غيب السرطان المفكر والباحث والناقد الفلسطيني ذا الحضور العالمي المتميز الراحل ادوارد سعيد يوم 25 شتنبر 2003 عن عمر يناهز ثمانية وستين عاما بعد حياة ثقافية وفكرية وفنية خصبة وغنية، استطاع في حياته ان يفرض نفسه كمثقف مفكر مؤمن بقضايا الديموقراطية وحقوق الانسان بالعالم الثالث و ان يشكل تيارا ادبيا نقديا مضادا للاستعمار والافكار الكولونيالية قائم الذات في الاوساط الجامعية الغربية وخصوصا الامريكية ، كما ناضل من اجل تصحيح صورة الاسلام وفلسطين خصوصا في اوساط النخبة العلمية الغربية داحضا بذلك مجموعة من اراء المستشرقين الذين شوهوا الاسلام والقضية الفلسطينية وربطوهما بالارهاب والتطرف ومعاداة الاخرين .
رغم ان عائلة ادوارد سعيد كانت الى حد ما ميسورة الحال ،الا انه عاش طفولة صعبة و فترة شباب اصعب مغتربا في عدة عواصم وقد تحدث ادوارد سعيد باسهاب عن سيرته الذاتية الصعبة في كتابه خارج المكان الذي اصدره سنة 1996 تأملات في المنفى سنة 2000 وقبل ذلك وذاك شذرات من السيرة الذاتية في كتابه ذاكرة الشتاء : افكار عن الحياة والمنفى سنة 1983.
ولد ادوارد سعيد في القدس في 1 نونبر 1935 ثم هاجر مع عائلته من فلسطين الى القاهرة عام 1947 حيث درس فيها المرحلة الابتدائية ثم انتقل من القاهرة الى بيروت ثم منها الى الولايات المتحدة الامريكية سنة 1951 وتخرج من جامعة برنستون عام 1957 وحصل على الدكتوراة من جامعة هارفرد عام 1964 وعمل استاذا للادب الانجليزي والادب المقارن في جامعة كولومبيا بنيويورك .
لم يهتم ادوارد سعيد في بدايات حياته بالسياسة ولا بالافكار الثورية التحررية بل اتجه نحو الادب والموسيقى وهو ما ميز كتاباته الاولى واطروحته للدكتوراة التي حولها الى اول كتاب سماه :جوزيف كونراد وادب السيرة اصدره سنة 1966 ، التي كانت حول الاديب البولوني جوزيف كونراد الذي تشبه سيرته كثيرا سيرة ادوارد سعيد من حياة اغترابه المبكر من وطنه و حرمانه من حنان الام منذ الطفولة بفعل الهجرة الى جانب قسوة الاب وسلطته المتسلطة الغليظة ، هكذا بدا ادوارد سعيد حياته وهكذا كانت حياة كونراد جوزيف كذلك. لكن تنامي تاثير الصراع العربي الاسرائيلي على الراي العام الامريكي وانتشار موجات العنصرية ومعاداة الاجانب في الولايات المتحدة الامريكية وحربي 67 و 73 بين العرب واسرائيل كلها عوامل ادت الى ايقاظ الوعي النقدي والنضالي لدى ادوارد سعيد كما ان لهذه العوامل مجتمعة يضاف اليها المد الثوري التحرري الذي يعرفه الادب العالمي خصوصا لدى جيل من الكتاب والنقاد المتميزين الذين تاثر بهم ادوارد سعيد اشد التاثر ونذكر منهم على الخصوص المفكر والفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو الذي استفاد ادوارد سعيد كثيرا من منهجيته العلمية في تناول القضايا وتفكيكها وخصوصا كتابه اركيولوجيا المعرفة و الكاتب والمناضل الايطالي الكبير أنطونيو غرامشي،صاحب كتاب دفاتر السجن والذي سجنته الفاشية الايطالية لاسكات صوته واخراس أفكاره، ومن هذا المناضل الثوري الايطالي استفاد الراحل ادوارد سعيد من عدة مفاهيمية فكرية كبيرة واستعار منه مفاهيم السيطرة والهيمنة والمفكر العضوي وغيرها من المفاهيم التي استعملها ادوارد سعيد في انتاجاته الادبية والفكرية المتميزة . والمفكر الثالث هو المفكر والناقد الادبي الكبير الانجليزي الويلزي الاصل وليامز ريموند الذي تأثر به الراحل ادوارد سعيد تاثرا كبيرا في مناهجه و طرائق تفكيره.
سنة 1978 اصدر المفكر ادوارد سعيد كتابه الذائع الصيت الاستشراق وقد شكل صدوره ضجة كبرى في الاوساط العلمية والاكاديمية والسياسية الغربية والشرقية على وجه العموم رغم ان كتابات اخرى سابقة تناولت موضوع الاستشراق بنفس الحس لنقدي ويكفي ان نذكر كتابات مكسيم ردونسون وكتابات المفكر المصري الراحل انور عبد الملك الا ان كتاب ادوارد سعيد فاق كل هذه المحاولات الاولى شهرة وصيتا ، فكان كتابا مؤسسا يعتمده نقاد الفكر الاستعماري وتعتمده الحركات التحررية الاسلامية والقومية واليسارية المضادة للهيمنة الغربية فشكل مرجعا فكريا لها يسند افكارها ويبرهن على ان الهيمنة الثقافية والفكرية الغربية مستمرة رغم اضمحلال الاستعمارات العسكرية المباشرة وتقلصها في خضم الاستقلالات السياسية للشعوب. لكن رغم شهرته وتاثيره الكبير يعتبر بعض النقاد والمفكرين ومن بينهم المفكر والمترجم الاردني وليد حمارنة ان كتاب الاستشراق ليس افضل كتب المفكر الكبير ادوارد سعيد وان كان اشهرها ،اذ اعتبر المفكر الاردني كتاب البدايات وصور المثقف احسنها واعمقها كما ان بعض الكتاب و النقد شنوا هجوما لاذعا على ترجمات الكتاب الى العربية التي اعتبروها ترجمات مخلة بروح الكتاب و بعيدة عن فهمه و تملك افكاره .
ساهم ادوارد سعيد بشكل كبير في خلخلة الوعي النمطي الغربي بشان القضية الفلسطينية و فتح حوارا معمقا حولها في الاوساط الاكاديمية والعلمية الامريكية كقضية تحررية عادلة لشعب مناضل من اجل حقوقه المشروعة في العيش والسلام والحرية ،جلب له موقفه الجريئ ذلك نقمة العديد من الاوساط السياسية والفكرية المساندة لاسرائيل واللوبيات الصهيونية بامريكا خصوصا ، بل قام عدد من المتعصبين للراي والموقف الاسرائيلي الى احراق مكتبه في الجامعة التي يدرس فيها سنة 1991 .كما ان كتابات ادوارد سعيد كشفت زيف الادعاءات العنصرية لبعض المفكرين الغربيين الذي يعتبرون العرب والمسلمين والاسيويين والافارقة اجناس دون الاجناس الاخرى و ان دمقرطتهم او معاملتهم بمنطق حقوق الانسان غير مستساغ ولا مقبول وفيه هدر للمال والجهد وفي هذا الموضوع بالذات انتقد ادوارد سعيد احد كبار المستشرقين الذين يبجلون النظرة الغربية ويعتبرون الحضارة الغربية وقيمها منتهى الكون ونقطة النهاية بالنسبة للانسانية ويتعلق الامر ببرنارد لويس . كما انتقد المفكر ادوارد سعيد الامبريالية ونقد الياتها في اخضاع الثقافات و الهويات الاخرى خصوصا في كتبه التالية: الاستشراق 1978 والامبرالية والثقافة 1993 وصور المثقف 1994، كما ناضل المفكر ادوارد سعيد بشكل مباشر في النضال الفلسطيني وانتسب في مرحلة من المراحل للمجلس الوطني الفلسطيني و سعى الى قيام دولة علمانية ديموقراطية ثنائية القومية في فلسطين التاريخية، لكن شروع منظمة التحرير الفلسطينية في مفاوضات مع اسرائيل وتوقيع اتفاقيات اوسلو جعلت ادوارد سعيد يتخذ موقفا معارضا لهذه الاتفاقيات فجعله في مرمى الانتقادات الاسرائلية والفلسطينية على حد سواء .
بقدر ما كانت حياة المفكر والفنان الموسيقي ادوارد سعيد حياة صعبة شاقة مليئة بالتحديات فانه استطاع ان يفرض نفسه كمفكر محترم في القارات الخمس وكمناضل متشبع بالقيم الانسانية بدون حسابات الربح والخسارة و جسد بذلك مثال المفكر المثقف العضوي بلغة انطونيو غرامشي الذي يشقى لاسعاد شعبه ، لذلك قال عنه الدكتور فيصل دراج في احدى مقالته التأبينية له في مجلة الطريق البروتية عدد 5و6 لسنة 2003 مايلي :"دافع سعيد عن "النقد الدنيوي" وشاء ان يكون مثقفا دنيويا، في النظر والممارسة . وعن نظر دنيوي مطلق السراح صدرت وظيفة المثقف ، التي جسدها الناقد الفلسطيني ممارسة ، قبل ان يعطيها صياغة نظرية لا تكتمل .واول هذه الوظائف "تمثيل " المحرومين ،اللامسموعين،اللاممثلين،المغبونين والمهمشين..كأن سعيد ، الذي نقض ثقافة الاختصاص ، خص المثقف الحقيقي بوضع ثقافته تحت تصرف هؤلاء الذين لا "ثقافة"لهم ،والذين ان امتلكوا ثقافة موائمة لا يحسنون التعبير عنها،كما يفعل المثقف، او لا يجدون المكان المناسب للاجهار بها ....ساوى سعيد بين الثقافة والمقاومة وهجس بوعي ثقافي جديد ينصر المهزومين ويواجه المنتصرين ، ويوزع حقوقا متساوية عادلة على الجميع .وصف سعيد ، قبل زمن المثقفين الحقيقيين بانهم "مخلوقات نادرة جدا" واحتفت هذه المخلوقات بعد زمن بانضمام مثقف نادر اليها يدعى : ادوارد وديع سعيد."
في الختام يمكن اعتبار كتابات ادوارد سعيد الغنية والكثيرة والخصبة ، اوراش مفتوحة في التفكير العقلاني النقدي خارج اقانيم واسر الايديولوجيات الاقصائية بسبب الاعتبارات اللانسانية ، و كتبه وافكاره لها راهنية كبيرة في عالم يشهد اختلالات متزايدة واقصاء ممنهج للثقافات المغلوبة المنهزمة بسبب طغيان الاستبداد والقهر الذي يرعى جزء كبير منه الغرب .
ان كتابات ادوارد سعيد وفكره تحثنا على تفكيك الاطروحات المابعد الكولونيالية التي تريد تابيد وضعية شعوبنا كشعوب مقهورة مذلولة مشدودة الى نماذج ثقافية وفكرية مستوردة كليا و بدون حس نقدي وتمنع علينا محاولة لتبيئة الديموقراطية وحقوق الانسان في تربتنا القاحلة بفعل الجفاف المفروض عليها قهرا وظلما من الداخل والخارج.