يعتبر الأرشيف العثماني أول أرشيف منظم في العالم الإسلامي،ويتميز –حسب ما ذهب إليه الباحث والمؤرخ المغربي عبد الرحيم بنحادَة[1] – بكونه مرآة صادقة لدولة شديدة المركزية مترامية الأطراف،ومتنوعا في طبيعته الكيفية والمجالية ما قد يجعله مفيدا في دراسة العلاقات بين ولايات الشمال إفريقي والمغرب من ناحية والباب العالي من جهة ثانية،ويمنحه قيمة تاريخية في معرفة الصدى الذي كان لبعض أحداث المغرب الأقصى في العاصمة استانبول.
ومن هنا تأتي أهمية الوثيقة التي نود إعادة عرضها على أمل تعميم الفائدة بين قراء ومتصفحي موقع أنفاس والشغوفين بمباحث التاريخ المتوسطي والتاريخ الوطني، ونسجل للأمانة أن السبق والفضل في الكشف عن الوثيقة ونشرها لأول مرة كان للمؤرخ المغربي عبد الرحمان المودن ضمن مواضيع العدد XXIXمن المجلة الرصينة هيسبِريس تمودا –الجزء2 - سنة 1991 .
الوثيقة عبارة عن رسالة/جواب، بعث بها السلطان مراد الثالث(1574-1595) إلى السلطان السعدي أحمد المنصور إثر الانتصار التاريخي المغربي ضد الغزو البرتغالي في معركة وادي المخازن(4غشت1578) وتترجم انعكاسات الحدث على آل عثمان ونظرة الباب العالي للسلطة السياسية بالمغرب كمنافس يؤكد استقلاليته، وتبرز أصداء تلك المعركة التي عرفتها الاستوغرافيا التركية ب"معركة وادي السبيل" خاصة وأنها ليست بعيدة في الزمن عن ذكرى الهزيمة في معركة "ليبنتو"(ليبانتو) يوم7أكتوبر 1571 والتي أعلنت بداية تراجع القوة التركية بالحوض المتوسطي،معركة كان لكل من عبد الملك المعتصم السعدي(1576-1578) وأحمد المنصور(1578-1603) أدوار فيها[2] .
كتب صاحب مناهل الصفا عن وادي المخازن بأنها المشهد الكريم الذي حضرته ملائكة الرحمان وجنود الأرض والسماء،واستفاض مؤرخ مجهول في ذكر النصر العظيم للمسلمين ووصف بأسهم رغم قلة عددهم وقد أحاطوا بالنصارى "يقتلونهم كيف شاءوا ويسبونهم"[3] في "هذه الغزوة من الغزوات العظيمة ...حتى أنها أشبه شيء بغزوة بدر"[4] فكيف جاء الخبر عن معركة "وادي السبيل " وأثره من خلال الرسالة السلطانية لمراد الثالث باعتبارها جزءا من الأرشيف العثماني والتاريخ الدبلوماسي للإمبراطورية العثمانية في علاقتها بقوى حوض المتوسط خلال القرن 16م؟
نص الوثيقة[5](الجزء الثاني من الرسالة به قدر من الصعوبة في القراءة وفهم الدلالة ويبدو،حسب المؤرخين،أن مرده دافع تَشفير المضمون وتأمين الرسالة من احتمال الوقوع بيد الخصوم خاصة الإسبان):
" مهمة دفتر لرى36،حكم316،صحيفة110،8محرم 987/[ مارس 1579 ]
هذا كتابنا الشريف ينطق بالحق من جناب سلطنتنا الزاهرة وخطابنا المنيف ينمق في الرق من قبل خلافتنا الباهرة لا زال نافذا يطبع له ملوك المشارق وملوك المغارب إلى أن ينقرض دور الأفلاك وسير السيارات الثواقب أصدرناه بعون الله الملك المؤيد لمن يشاء من عباده الذي يؤتي الملك من يشاء منطويا على تحية تقمر صفوتها في ذالك الوطن الغربي وتشمس ومحتويا على تسليمة يزيل إخلاصها وحشة من سلا عن عزها ويونس إلى الجناب الأميري الأكملي الأمجدي الكبيري،الأعدلي،الأرشدي،الألمعي الأعلى الأصلي،الأفخمي المحفوف بصنوف عواطف ملك الناس مولاي أحمد الحاكم يومئذ بولاية فاس، لازال منشور عزه مزبورا في جبهة الشمس وجماجم أعدائه كأن لم تغن بالأمس وينهى إليه أن مكاتبته الواردة بالبشراء التي خلت فأحلت مسرة وبشر ووردت إلى أبوابنا العالية السلطانية ووفدت على أعتابنا السامية الحاقانية التي اكتسب(كذا) الشرف بالتقبيل شفاه ملوك الشرق والغرب وشرفت بالتعفير جباه جبابرة السلم والحرب، فشممنا بروق النصر من عنوانها ولمحنا محامل الظفر عن عليائها الجناب الكريم الموصوف بمكارم الأخلاق الحامل لأمانة عرضت على السماء والأرض فأبين أن يحملنها وأشفقن منها غاية الإشفاق من أن ابن أخيه المخلوع العاق كان قبل هذا يتمسك بحبل النفاق ويبطن مع أعداء الدين الاتفاق فآثر جانب البغي والعدوات (كذا) وعاث بأطراف البلدان وقطع طرق التجار وغيرهم من أهل الإسلام تارة بنفسه وتارة بتسليط جماعته الطغام فكثر الفضايح ولم يقبل النصائح(...)وأصر في الإضرار أشد الإصرار حتى يبدل (كذا) القرار بالفرار ففر والتجى(كذا) إلى من حماية قرال برتقال والتحق بأرباب الكفر والضلال فأضلهم وصار ضالا مضلا وبحمى حمايتهم مستظلا،ثم جمع جنود الشياطين واستكثر من أوليائه الباغين حتى بلغ عددهم نيفا وثمانين ألف وتمادى في غيه وحمله الغرور على كوب يغيه فغطف(كذا) عنان العزيمة مع هؤلاء الشرذمة الذميمة إلى تخريب الممالك وتهديد المسالك وأن الجناب الشريف لما وقف على (ما) أرادوه من الفساد قبل دخولهم في حدود تلك البلاد بذل الجهد في أمر الجهاد وجمع الأجناد وبالغ في الحشاد واستقبل مع أخيه الحاكم بولاية مراكش صانها الله وأهلها عن المداهش لكن رجع من الطريق أخوه المشار إليه لاستيلاء أعداء الدين عليه فذبهم الجناب الشريف ذبوب الليث إذا ظهر لصيده والحادم (الحازم؟) إذا وقع خصمه في أحبولة كيده وحصر في ذلك الفضاء المتسع وصالهم ومزقهم كما قد سمع وصدمهم صدمة صفين بدمائهم ترمهم والطين وطعنهم وضربهم فحكم السيوف الصوارم في مقاتلتهم ومكن الخيول من (...) ومقاتلتهم فساوى في القتل بين القن منهم والسيد(...)وانقلبوا صاغرين وكان مصدقا لقوله تعالى كم من فائة(كذا) قليل غلبت فائة كثير(ة) بإذن الله والله مع الصابرين فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين فقد علمنا بذلك وحمدنا الله الذي أيد عساكر المسلمين بنصره العزيز وألقى في قلوب أعداء الدين المبين رعب الحرب وأنهينا إلى جنابكم الموصوف بمحامد الأوصاف الخلعتين الفاخرتين والسيف الموسى المرصع الغلاف إظهارا(...) علوّ عنايتنا السلطانية(...) سموّ عواطفنا الخاقانية وعليكم عند الوصول التلقي بحسن القبول واللمس بصنوف التعظيم والإجلال وصنوف التكريم والإقبال وأن تظهر ما أظمر ظميركم(كذا) المنير وتبرز ما ذكر في خاطركم الخطير من بذل القدرة الكاملة وصرف الهمة(؟) الشاملة في ازدياد الأمن والأمان وترفيه قلوب الرعا(يا) والبرايا بالعدل والإحسان وأن تتحد حسن الاتحاد وتتفق بخلوص الفؤاد مع مملوكنا أمير الأمراء(كذا) جزاير الغرب حماها الله من مكايد الحرب ومع من يتمكن في جواركم ويتقارب ما لدياركم الأمراء(؟)الكرام(؟)وأمير الأمراء الفخام ويتحقق عند جميع الداني والقاصي ولدا (كذا) كل مطيع وعاصي أن الولايتين محروستا(ن) من سوء الشقاق والاختلال والإيالتين محمودتا(ن) بالاعتراف(كذا) والمؤمل(؟)منكم(...)المرسلات (كذا) في جميع الأوقات والساعات على الدوام والاستمرار وتنهى ما وقع من الأسفار(...)بالرسالة في جميع الأمور مع الأمير(كذا) الأمراء المسطور(...)ويتعاون في أمهات المهمات الجمهور والله تعالى يمد نصره في كل وقت وتأييده ويصون قرآنه الكريم في الصدور(...) ."
1- عبد الرحيم بنحادَة،"مساهمة الأرشيف العثماني في كتابة تاريخ العلاقات المغربية-العثمانية ق16-19م"-المغارب في العهد العثماني،1995،منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية،جامعة محمد الخامس-الرباط،.إ،سلسلة ندوات ومناظرات رقم 41 .
[2]- عبد المجيد القدوري،المغرب وأوروبا ما بين القرنين الخامس عشر والسادس عشر،المركز الثقافي العربي،ط2،2012،الدار البيضاء-المغرب.ص168.
[3] -مؤرخ مجهول، تاريخ الدولة السعدية التكمدارتية،تحقيق عبد الرحيم بنحادة،الناشر عيون المقالات،ط1،1994، مراكش،ص61.
[4]-خالد الناصري،كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى،ج.5،تحقيق جعفر الناصري ومحمد الناصري،دار الكتاب،1955،الدار البيضاء،ص81.
[5] -A.El Mouden, « Qui a dirigé la bataille de Wad al-Makhazin ? »in Hesperis-Tamuda,Vol.XXIXfasc2,1991,p.177-190.
يمكن تحميل المقالة الأصلية كاملة من أرشيف المجلة هسبريس تمودا على موقعها الإلكتروني .