تساءل الفيلسوف اليوناني سقراط، تساؤلا ظل صداه يتردد سنينا وقرونا طوالا. ترى كيف ينبغي أن نحيا؟ وفي السياق ذاته، تساءل علماء السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا وما يحيط بفلكيهما سؤالا آخر، وثيق الصلة بسؤال سقراط فحواه، كيف نحيا معا؟ أسئلة من هذا الحجم -تستلزم منا- أن نتأمل رؤانا في معنى، كيف نحيا معا داخل كل مركب بتمثلاته وتصوراته اسمه الثقافة الشعبية المغربية؟ وأن نحفر عميقا في البنى السوسيوثقافية للذات المغربية؛ بغية الكشف – ما أمكن – عن ذلك التمازج الثقافي الذي تنماز به هذه الذات في ارتباطها بمحيطها المتعدد المكونات والروافد.
من هذا المنطلق، سعينا في هذا المقال إلى التركيز على ذكرى الفصح أو "Pissah" حسب النطق العبري، وطقس "تيفسا" بالنطق أمازيغ الأطلس الشرقي المغربي؛ وذلك باعتبارها تحمل في طياتها مجموعة من التصورات الثقافية والعقائدية التي تُعلي من شأن التنوع الثقافي والحضاري المغربيين. وحتى يكون بمقدورنا الخوض في عمق تفاصيل هذا الموضوع، سنحاول من خلال مقالنا هذا ملامسة بعض الجوانب التاريخية -بقدر ما يسمح به المقام- لنتمكن من تأسيس قاعدة مفاهيمية تؤهلنا لفهم خصائص هذا الطقس.
المعلوم، أن الأطلس الكبير الشرقي المغربي قد ظل ﺇلى حدود القرن التاسع عشر ميلادي منطقة إستراتيجية، نظرا ﺇلى توافر عدة عوامل للاستقرار البشري فيه، منها: الزراعة، الماء، التجارة، الرعي...ومواقع جيدة للبناء والتحصين؛ وهذا ما يفسر استقرار مجموعة من الأقليات العرقية على مر التاريخ في هذه المناطق الجبلية الحصينة؛ منها اليهود الذين طبع/ لفّ تاريخ تواجدهم بالأطلس الشرقي خاصة والمغرب عامة، غموضا كبيرا بحكم قلة المصادر، وتضارب أراء الباحثين حول زمن تواجدهم؛ فهناك من يُشير إلى أن انتشار الديانة اليهودي بين هذه القبائل الأطلسية، كان قبل مجيء المسيحية والفتح اﻹسلامي٬ ولعب دورا مركزيا في تعدد القبائل المغربية التي اعتنقت الديانة اليهودية مستدلا ببعض المماليك اليهودية الأمازيغية التي أنشئت بإفران الأطلس الصغير وبمناطق درعة ودادس...وغيرها. الأمر الذي فتح باب التساؤل لدى المؤرخين من قبيل: هل هاجر اليهود ﺇلى المغرب وتمغربوا بعد أن سكنوا الجبال؟ أم أنهم من أصل مغربي اعتنقوا الديانة اليهودية قبل الفتح الإسلامي؟ وفي هذا السياق لا ينفي "سيمون ليفي" هذه القناعة وإن لم يؤكدها في كتاب له حول تاريخ وحضارة اليهود بالمغرب، عندما أشار إلى أن احتمال دخول بعض القبائل الأمازيغية المغربية في الديانة اليهودية قبل الإسلام أقرب إلى الصواب.
وبالتالي، تبقى الدراسات المتعلقة بتاريخ اليهود الأمازيغ المغاربة، الذين سكنوا الجبال والأرياف قليلة جدا مقارنة باليهود المغاربة، الذين يتحدثون الدارجة المغربية ويسكنون الحواضر؛ إلا أن هذا لا يعني عدم توفر شواهد مادية: حرف يدوية: الصياغة، الجلد، المعمار...، تعكس تفاصيل هذا الحضور الضارب في القدم ببلاد المغرب. فهذه الشواهد المادية إذن؛ بمثابة وثيقة تاريخية تشهد بكونية الذات المغربية، وبتعدد مكوناتها وروافدها الهوياتية، ومتانة الروابط التي تجمعها، بغض النظر عن كونها تشترك أو تختلف في العادة أو المعتقد. غير أن هذه الدلائل والقرائن التي قدمنا – بالرغم من قلتها – تظل شاهدة على الانسجام الواضح بين مختلف مكونات المجتمع المغربي باختلاف تلويناته الإثنية والعقدية.
ولعل من بين أبرز مظاهر التواصل والتلاقح الثقافي في جبال الأطلس الكبير الشرقي بين المغاربة الأمازيغ والمغاربة اليهود٬ هي تلك الروايات الشفهية التي تناقلتها الأفواه عبر الزمن عن عادات وتقاليد المنطقة الشرقية. ﺇذ يحكي عن احتفالهم بمجموعة من المناسبات الطقسية التي يتداخل فيها الديني بالعقدي والاجتماعي بالنفسي والسلوكي بالرمزي. وتعتبر منطقة الريش المتواجدة بشمال إقليم الراشيدية، من بين أبرز المناطق الأمازيغية التي عرفت حضورا يهوديا متميزا٬ دام طويلا وترك بصمات وانطباعات نفسية اجتماعية ورمزية مؤثرة في المخيال الشعبي المغربي؛ وفي هذا السياق يقول لحسن أيت الفقيه: ﺇن القرى الأطلسية قد تأثرت بمجموعة من الديانات القديمة: يهودية، طائفية ٬مسيحية...مما غرس في المنطقة الكثير من العادات والتقاليد٬ ميزت ثقافتها الشعبية؛ فالثقافة المغربية اليهودية الأمازيغية -حسب قوله دائما - قد مكنت من انقاد المنطقة من انهيار ثقافي فعلي٬ حيث أنها دعمت المنطقة بعادات وتقاليد٬ جعلت الإنسان بالأطلس الشرقي الكبير قادرا على مواجهة صعوبة المجال.
ومن بين أهم وأبرز هذه المناسبات الاحتفالية بالمنطقة٬ حفلة " تيفسا " جمع "تافسوت" والتي تعنى بالأمازيغية تفتح الزهر، الخضرة، الربيع... كما أنها تفيد معنا ونطقا "Pissah" لدى المغاربة اليهود٬ فهي ترمز ﺇليهم بالخصوية والخير٬ ووفرة المحاصيل، كما أنها مناسبة سعيدة تبعد سوء الطالع، وعواقب الزمن وزرياه. "فتيفسا" ﺇذن، لها ارتباط وثيق بالثقافة الزراعية لدى اليهود المغاربة بالمنطقة. وللإشارة فهي غير مطابقة بالتمام والكمال للفصح اليهودي المتبع من طرف باقي يهود المعمور؛ مما استدعى منا طرح جملة من الأسئلة من قبيل: ترى لماذا تغيرت تركيبة الفصح بالأطلس الشرقي؟ ولماذا تم تغييب زمنه المرجعي أي: الزمن المقدس؟ ولأي اعتبار تم تغيب الطابع التاريخي؟ وعلى أي أساس تم الاحتفاظ فقط بالطابع الكوني المتمثل في شهر الخضرة، تكوين السنابل، وبداية التقويم الجديد؟ وما السر وراء انطباع هذه الذكرى اليهودية بالمحلي المغربي الأمازيغي؟
قبل أن نشرع في تقديم بعض الإجابات المحتملة، لا بد لنا من تقديم بعض ما استخلص من طرف بعض الباحثين (لحسن آيت لفقيه نموذجا) المختصين بتاريخ المنطقة بخصوص طقس "تيفسا":
1- تركيز الحفلة على الحقل الزراعي، وتهميشها للديني.
2- مصادفة الحفلة للاعتدال الربيعي.
3- تُعد للحفلة فطائر ذات أصل يهودي تدعي: "أغروم ن تيفسا"
4- تحمل رغائف هذا الطقس سبعة ثقوب تُستسقى بالزيت أو العسل، أو تؤكل جافة.
5- حضور رقم 7 بثقله الرمزي، وماله من ارتباط وثيق بالثقافة السامية.
6- ربط خبز الفطير بعودة الطيور المهاجرة التي تعبر المغرب اتجاه أوربا.
7- ظهور طائر الوروار أو طائر اليهود في سماء الأطلس بعد الاحتفال "بتيفسا" مباشرة.
فما يتضح من خلال هذه الطقوس المؤثثة لطقس " تيفسا" أنها تتداخل فيها مجموعة من القيم المحلية والكونية، والملاحظ أيضا، أنها تحاول استحضار التاريخ رغم ما يكتنفه من غموض، كما أنها تعطي للدورة الكونية أو الطبيعية مكانة متميزة باعتبارها تعبر عن الوحدوية المادية للكون؛ وبالتالي نستنتج بنوع من "الحذر" بأن تيفسا أو "Pissah" لدى المغاربة اليهود بالأطلس الكبير الشرقي، لم يعد يحمل ذلك الزمن المقدس الذي يحاول الإنسان اليهودي في شتى المناطق الارتباط به عن طريق ﺇقامة الشعائر والصلوات...بقدر ما أضحى يحمل في طياته أبعادا محلية وكونية، تطفح بالمشاعر والتصورات والمواقف الإنسانية، التي ترنو إلى تحقيق ذات جماعية تهدف ﺇلى التكتل في ﺇطار وحدوي اسمه المغرب المتعدد الثقافات. فالمغربي اليهودي الأمازيغي ومن خلال هذا الطقس يحقق ذاته عن طريق تأكيد انتمائه للمجال المحتضن له لا ﺇلى جماعة دينية بعينها.
ولعل هذا ما يفسر، أن ذكرى "الفصح" اليهودية بالأطلس الكبير الشرقي ٬لم تصمد في بعدها الديني أمام قوة وشراسة المحلي المتمثل في الثقافة الشعبية المغربية؛ فتحولت بشكل أو بآخر ﺇلى طقس رمزي خفي داخل بعض عادات وتقاليد الإنسان المغربي، دون أن يدري بأنها تحمل في بعض مضامينها بعدا حضاريا وثقافيا موغلا في القدم بالنسبة لليهود. فعلى سبيل المثال لا الحصر: الفطائر كما هو معلوم تستمد قدسيتها من مناسبة خروج موسى وبني إسرائيل من أرض مصر٬ وظلت تحافظ على مضمونها الديني طيلة أعوام طوال؛ ﺇلا أنها في المرحلة اﻹسلامية ثم تكييفها وتوظيفها في الأعياد كالفطر والأضحى...وغيرها من المناسبات، كما تم توظيف أيضا، من طرف سكان الأطلس الشرقي الكبير، وبالضبط السكان المحيطين بمنطقة "الريش" في وجبة مغربية تحمل اسم: "الثريد". ويغلب على الظن أن الذين اسلموا من المغاربة اليهود الأمازيغ، هم من طوروا هذه الفطائر للتمييز بين فطائر اليهود، وفطائر المسلمين. أو بالأحرى التمييز بين فطائر مناسبات السنة الشمسية، والقمرية. غير أن الراجح من وراء تطوير هذه الفطائر، هو تكييف طقس يهودي مغربي يستمد مرجعيته من ذكرى الفصح اليهودية، في وسط أمازيغي مغربي أصبح يدين بالإسلام؛ بمعنى ضمان استمرار اليهودية المغربية كسلوك في الثقافة الشعبية المغربية؛ الشيء الذي يؤكد أن الإيمان بالاختلاف يغني الثقافة التي تتبناه منهجا، ويعطيها إمكانية تبادل الخبرات بين مختلف مكوناتها الهوياتية رغبة في تحقيق التجانس والتفاهم والتسامح والإحساس بالانتماء إلى مجتمع إنساني.
هكذا يتضح إذن، أن الطقوس اليهودية الأمازيغية المغربية، تنطبع بالتشكيل الحضاري المغربي الذي نشأت واندمجت فيه. وبالتالي من الصعب-أن نحدد بدقة تفاصيلها وحيثياتها، فهي متغلغلة بعمق في جينات الثقافة الشعبية المغربية.