذا عن الفلاح؟ فهو لم يخلق لتأمل غروب الشمس و مغازلتها، فالشمس هي ساعته البيولوجية ينام عند نومها و يستيقظ عند استيقاظها. و لا أظن أن الأمر يختلف بالنسبة للصياد يضيف الفنان، قبل أن يغادر معرضه. قرر الفنان معاقبة لوحاته بهجرها ... مرت سنوات و الفنان لا زال وفيا لعهده، لكن الحنين عاوده لتفقد لوحاته. ما إن فتح الباب حتى صدم لهول ما رأى، جميع اللوحات تحتضر و تطالب بالموت الرحيم، خيم الوهن عليها انطفأ البريق من الأعين، النظرات باردة، طأطأت الرؤوس مستسلمة للفراغ اللامتناهي فأقسى أنواع التعذيب التي يمكن أن يتعرض له الإنسان هو تركه مع الفراغ اللامتناهي ذلك الفراغ الذي لا قعر له .... انطفأ حب المغامرة و الإكتشاف لديهم ولم يعودوا قادرين على مغادرة دائرة الأمان. الحياة غادرت لوحاته و الموت يصبغها بريشته السوداء. لم يجد الفنان بدا من الرضوخ لطلب شخصياته عسى أن ينقذ ما يمكن إنقاذه. وضع الفارس بجانب البحر ماسكا صنارته. الأمير يحمل محراث الفلاح الخشبي بحقله. الفلاح وقد امتطى شرفة القصر لرؤية منظر الشمس، والصياد مزهوا بركوبه الخيل. فور انتهائه من تغيير الأدوار وإخراج كل شخصية من إطارها الذي وضعت فيه لسنين و سنين توجه مباشرة لغرفة نومه بعد عناء يوم من الرسم وإعادة التشكيل. في صباح يوم الغد، وفور استيقاظه توجه مباشرة لمعرضه، كاد أن يغشى عليه من هول الصدمة. اللوحات كلها تنبض بالحياة و بالفرح و بالدهشة... الأمير يمسك المحراث كطفل حديث العهد بتسلم لعبة جديدة من والده، الفارس يمسك صنارته يخدش بها قلب البحر حتى البحر الذي كان خامدا هادئا أصبح صافيا متوهجا تتراقص أمواجه بتناغم عجيب مع سمفونية الوجود ... تعابير الوجوه يهيمن عليها الشغف و اللهفة كوجوه أطفال تشع بالنقاء و الصفاء و التوهج... استطاعت ملامح الدهشة ولوعة البدايات أن تخفي تجاعيد السنين المرسومة على وجه الصياد، واختفى وجه العجوز خلف لوعة الاكتشاف الأولى، وسحر التجربة الأولى.
وقف الفنان مشدوها في مكانه مدة من الزمن، يتأمل ماضيه وحاضره و مستقبله في لوحاته، عيناه شاخصتان مفتوحتان كعيون العميان، ثغره مفتوح بلا حراك كسمكة نصبت كمينا لفريستها ...أضرم النار في معرضه وغادر المدينة إلى وجهة مجهولة.