1.1. المسألة السكانية: من الديمغرافية إلى الديمغرافية التاريخية.
تعرف الديمغرافية بإسم علم السكان، والكلمة مشتقة من اللغة اليونانية، بمعنى وصف الخصائص السكانية ، من حيث توزيع الأفراد على مجموعة معدلات نسبية ، مثل : الولادة ،الوفاة، الفئة العمرية ...إلخ. أصبحت الديمغرافية في الآونة الأخيرة من بين الحقول المعرفية المساعدة للتاريخ ، لما تمنحه من قيمة علمية تأخذ بعد الرقم و الإحصاء قصد استجلاء الظاهرة السكانية في الماضي ،و إعانة المؤرخ على تفسير وفهم العديد من القضايا التاريخية، وإعادة كتابة تاريخ تركيبي .إن إنشغالها بالتاريخ دفع الباحثين الى وصفها بالتاريخية، وبالتالي سمية ب "الديمغرافية التاريخية" .
تتقاطع "الديمغرافية التاريخية" مع "الديمغرافية" من حيث المنهج والموضوع ، فهي تنقل المنهج الديمغرافي وتحاول تطبيقه في دراسة التاريخ الديمغرافي لساكنة معينة في تاريخ معين، وموضوعها هو موضوع الديمغرافية (أي السكان وما يرتبط بها من ظواهر)، إلا أن الإختلاف الأساسي بين التخصصين، هو كون الديمغرافية التاريخية تدرس الخصائص الديمغرافية للسكان وترصد تغيراتها في تاريخ الزمن الماضي ،وهنا تختلف مصادرها وتقنياتها ومناهجها بالضرورة عن متيلاثها في الدراسة الديمغرافية الآنية ، مع حضور مناهج التقدير الكمي في كل منهما .
نشأت الديمغرافية التاريخية بالمفهوم الدقيق في فرنسا خلال الخمسينيات، وذلك أول مرة علي يد الديمغرافي "لوي هنري"Louis Henry بالمعهد الوطني للدراسات الديموغرافيةINED . لقد كان أول باحث ينتبه إلى أهمية الإحصاءات القديمة. في مرحلة ثانية جرى البحث في هذا المضمار على نحو مزدوج الإختصاص .فقد كان تعاون الديمغرافيون والمؤرخون لوضع اللبنات الأساسية لهذا القطاع التاريخي الجديد ، تشهد على ذلك دراسة الباحث المذكور بتنسيق مع المؤرخ فلوريM. Fleury سنة1956م حول " "منهج التنقيب وإستغلال الحالة المدنية القديمة".[1]
راكمت الديمغرافية التاريخية التطور عبر الأعمال المنجزة في الميدان ،متخذة من الأرشيفات سندا رئيسيا ، لما تحويه من معطيات بالغة الأهمية حول تواريخ وأماكن الإزدياد والزواج والوفاة .معطيات عالجها الباحثون بأسلوب إحصائي واستخرجوا منها قوائم ومنحنيات حول نسب الولادات والوفيات .يتعلق الأمر بالتحليل المجهري الذي وضع قواعده لوي هنري .يقول جاك دوباكيي ، وهو أحد الممارسين المرموقين للديمغرافية التاريخية : "لقد أدخل لوي هنري في العلوم الإجتماعية التحليل المجهري المبني على مزواجة المعطيات الإسمية، وهو إبتكار يشابه في أهميته إختراع المجهر في العلوم الإجتماعية" .هذه الطريقة الجديدة في المعالجة التاريخية سميت ب "منهج هنري"[2].
هكذا واصلت الديمغرافية التاريخية التطور كما وكيفا إلى حدود ستينيات القرن الماضي، إذ تألقت وازدهرت بصورة كبيرة وذلك على مستويين:
· الأول: ظهور دراسات نموذجية كتلك التي أنجزها جون موفري وبييرغوبير ، والتي تراهن على الربط بين منحنيات أسعار الحبوب ومنحنيات الوفيات للكشف عن الدورات الكبرى للإنهيار السكاني في مجتمع الثورة الفرنسية .
· الثاني : قيام مجموعة من الباحثين الإخصائيين ، أمثال هنري ،رينار ،غويير ، دوباكيي ، بتنظيم مناظرات وندوات في الموضوع ، وخلق مختبر تابع للمعهد السالف الذكر ،ومجلة متخصصة :"حوليات الديمغرافيا التاريخية". هكذا حقق هذا القطاع نجاحا عالميا .فكل البلدان الأوربية التي تتوفر على أرشيفات خورية سارت على نهج لوي هنري.
ان إدراك الموقع المتميز الذي احتلته الديمغرافيا التاريخية في حقل التاريخ يستدعي الإشارة إلى السياق الأسطغرافي العام الذي عرفته الساحة الفكرية في أوروبا عامة وفرنسا على وجه التحديد. إنه سياق "مدرسة الحوليات" . فقد نشأت ونمت في وقت تأكدت فيه أبحاث التاريخ الإقتصادي والإجتماعي على النحو الذي أفرزته أعمال "إرنست لابروس" "وبيير شوني" "وفرانسوا فوري".[3]
إن مسار التطور الذي حققته الدراسات الديمغرافية التاريخية ساهم في القفزة النوعية التي عرفتها، من ديمغرافية تاريخية ذات طابع كمي إلى أنثروبولوجية تاريخية ذات مظهر كيفي، حسب تعبير "كي بوردي"، لقد تحققت هذه القفزة عبر قناتين:
· الأولى: التأثير الذي مارسته أنثروبولوجية ليفي ستراوس .
· الثانية: التأثير المتأخر لأفكار فيليب أريس؛ فمند 1948 كان قد أصدر كتابا نموذجيا حول "تاريخ سكان فرنسا ومواقفهم إزاء الحياة مند القرن18".
هكذا أخذ المؤرخ ينظر ما وراء الجرد الإحصائي، إلى ما وراء العلائق بين السكان والمعاش. لقد تغييرت التساؤلات وبرزت آفاق جديدة: السلوكات الجماعية ، الأنساق الثقافية ،العقليات[4].
بالنسبة للمغرب لاتزال الأبحات بخصوص تاريخ الساكنة عبر التاريخ (الديمغرافية التاريخية) محتشمة تتميز بالمحدودية، تكتنفها صعوبات نظرية ومنهجية ،بل لازال العديد من الباحثين يجهلونها ويجهلون قيمتها العلمية ، المتمثلة في فهم آليات التطورات الإقتصادية والإجتماعية والسياسية للمجتمع المغربي على مر التاريخ . فالتقعيد لهذا الحقل المعرفي المساعد لخدمة المعرفة التاريخية، يحتاج لوقت طويل في طريق التناهج والإنفتاح الواسع للتاريخ على العلوم الأخرى، لازالت عقلية الحدث تستنفر جل باحثينا وتوجه أعمالهم. حتى وإن وجدت أبحات في هذا الباب، فإن لغة الإسقاطات التي لا تأخذ بعين الإعتبار الشروط الموضوعية تبدو واضحة. إن الهدف الشائع اليوم حول إعادة كتابة تاريخ تركيبي يقتضى الإلمام وتحصيل ما أنتجه الغير خاصة المدرسة الفرنسية وكذا الإنفتاح على مناهج ورؤى وأبحاث مدارس أخرى خاصة الأنجلوساكسونية.
عموما إذا كانت الدراسات الديمغرافية قد قطعت أشواطا بعيدة في بلدان الضفة الأخرى للبحر الأبيض المتوسط وظهر متخصصون في هذا الباب أمثال هنري L.Henry[5] و R. Mols[6] و R. Reinhardt وغيرهم، فإن الأمر عندنا يختلف حيث مازال تاريخنا الديمغرافي غير معروف على الرغم مما يمكن أن تلعبه كتابة هذا التاريخ من أدوار في الكشف عن كثير من خبايا ماضينا الإجتماعي والإقتصادي. ومعروف أن المغرب لم يخرج مما يسميه علماء الديمغرافية بالمرحلة ما قبل الإحصائية، إلا مع دخول الحماية الفرنسية ، التي حاول القائمون بأمرها إجراء مجموعة من الإحصاءات سعيا وراء ضبط السكان ورصد تحركاتهم ومعرفة نسب تطور أعدادهم، إعتمادا على سلسلة من التعدادات التي امتدت ما بين 1921و1952على رأس كل خمس سنوات[7].
1.2. صعوبات البحث في الديمغرافية التاريخية .
أثبت البحث في ميدان الديمغرافية التاريخية بالمغرب صعوبته وتعقيده الكبير، الأمر الذي دفع جل الباحثين الى العدول عن الخوض فيه، رغم ما يدركوه من أهمية لهذا الحقل في تعرية الغامض والتنقيب عن المضمر في طريق خدمة المعرفة التاريخية ببلادنا. لقد أدرك الكثير منهم مزالق المسألة الديمغرافية في تاريخ المغرب، فتكونت لديهم نظرة تشاؤمية قطعية ، أغلقت الباب أمام الإجتهاد، الشيء الذي انعكس وسينعكس سلبا على مستقبل البحث التاريخي في ظل دعوة الإنفتاح المعلنة .
صراحة، لم يخطر ببالي ولو للحظة الخوض في المسألة الديمغرافية بعد إختياري لموضوع الدراسة، إلا أن الإمعان في بعض المعلومات المقدمة من طرف الحسن الوزان ومارمول كربخال وبعضا من تلميحات برناردو رودريكش[8]، خاصة تلك المتعلقة بتقديراتهما حاول ساكنة المدن والقرى الموصوفة، ولدت لدينا العديد من التساؤلات، اختمرت بعد وقت طويل وتبلورت بعد ذلك على شكل سؤال وجيه فرض علينا نفسه كمحور في البحث لابد من التوقف عنده، لما من شأنه أن يقدمه من خدمة جليلة للبحث بصفة عامة، لقد أدركنا بما فيه الكفاية أهمية الديمغرافية التاريخية بالنسبة لكل المشاريع المقدمة في تاريخ المغرب، بالنظر لتأثيرها وتأثرها بالبنيات الإجتماعية والإقتصادية والسياسية ،فدراسة أية بنية من البنيات الأخيرة إلا ويفرض على متناولها طرق باب الديمغرافية التاريخية.
كل الباحثين اليوم مدعوين لتصويب إهتماماتهم تجاه الأوراش الغير المقتحمة من تاريخ المغرب على حساب الحدث التاريخي، بإعتباره إفرازا لجوانب أخرى تتسم ظاهريا بالضآلة في تأثيثه، فعديد المسائل واالقضايا الشائكة في تاريخ المغرب مازالت مجهولة، يستثمرها الباحثين كأدوات وصف لإغناء بحوثهم يفسرون بها ظواهرهم دون الخوض في تفاصيلها والإعتداد بقيمتها الأصيلة؛ من قبيل الديمغرافية التي لازالت بحاجة للدراسة والبحث لإعادة فهم تاريخنا فهما دقيقا ومن ثم تركيبه ؛ لذلك وجب الخوض فيها كما وكيفا؛ وما يتبعها من خصائص الساكنة و الأسرة ومكوناتها وتفرعاتها بما تسمح به المصادر، و طبائع الزواج ومتوسطه: وفئات المجتمع بشكل عام ،وعادات الغذاء والتطبيب وعلاقة الإقتصاد والمجتمع والسياسة وحتى مستحدثات الطبيعة بالديمغرافية.
بإنفتاحنا على الديمغرافية نفتح شبابيكا لنطل على ما وراء الجرد الإحصائي، في العلاقة القائمة مثلا بين السكان والمعاش، والسكان والطبيعة ، ورصد سلوك السكان موازاة مع تغير أحوال الطبيعة بين القهر والسخاء، وظروف البلاد عامة، فهم أنماط الإستغلال وبالتالي الإنتاج في حضرة الديمغرافيا بإعتبارها طرفا من أطراف التوجيه بل والفرض لهذه الأنماط. إن الخوض اليوم في المعرفة التاريخية يستوجب منطقيا التسلح بما يلزم من العتاد المعرفي والمنهجي، وبما يكفي من الخبرة في الميدان، هذا لا ينفي بالبث إعطاء فرص للباحثين الشباب للخوض في مثل هاته البحوث الشاقة بعد تجنيدهم بما يلزم.
إن الحديث عن الديمغرافية التاريخية يقودنا تلقائيا الى المشاكل والصعوبات التي تعترض الباحث فيها، وبمناسبة خوضي في هذا الحقل سأقتصر على الصعوبات التي اعترضتني، و صنفتها على الشكل الآتي:
1.2.1. خريطة التقديرات الإحصائية :
أول الصعوبات التي واجهتنا في تناول مغرب الفترة الوطاسية مسألة الحدود الجغرافية للدولة[9]، التي تبدو معها إمكانيات حصر جرد ديمغرافي تقريبي من الأمور الصعبة بمكان .إن تغير الحدود المستمر المتسم بالتقلص والتمدد يدفعنا الى الإقرار بكونها إتخذت طابع الظرفية "الزمن"، لذلك كانت الأوضاع السياسية هي المتحكم الأساس في جغرافية "مملكة فاس" التسمية الملازمة لدولة بني وطاس تماشيا مع إسم مقر حكمها فاس.
عمد الحسن الوزان، وهو من رجالات المخزن الوطاسي، إلى تقسيم المغرب الذي وصفه وصفا دقيقا إلى 16ناحية أو إقليما إداريا، وهو ما يمكن اعتباره تقطيع إداري سياسي في عملية التوطين الجغرافي:
1. إقليم حاحا .
2. إقليم سوس.
3. إقليم مراكش.
4. إقليم جزولة.
5. إقليم دكالة .
6. إقليم هسكورة .
7. إقليم تادلا .
8. إقليم تامسنا.
9. إقليم فاس.
10 إقليم السايس.
11. إقليم الهبط.
12. إقليم الريف.
13. إقليم كرط.
14. إقليم الحوز.
15. إقليم درعة .
16. إقليم سجلماسة.[10]
في حين لوي ماسينيون يدلي بأن بني وطاس اقتصروا على ما بين ملوية في الشرق و تانسفت في الجنوب وسفوح الأطلس الكبير الشمالية في الجنوب[11]. لكن السؤال يبقى مطروحا هنا عن الأسس التي اعتمدها الوزان والظرفية التي أنجز فيها هذا التقسيم، بمعنى هل إعتمده بعد ظهور الحركة السعدية الناشئة في الجنوب أما قبل ذلك وكذا سنة التأليف. أي لابد من استحضار ظروف تأليفه لوصف إفريقيا .الذي كتبه في بداية الربع الثاني من القرن 16م (1526) واعتمد فيه على الذاكرة بعد أن قضي بإيطاليا أزيد من 10سنوات [12]. عموما امتدت مملكة فاس جغرافيا على أقاليم مهمة منها: الشاوية و أزغار والغرب والريف وكرط والحوز (حوز فاس) وفاس ونواحيها، هذا في حين كانت المناطق المتبقية تابعة لهم بشكل غير مباشرـ عن طريق الإعتراف الوطاسي بالأسر الحاكمة فيها، مثل: أسرة علي مومن بالشاوية، وأسرة المنظري بتطوان، وأسرة بني راشد بشفشاون. دون أن ننكر استقلالية بعض المناطق الجبلية الممتنعة عن فاس ، وحدوث انتفاضات وثورات في مختلف المناطق بين الفينة والأخرى[13] .
"إذا كانت معرفة عدد السكان ضرورية للحكم على أحوال المغرب الإقتصادية ، فهل نستطيع معرفة عدد سكان المغرب في الفترة المدروسة"؟
إن المشكلة الرئيسية التي تعترضنا عند محاولة البحث في هذا المجال ،هي غياب الإحصائيات مما يجعل أي محاولة نقوم بها من قبيل التقدير والتقريب وكذلك ما يترتب عنها من نتائج، حتى ولو تمكنا من التوصل بطريقة من الطرق إلى معرفة عدد سكان المغرب في سنة من سنوات الفترة المدروسة وليكن مثلا ثلاثة ملايين نسمة، فإن هذا الرقم سيتغير إرتفاعا وإنخفاضا[14] على مر الفترة ويتحدد في آخر المطاف بعامل الزمن، ولابد في هذه الحالة حسب الأستاذ عثمان المنصوري[15] من التوفر على أرقام عن كل عقد من العقود.[16]حيث أن الأرقام التي قدمها الوزان لا تتجاوز في تاريخها الربع الأول من القرن 16م، وطبيعي جدا أن تطرأ تغييرات كثيرة على عدد السكان بسبب الوفيات والهجرة.
على أي يبدو البحث في هذا المنحى أعقد بكثير من المقصود، غير أن ما يجب التأكيد عليه هو أن حدود المغرب في نهاية القرن 15وبداية القرن 16م خضعت لفترات قوة وضعف المخزن الوطاسي، وبالتالي أي بحث ديمغرافي يستوجب الوقف عند مسألة الحدود الجغرافية بإعتبار المتغير فيها هو الآخر يخضع لعنصر الزمن. لقد تنبه كذلك الأستاذ محمد استيتو لمسألة صعوبة ضبط الخريطة البشرية[17] ، لكثرة ما لحق بالخريطة السياسية للبلاد من تغييرات وتعديلات عبر الزمن .
1.2.2. المصادر وصعوبة جرد الرقم .
تعد إشكالية المصادر من بين أهم العوائق التي تعترض طريق الباحث في حقل الديمغرافية التاريخية، فإذا كانت الدراسات الديمغرافية الحالية توفر مصادر محددة قابلة للمعاينة والإحصاء، من سجلات الحالة المدينة والوثائق المتعلقة بها، فضلا عن دورات الإحصاء التي تسهر عليها الدولة بشكل دوري، بالنظر لضرورتها في عملية تسيير شؤونها الآنية والمستقبلية، فإن دراسة الظاهرة نفسها في الماضي تفتقد للمقومات المصدرية الكفيلة بتحقيق المنشود.
ترتبط أعقد الصعوبات التي تواجهها الديمغرافيا التاريخية بقلة المصادر وخلوها من الرقم. وفي الواقع، فإن هذه المشكلة يواجهها الباحثون في تاريخ المغرب عموما ، حتى أنها أصبحت من القضايا المألوفة والمسائل الكلاسيكية في مقدمات الرسائل والأطروحات، وفي الدراسات والأبحاث، نظرا لقلة إهتمام أسلافنا بأنواع التدوين المختلفة، لذلك تصبح محاولات الكشف عن تطور بعض الظواهر الإجتماعية أو البشرية أو غيرها حقب طويلة-ولو نسبيا- كظاهرة التطور الديمغرافي عملا من الصعوبة بمكان، بسبب افتقار المخزن لأجهزة أو مؤسسات أو هياكل رسمية مستقرة ودائمة تستند-لسبب أو لأخر- إلى إجراء إحصاء موثق للسكان، أو إعتماد كنانيش الحالة المدنية – التي لم تظهر قبل القرن العشرين – مما أدى إلى غياب شبه تام لوثائق أو سجلات إحصائية رسمية ،وجعل بالتالي البحث في هذا الجانب الهام من تاريخ المغرب غائبا أو شبه غائب[18].
من بين العراقيل الأخرى المستعصية، يبرز مشكل الرقم والتقديرات الخاصة به وكذا صعوبة جرده من خلال المصادر ، وإن كانت هذه الأخيرة سواء المغربية أو الأجنبية بالنسبة للفترة المدروسة، تختزل إشارات إحصائية وتقديرات لفظية عن عدد السكان؛ مثال "الكانون" "دشر" "دوار" "القبيلة" "مدينة" "ناحية" "آهلة" "كثرة" "جمهور غفير" "بطون المدن" ، "وعن المدن والأسواق" "وعدد المساكن والفنادق والحمامات" وغيرها من المرافق العمومية . في نصوص إنطباعية لا تنطق بلغة الأرقام ، لكنها تعطي انطباعا تشكل في ذهنية الباحث، مما يمكن اعتباره معطيات ومؤشرات ، إذا تم ضبطها وتوحيد قراءتها وإخضاعها للنقد التاريخي بإمكانها تقريبنا أكثر من آليات إن لم نقل منهجية للبحث في الديمغرافيا التاريخية[19]. وهذا النوع من النصوص نجده بكثرة عند كل من "الوزان" "ومارمول كربخال"، وفي هذا الصدد نسوق مثلين لكل واحد منهما:
· النص الأول للوزان: ناحية دكالة " آهلة جدا بالسكان".[20]
· النص الثاني لمارمول كربخال: "فاس أكبر وأجمل مدن إفريقيا كلها"[21].
نستشف بعد إستقراء النصين أنهما يحملان نفس الإنطباع و الدلالة عن التكاثر السكاني بكل من ناحية دكالة ومدينة فاس، ومعلوم أن النصوص الإنطباعية تأخذ شكل الكثرة كما النقصان ، فثمة نصوص أخرى تعكس ما أصاب البنية السكانية من إنخفاض من جراء الحروب والكوارث والحوائج . حسب الأستاذ ابراهيم القادري بوتشيش غالبا ما تكون مفيدة في معرفة حجم ساكنة المغرب كثرة أو قلة رغم أنها لا تفصح عن أرقام إحصائية. ومع أن هذه النصوص تتسم بالعمومية وعدم الدقة ، لكنها تكشف عن الخطوط العريضة للتطور الديمغرافي.[22]
إلى جانب هذه النصوص نجد نصوص أخرى يمكننا وصفها "بالنصوص الرقمية " تتسم هي الأخرى بأهمية أكبر لما تحويه من أرقام إحصائية تقريبية؛ والمصدريين السابقين يحملان الكثير من دلائل هذا الصنف على سبيل الذكر لا الحصر:
· النص الأول للوزان : "مدينة آسفي" فيها {آسفي} نحو أربعة آلاف كانون "[23].
· النص الثاني لمارمول كربخال : "ينيف عدد مساكنها {تدنست}على ثلاثة آلاف"[24] .
حملت النصوص التاريخية معالم الإختلاف، بل التباعد الصارخ في تقدير ساكنة بعض المناطق، منطقة "تكوليت" بإقليم حاحا خير دليل على ذلك .فبينما اقترح الوزان أن نسبة الساكنة بالمنطقة تبلغ 1000كانون[25]، قدر مارمول كربخال ساكنة نفس المنطقة ب 1500ساكن[26] وليس كانون .
تتوقف أهمية هذا الصنف من النصوص على مدى قدرة الباحث على الإلتزام بمراجعتها وتمحيصها وإخضاعها للمقارنة مع نصوص أخرى متزامنة ، تجنبا للسقوط في مزالق مبالغات المؤرخين. إن هذه النوعية من المصادر تقتضي تعاملا حذرا بغض النظر عما تحمله من مادة خام بإمكان الباحث توظيفها ،إن هو أوجد السبيل السليم لذلك عن طريق منهج رصين موضوعي يقيه شر الإنغماس في النص وإجتراره، وبالتالي محاداة النتائج الأقرب إلى الدقة.
تبرز مسألة تحديد المعاملات في البحث الديمغرافي بمثابة عائق حقيقي، لذلك كان من البديهي أن يذهب كل باحث مذهبا خاص به في تحديد معامل مناسب للألفاظ والعبارات التي حملتها النصوص الإنطباعية وحتى الرقمية، وفي هذا السياق سنعمل على محاولة رصد هذه الصعوبة عبر تطبيق بسيط على إحدى العبارات والألفاظ ، وهنا اخترت "كانون" مثال لذلك.
يجمع جل الباحثين إلى أن المقصود بالكانون هو مجموعة من الأشخاص الساكنين في محل واحد والمكونين لزمرة عائلية واحدة عند توزيع التكاليف وتقسيم بعض المنافع ، إلا أن هذه الطريقة مع ذلك تكتنفها العديد من المصاعب يأتي في مقدمتها إختلاف الباحثين فيما يخص معامل الكانون – كوحدة حسابية- وهو مقياس لا يمكننا من معرفة عدد السكان الحقيقي[27]، و يرتبط ذلك على ما نعتقد بإختلاف عدد أفراد الكانون الواحد حسب المناطق والزمن ،على أن كل تعميم في هذا المجال يعتبر مجازفة خطيرة[28].
بين هذا وذاك يبقى الأهم والأكيد، أن عملية البحث في موضوع السكان في تاريخ المغرب كمقاربة كمية رقمية أمر صعب جدا، لأننا نفتقد لسجلات الولادات والوفيات والجبايات على الطراز الأوروبي ، بسبب غياب التأطير الإداري كالذي عرفه المغرب زمن الحماية، وهذه بالتحديد المستندات التي أمكنت الأوروبيين من إعادة بناء تاريخهم الديموغرافي على نحو كمي، عبر سلسلة من البيانات والجداول والقوائم. لقد اصطدمت معظم الدراسات المونوغرافية التي حاولت ملامسة المسألة الديموغرافية بمشكلة الأرشيف، إذ اضطرت لتنهل من اللوحات الجغرافية التي رسمها الحسن الوزان، ومن شهادة الإخباريين وملاحظات الأوربيين. فهل لدينا القدرة للخروج عن هذه القاعدة ؟ هل توجد إمكانيات مصدرية أخرى؟ يقول الجغرافي دانييل نوان الذي خصص فصلا كاملا للجانب التاريخي في كتابه " الساكنة القروية بالمغرب "، استنادا إلى النصوص الأوروبية :"من غير المستحيل أن تحتوي الوثائق المغربية المغمورة على مفاجئات"[29].
1.3. ديمغرافيا المغرب والتقديرات المسجلة .
اختلفت الأرقام المقدمة حول عدد سكان المغرب في الفترة الوطاسية، لأنها كانت ناتجة عن تقديرات الباحثين المعاصرين. جلهم إستقاها من شهادات مؤرخين زاروا المغرب (إفتقدوا للدقة) وجاءت شهاداتهم إنطباعية عمومية واختيارية، تتأثر إلى حد بعيد بشخصية أصحابها وتتناقض أحيانا مع بعضها، فضلا على أنها اعتمدت على ما أورده الوزان في الوصف، بالرغم ما يشوب هذا الأخير من تحفظات من قبيل كون الأرقام التي يقدمها تقريبية، ولكونه يسكت في كثير من الأحيان عن ذكر عدد من الكوانين في المراكز التي يتحدث عنها ، و يكتفي بإضفاء صفة الكبيرة أو الصغيرة على هذه المراكز دون أي توضيح. وقد نهج مارمول نفس طريقة الوزان في الوصف، وأخذ عنه في أحيان كثيرة، رغم أنه يتحدث عن فترات متأخرة من القرن 16م[30]؛ في ظل هذه التحفظات، اعتمد الباحثون كثيرا على الوزان ،سواء منهم المشتغلون بالقرن 15أو 16م أو حتى الفترات اللاحقة ، بالنظر لما يحمله مؤلفه من تقديرات وأرقام حول ساكنة المغرب .
أهم التقديرات والتخمينات الرقمية المسجلة؛ في أغلبها كانت من طرف باحثين أجانب، فهذا فرناند بروديل F.Braudel [31] يجعل مجموع سكان شمال إفريقيا (المغرب والجزائر وتونس ) يتراوح بين ملونين وثلاثة ملايين نسمة[32]، لكن من دون دليل كما يعترف هو بذلك[33]، و هذا تقدير هزيل لا يقبل به أحد، وإلا كيف نفسر تللك الصراعات المريرة على الأرض والمراعي وتدافع القبائل فيما بينها[34]،ويستند في تقديره على بعض المؤشرات ؛من بينها تكاثر الأسود والحيوانات المفترسة حتى بالقرب من المدن، لدرجة أن عددا من الدواوير كانت تحمي نفسها بسدور الشوك ،مما يوحي بفراغ البلاد من السكان. ورغم أن ظاهرة إنتشار الأسود ثابتة من خلال المصادر المغربية والأجنبية فإنها لا تنهض بمفردها لتبرير الرقم الذي قدمه بروديل[35].
خلص "لوي ماسينيون[36]"L. Massignon إنطلاقا من الأرقام التي قدرها الوزان ونصوص أخرى إيبيرية بالدرجة الأولى بشأن أعداد فرسان القبائل إلى أن عدد سكان القبائل كان حوالي 6921000 نسمة ،أما عن عدد سكان المدن فقد أحجم عن تقديم أي تقدير لعدم دقة الأرقام. إلا أن الأرقام التي قدمها الوزان بشأن عدد من سكان المدن ترفع بالتأكيد العدد الإجمالي لسكان المغرب كافة إلى ما يفوق السبعة ملايين نسمة[37]! . وجاءت تقديرات ماسينيون على النحو التالي : 4071000 [38]من السكان الأمازيغ ، و2850000[39] من السكان العرب ، أي ما يناهز سبعة ملايين نسمة عند بداية القرن السادس عشر، هذا تقدير مبالغ فيه من دون شك[40]. يدعم المؤرخ البرتغالي "ماغاليس فيتورينو غودينو M. V. Godinho في كتابه Historia economica e expanso portuguesa" ، رقم ماسينيون السابق وقدر مجمل السكان في مطلع القرن 16م بأكثر من ستة ملايين نسمة[41].
قارب الجغرافي الفرنسي دانييل نوان هذه التقديرات مقاربة جيدة. لقد استطاع ، انطلاقا من نسبة نمو سنوية تقدر ب 0.9 في الآلف المميزة للوتيرة الديمغرافية في أوربا قبل الثورة الصناعية وبخاصة فرنسا و إنجلترا. تقديم رقم يتراوح بين ثلاثة ملايين ونصف وأربعة ملايين نسمة[42] بخصوص منتصف القرن السادس عشر[43] ، واقترح أن تكون نسبة الكثافة بالمغرب خلال هذه المرحلة تتراوح ما بين 11و12في كلم مربع[44]، في حين حصر كثافة السكان بالبوادي المغربية ما بين 9 إلى10نسمة في الكلم مربع[45].
أما روزنبرجي[46] فيرى أن عدد سكان المغرب لم يكن يتعدى ثلاثة ملايين نسمة رغم أنه يؤمن بإستحالة إنجاز تاريخ ديمغرافي للعهود البعيدة، وتعدره حتى بالنسبة للعهود القريبة ،مثلا القرن الماضي[47]. وقد عمدت إحدى الدراسات[48] حسب الأستاذ عثمان المنصوري، الى تجميع ودراسة الأرقام والمعلومات التي جاءت في وصف افريقيا للوزان ،وتوصلت إلى أن مجموع سكان المدن في مطلع القرن 16م يصل إلى 130400كانون،مما يعطي في حالة إعتبار أن يكون يعادل خمسة أفراد :652000نسمة ،بإعتبار أن الكانون يعادل خمسة أفراد[49]؛ وإذا قارنا هذا العدد بمجموع سكان المغرب حسب التقديرات التي رأيناها والمتراوحة بين ملونين ونصف وستة ملايين، فإن نسبة سكان المدن إلى مجموع السكان تتراوح بين 11%و43%، وهذا يعني في نفس الوقت أن سكان البوادي كانوا أكثر من سكان المدن (57% و89%)[50]. عموما اليوم هناك بعض المحاولات على يد باحثين أدركوا أهمية الديمغرافية التاريخية الكبير، في بناء المعرفة التاريخية ، لما من شأنها أن تكشفه من ثغرات وحلقات مفقودة في تاريخ المغرب ، وكذا إعادة ترميم ما إتخذ ناموسا في هذا التاريخ .رغم الصعاب والمزالق التي يطرحها البحث في هذا الحقل.
1.4. توزيع الكثافة السكانية وتأثيرها على الأنشطة الفلاحية.
يفسر توزيع الكثافة السكانية بمغرب النصف الثاني من القرن الخامس عشر والنصف الأول من القرن السادس عشر بعامليين أساسيين: العامل الأول طبيعي_مناخي. والثاني ارتبط بالوضع السياسي العام للبلاد بما في ذلك التدخل الأجنبي بالإضافة الى الأوبئة والمجاعات المتفشية.
لقد سمحت الظروف الطبيعية-المناخية بكثافة سكانية[51] مرتفعة في القسم الشمالي[52] والغربي خاصة سهول الواجهة الأطلنتية. بالنطر لمؤهلاتها المناخية والطبيعية الجيدة التي سبقت الإشارة إليها. ومن المرجح أن تكون قد فاقت تلك التي اقترحها الفرنسي دانييل نوان بخصوص منتصف القرن السادس عشر، وتراوحت ما بين 11و12في كلم مربع[53] ، في حين حصر كثافة السكان بالبوادي المغربية ما بين 9إلى 10نسمة في الكلم مربع[54].
غير أن هذه الكثافة سرعان ما ستنخفض بالمناطق الساحلية والسهلية الخصبة بالواجهة الأطلنيتة على وجه الخصوص لصالح المرتفعات والجبال والواحات، حتى أن المخزن الوطاسي اضطر إلى نقل ما بقي من أهل بعض القرى الدكالية[55] ،الذين كانوا يعانون من الإحتلال البرتغالي[56] ،لإعمار سهل سايس، الذي خربت مدنه وقراه ، وانتقل أهله للإقامة فوق رباه، بسبب الحروب التي عرفها المغرب عبر تاريخه، والتي أدت إلى خلخلة التوزيع الجغرافي للقبائل وبنياتها الإقتصادية والإجتماعية ،وإلى خراب الكثير من المدن بالعديد من السهول. منها تلك التي اندلعت في أوائل القرن 9ه/15م،والتي سماها الوزان "حروب سعيد"، التي دمرت مختلف المدن والقرى الواقعة بين وادي أبي رقراق جنوبا ،ووادي إيناون شرقا ،ووادي سبو شمالا ،والمحيط غربا ،ثم حروب الإحتلال الإيبيري، الذي عمق من أزمة السهول الأطلنتية والمناطق المتوسطية[57] ،لاسيما القريبة من الثغور التي احتلت خلال القرنين 15و16م ودمرت أو هجرت كثير من مدنها وقراها ،تفاديا لتعسفات المغيرين البرتغاليين التي تجاوزت أعمال النهب والسلب إلى أعمال القتل والأسر في صفوف المغاربة ،وساعدت أعمال وسلوك الأعراب التخريبية كذلك في هذا النزوح ،إذ غالبا ما كانت تلجأ تلك القبائل حافظا على أمنها وحماية لممتلكاتها وتفاديا للإتاوات التي أثقلت كاهلها. حتى إن الوزان تأسف ورق قلبه كثيرا لأحوالها ،لأن إعادة تعميرها لم يكن يتطلب إلا القليل من الإصلاحات ،غير أن الأعراب ،الذين استبدوا بمعظم تلك السهول ،قاوموا ذلك بشدة خوفا من تقلص مساحات الرعي فيها، لإعتمادهم على تربية الماشية قبل الزراعة[58].مما ترتب عنه تراجع في الإنتاج الفلاحي من الحبوب والخضر والفواكه ،سوء على مستوى الكم، بسبب نقص اليد العاملة، أو الكيف بسبب نقص مهارة الفلاحين الجدد، الذين كان نشاطهم الرئيسي السابق هو الرعي.
كان لعملية النزوح هاته الناتجة عن التدخل الأجنبي والفوضى العامة التي عرفها المغرب بسبب ضعف سلطة المخزن الوطاسي؛ نتائج وخيمة على الحياة الفلاحية. فوتت على البلاد رخاء إقتصاديا كان ممكنا، رغم سنوات الجفاف التي تخللت الفترة، وقعدت لسيادة أعمال فلاحية مخلة وغير مهيكلة ؛كسيادة نمط الترحال من طرف الأعراب في السهول المهيأة أكثر للإستقرار والزراعة. حتى أصبحت دكالة مفتقرة بإستمرار إلى الحبوب بعد سنة 1514م، وعانت كثيرا من قلة هذه المادة خلال سنة 1517م[59]. وهكذا فرضت الأوضاع السياسية العامة كثافة سكانية في المرتفعات والواحات على حساب السهول الخصبة[60]. بل وحددت منحى حركة القبائل المغربية باتجاه الداخل في أعماق البلاد (الشرق). لقد شملت هذه الكثافة السكانية مناطق أقل إنتاجا ومردودية من مناطق النزوح الأصلية ، ودفعت القبائل الى الإعتماد في عيشها وأنشطتها على زراعة مقللة في هوامش المداشر والقرى ،لم تكن بقدرتها تغطية حاجيات الساكنة ،في المقابل ساهمت في التقعيد لبعض النزاعات حول هذه الرقع الصغيرة. وان فاقت الكثافة في تللك الربوع قيمة الإنتاج الزراعي، كان من الطبيعي حدوث مجاعات في غير أوقات الجفاف والقحط، وحدوث غلاء في الأقوات خصوصا القمح. وبالتالي كان لسوء توزيع الكثافة السكانية وما ترتب عنها من حركية للقبائل، الأثر البالغ على المردودية وبالتالي الوضع الإقتصادي ككل.
حافظت الواحات على كثافتها السكانية، رغم شيوع الإعتقاد أن المناطق الجافة وشبه الجافة هي التي تكون عرضة لآفة الجفاف وهجوم أسراب الجراد، مما ينعكس سلبا على الإقتصاد القائم على العنصر البشري أكثر من أية منطقة أخرى .والواقع أن الأمر كذلك فعلا إلا أن استعداد السكان الدائم لمثل هذه الأهوال واعتماد السقي في الزراعة واختيار مزروعات لا تتطلب كمية كبيرة من الأمطار وغراسة النخيل وغيره واعتماد تخزين الأقوات ، كل ذلك كان يحول دون تحول ظاهرة الجفاف إلى مجاعة حقيقة وخطيرة وأزمة حادة في كثير من الأحيان، لاسيما إذا توفر عنصر الأمن، فقد اهتدى "الأستاذ محمد استيتو"؛ إلى أن هذه الإمكانيات على بساطتها هي التي حالت دون وصول مجاعة مطلع العقد الثالث من القرن 16م إلى هذه الجهات بمثل مستوى خطورتها الذي بلغته في الأقاليم الشمالية ،خاصة في سهول تامسنا ودكالة وحاحا وتادلا .وما قيل عن مخلفات الجفاف على بعض الأقاليم دون غيرها يقال كذلك بالنسبة لحدة الأوبئة فتكا بالبشرية ، فقد لاحظ "روزنبيرجي" أن المناطق الجبلية والصحراوية تعتبر أقل المناطق تضررا للإصابة بالطاعون، نظرا لأن الهواء بارد في الجبال وحار بالمناطق الجافة عموما. وهي ظروف تكون في الغالب غير ملائمة لإنتعاش حشرة البرغوت الناقلة لفيروس الطاعون ،ولأن الروائح المنبعثة من الأغنام والماعز التي يقبل على تربيتها سكان هذه الجهات تعمل على طرد تلك الحشرة ،مما يحد من انتقال العدوى بشكل كبير ،ويجعل الخسائر البشرية أقل بالمقارنة مع السهول المعروفة بكثافة سكانها وبإنتشار الحيوانات القارضة ،التي تعتبر أنسب عامل لنقل لعدوى، ورغم أهمية كلام روزنبيرجي إلا أنه لابد من الإشارة إلى أن الذي يتحكم في التقليل من الإصابة بوباء الطاعون بالمناطق الباردة وشبه الجافة وهو وجود الهواء النقي، عكس ما نلاحظه بالمدن والحواضر المعروفة بالإكتظاظ البشري وكثرة الأوساخ[61] ،ولا يقتصر الأمر على سهولة انتقال وباء الطاعون في السهول والمدن أكثر من البوادي. معلوم أن دور مثل الكوارث في إعادة توزيع السكان لا يقتصر على كثرة الوفيات التي كانت تعرفها السهول أكثر من الجبال والصحراء فقط ،بل ترجع كذلك إلى عامل الهجرة التي غالبا ما كانت تتم من المناطق المنكوبة إلى المناطق الأقل تضررا ،أي المناطق الجبلية والصحراوية بصفة خاصة[62].
1.5. الوضع الديمغرافي والبنية العمرية وأثرهما على الاقتصاد الفلاحي.
تتصف المعلومات الديمغرافية المقدمة من طرف المصادر بالقلة وعدم التقيد بمكان و زمن معينين، إلا أن هناك من النصوص ما يثير الفضول العلمي، خاصة هذا النص الذي بين أيدينا وهو للحسن الوزان، "يعمر الرجال طويلا فيعيشون عادة ثمانين أو تسعين أو مائة سنة ،وشيخوختهم قوية خالية من العلل التي تحملها معها السنون، فهم يسيرون وراء بهائمهم إلى أن يدركهم الموت"[63]. وكان الوزان قد خصص محورا في وصفه عنونه ب: "قصر العمر وطوله عند الأفارقة" حمل ما مفاده :"يعمر الناس في جميع مدن بلاد البربر وقراها من خمسة وستين إلى سبعين عاما ،ويعيش قليل منهم أكثر من ذلك ،غير أنه في الجبال من يبلغ مائة سنة أو يجاوزها .وشيخوختهم قوية مرنة .ولقد رأيت بعض الجبلين بلغوا الثمانين أو جاوزوها يحرثون الأرض وينقشون الكرم ويقومون بسائر الأعمال التي يحتاجون إليها بخفة عجيبة .ورأيت أعجب من ذلك في الأطلس في هذه السن يشاركون في الحروب ويصارعون الشبان بشجاعة وكثيرا ما ينتصرون".[64]
تبدو نصوص الوزان وكأنها حاملة لمعالم-ضمنيا- وصف هرم سكاني ،وإن افتقدت لفئاته العمرية من ذكور وإناث وتقديراتهما، إلا أنها تقدم إنطباعا عن الفئة العمرية المسيطرة " الشيوخ" في مغرب الفترة الوطاسية، وعن أمد الحياة الذي يتراوح بين 65و70 سنة[65]. لقد ولدت لدينا هاته النصوص أسئلة عديدة من قبل: لماذا انبرى الوصف لمعلومات كهاته بالنظر لدقتها المتناهية ،ولماذا لم يلفت الإنتباه لفئة أخرى مثلا ؟
في الواقع لم تكن شيخوخة المجتمع المغربي المثيرة لإنتباه الوزان أمرا إعتباطيا ،بل كان لها دواعيها و ما يفسرها في تلك الفترة التاريخية. فكان من الطبيعي جدا أن يشيخ المجتمع المغربي بالنظر لما عرفه من نزيف ديمغرافي من جراء الحروب والأسر والكوارث الطبيعية[66] . فلا غرابة أن تستنزف الحروب القبلية والفوضى المستمرة ساكنة البلد وتحدث خللا وتشوها في هرمه السكاني، إلى جانب طبعا التدخل البرتغالي، وما تبعه من تقتيل وأسر[67][68] في صفوف المغاربة[69]، بالإضافة إلى غضب الطبيعة المتكرر الذي هيأ الأرضية للمجاعات والأوبئة الجارفة والهجرات المتتالية لساكنة البلد. فإذا ما أجمعنا على أن هذه العلل استهدفت الفئة الشابة خاصة النساء في سن الإنجاب، فإن العواقب لا تقف عند تناقص عدد ساكنة المغرب ،بل أغلب الظن أنها ستجعل من الصعب على ساكنة المغرب أن تعود إلى التكون إلا بعد وقت طويل.[70]
لاشك أن الإنخفاض الديمغرافي والتشوه الذي عرفه الهرم السكاني المغربي خلال الفترة الوطاسية كان له بالغ الأثر على الحياة الإقتصادية العامة للدولة، على اعتبار أن النموذج الإقتصادي الذي تخلل بنى المغرب جعل منه مجتمعا تقليديا موارده الطبيعية لم تستغل بعد ،تسمح بإمكانية استثمارها ضمن حركية التجديد التقني والإبداع المطلوب ،والتي تحتاج إلى يد عاملة وبالتالي إلى وضع ديمغرافي مستقر في منحى الإرتفاع، باعتباره شرط أساسي في مثل هذا النموذج لإحداث تقدم إقتصادي. في ضوء ذلك فإنه يمكن فهم وتقدير رأي ابن خلدون في هذا الموضوع ،حيث يرى أن كثرة السكان عامل إيجابي لتحقيق وإنجاز التقدم الإقتصادي وأن قلتها في البداية تعيق التقدم وفي النهاية تضعضعه . كما أن لإبن خلدون عبارات عديدة تؤكد على رأيه منها على سبيل المثال لا الحصر :"إن عظم الدولة واتساع نطاقها وطول أمدها على نسبة القائمين بها في الكثرة والقلة "[71].وقوله :"ألا ترى إلى الأمصار القليلة الساكن كيف يقل الرزق والكسب فيها أو يفقد بقلة الأعمال الإنسانية ،كذلك الأمصار التي يكون عمرانها أكثر يكون أهلها أوسع أحوالا وأشد رفاهية"[72]. كان للإنخفاض الديمغرافي خلال الفترة الوطاسية أثره السلبية على القطاعات الإقتصادية الثلاث، بالنظر لما كانت تحتاجه من يد عاملة مستثمر، وأسواق مصرفة يكثر عليها الطلب ، لإحداث ما يمكن أن نسميه رواجا اقتصاديا ، تماشيا مع ما خلص إليه ابن خلدون . وبالتالي فإن عظم الدولة وهو الأمر الذي افتقده بني وطاس في بداية تثبيت حكمهم.
في وسط هذا الخضم المتلاطم لا نعجز عن الإمساك ببعض الخيوط ذات الدلالات الهامة ،ومن ذلك أن هناك علاقة تبادلية –تأثير وتأثر- بين السكان والنمو الإقتصادي ويشير ابن خلدون إلى ما تحدثه قلة الانتاج في نهاية مرحلة الرواج من مجاعات ووفيات ،وكذلك ما يولده النمو المتعاظم من تأثيرات جانبية على حجم السكان من نقصان يحدث من جراء الأوبئة والمجاعات.
بدون عامل ديمغرافي مهم يتسم بالإرتفاع من الصعب تحقيق نمو إقتصادي خاصة في بنية إقتصادية كتلك التي عرفها المغرب الوطاسي. إن القلة البشرية في هذا النموذج إلى جانب سوء توزيع الكثافة الموجودة كما سبق الإشارة إلى ذلك، أثرتا سلبا على الحياة الإقتصادية. إن النتائج المتوصل لها في البحث دفعتني إلى أخذ العامل السكاني بعين الإعتبار في تفسير بعض القضايا الإقتصادية بل والعامة، لم لها من أهمية في فك شفرات الموضوع.
يتبين من كل ما سبق أن مغرب الفترة الوطاسية عرف زيادة في عدد سكانه ،نتيجة توافد أعداد من المهاجرين[73]. كما عرف نقصا في عدد سكانه بسبب ما أصابه من حروب وكوارث ،وتخريب لعدد هام من مراكزه الحضرية، إلا أن نسبة النقصان كانت أعظم بكثير من نسبة الزيادة ،وبما أن كلا من الزيادة والنقصان لم يتما دفعة واحدة ، وإنما خلال فترات ،وعلى دفعات .فإن عدد سكان المغرب لم يعرف إستقرارا، كما لم يعرف نموا طبيعيا مهما خلال الفترة[74]. زبدة الكلام، أفرزت فداحة الإنخفاض الديمغرافي تحركات وهجرات متتالية مختلفة الدوافع متأثرة بالظروف العامة ،ترتب عنها هي الأخرى توزيع قبلي جديد وشيوع أنشطة فلاحية في مقابل تراجع أخرى.
[1] حبيدة محمد، الديمغرافية التاريخية من الإجرائية الكمية إلى المقاربة الكيفية وجد، الديمغرافيا في تاريخ المغرب ،مجلة كنانيش (مجلة متخصصة في الديمغرافيا التاريخية)، إعداد مصطفى نشاط ومحمد استيتو، العدد الأول /1999، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية محمد الأول . ص11.
[2] حبيدة محمد ، الديمغرافية التاريخية من الإجرائية الكمية إلى المقاربة الكيفية وجد، الديمغرافيا في تاريخ المغرب. مرجع سابق، ص11.
[3] نفسه، ص12.
[4] نفسه، ص13.
[5] له كتاب :Techniques d’analyse en démographie historique
[6] له كتاب:Introduction à la démographie historique des villes d’Europe du
[7] بوجمعة رويان ،بعض جوانب الوضعية الديمغرافيا للمغرب إبان فترة الحماية ،الديمغرافيا في تاريخ المغرب ، إعداد مصطفى نشاط ومحمد استيتو ،مجلة كنانيش ، العدد 1/1999، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة ، ص211.
[8] برنارد رودريكش، حوليات أصيلا: 1508/1535 ، ترجمة أحمد بوشرب ، ط 1، دار الثقافة ، الدار البيضاء ،2007.
[10] عبداللطيف الشاذلي ،التصوف والمجتمع نماذج من القرن العاشر الهجري ،منشورات جامعة الحسن الثاني ،ص247-248.
[11] L. Massignon, le Maroc dans les premières années du 16e siècle , Alger ,1906.p161.
[12] عثمان المنصوري ، بعض قضايا البحث الديمغرافي في الفترة الحديثة (القرن 16م نموذجا)، الديمغرافيا في تاريخ المغرب ، إعداد مصطفى نشاط و محمد استيتو ، مجلة كنانيش ، العدد1/1999.ص84.
[13] أحمد الوارث، الأولياء ودورهم الإجتماعي والسياسي في المغرب خلال القرن السادس عشر، الجزء الثاني، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في التاريخ ، جامعة سيدي محمد بن عبدالله كلية الآداب والعلوم الإنسانية فاس، 1988. رسالة مرقونة بمكتبة الكلية تحت رقم 347. ص583.
[14] إذا ما اعتبرنا أن الفترة شهدت تحولات عميقة في ظل تكاثر وتوالي الحوائج واستفحال الفوضى .
[15] العود ة لكتابه التجارة والتجار بالمغرب في القرن 16م.
[16] عثمان المنصوري ،التجارة بالمغرب في القرن السادس عشر: مساهمة في تاريخ المغرب الاقتصادي، منشورات كلية الآداب والعلوم الانسانية-الرباط، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الأولى، 2011.ص336.
[17] محمد استيتو، الأزمة الديمغرافيا في تاريخ المغرب الحديث ، الديمغرافيا في تاريخ المغرب ، إعداد مصطفى نشاط ومحمد استيتو، مجلة كنانيش ، العدد1/1999، ص113.
[18] محمد استيتو، الأزمة الديمغرافيا في تاريخ المغرب الحديث ، الديمغرافيا في تاريخ المغرب. مرجع سابق،113-114.
[19] محمد حجاج الطويل ، المسألة الديمغرافية : نحو منهجية ديمغرافية محاولات إحصائية ( العصر الوسيط) الديمغرافيا في تاريخ المغرب ، إعداد مصطفى نشاط و محمد استيتو ، مجلة كنانيش ، العدد1/1999،ص20.
[20] الحسن الوزان، وصف افريقيا ،ج1، ترجمة محمد حجي ومحمد الأخضر ، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الثانية، بيروت، 1983. ص147.
[21] مارمول كربخال، افريقيا،ج2،ترجمة محمد حجي وأخرون، الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، المعارف الجديدة الرباط،1984، ص144.
[22] ابراهيم القادري بوتشيش،أثر قيام الدول وسقوطها في التطور الديمغرافي بالمغرب في العصر الوسيط (دراسة حالة)،الديمغرافيا في تاريخ المغرب ، إعداد مصطفى نشاط و محمد استيتو ، مجلة كنانيش ، العدد1/1999، ص42.
[23] الوزان،ج1،ص147.
[24] مارمول كربخال ،ج2،ص9.
[25] الوزان،ج1،ص100.
[26] مارمول كربخال،ج2،ص15.
[27] عثمان المنصوري ، بعض قضايا البحث الديمغرافي في الفترة الحديثة (القرن 16م نموذجا)، الديمغرافيا في تاريخ المغرب ، إعداد مصطفى نشاط و محمد استيتو ، مجلة كنانيش ، العدد1/1999.ص84.
[28] أحمد عبد اللوي علوي، مدغرة وادي زيز: إسهام في دراسة المجتمع الواحي المغربي خلال العصر الحديث.ج1، وزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية،1996. ص404.
[29] محمد حبيدة ،بؤس التاريخ ،دار الأمان، الطبعة الثانية ، 2016،ص73.
[30] عثمان المنصوري ، بعض قضايا البحث الديمغرافي في الفترة الحديثة (القرن 16م نموذجا)، الديمغرافيا في تاريخ المغرب ، إعداد مصطفى نشاط و محمد استيتو ، مجلة كنانيش ، العدد1/1999.ص84.
[31] تجب الإشارة أن هذا الرقم قد اقتبسه فيرناند بروديل عن أبحاث جوزياه روسيل ، والتي تقول أن بلاد المغارب في مجملها كانت تضم اثنين إلى ثلاثة ملايين نسمة. محمد حبيدة ، بؤس التاريخ ، ص76.
[32] F. Braudel, la méditerranée et le monde méditerranées à l’époque de Philippe2,vol,5éme édit .paris.p362.
[33] محمد حبيدة ،بؤس التاريخ ، مرجع سابق، ص76.
[34] محمد استيتو ، فائدة كتب الرحلات والجغرافية في كتابة التاريخ الإقتصادي للمغرب :انموذج وصف الوزان للحسن الوزان، المغرب في عهد الوطاسيين، منشورات جمعية الحسن الوزان للمعرفة التاريخية، الطبعة الأولى، بيروت،1983 ،ص38.
[35] عثمان المنصوري ، التجارة بالمغرب في القرن السادس عشر: مساهمة في تاريخ المغرب الاقتصادي، منشورات كلية الآداب والعلوم الانسانية-الرباط، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الأولى،2001، ص337.
[36] L. Massignon, le Maroc dans les premières années du 16e siècle , Alger ,1906.
[37] محمد استيتو، مرجع سابق ،ص38.
[38] L. Massignon, op. cit,p147..
[39]Ibid., p134.
[40] محمد حبيدة ،بؤس التاريخ ،دار الأمان ، الكرامة ،الطبعة الثانية ، 2016.ص76.
[41] محمد استيتو ، نفسه، ص38.
[42] D. Noin, la population rurale du Maroc ,paris ,1970,t1,p240
[43] محمد حبيدة ،بؤس التاريخ ،دار الأمان ، الكرامة ،الطبعة الثانية ، 2016.ص76 . راجع كذلك عثمان المنصوري ، التجارة والتجار في المغرب خلال القرن 16م ...،ص337.
[44] D. Noin, la population rurale du Maroc ,op.cit,p237.
[45] Ibid ,p.234
[46]Bernand Rosenberger, le Maroc au 16e siècle au seuil de la modernité, Fondation Trois Cultures.
[47] عثمان المنصوري، التجارة بالمغرب في القرن السادس عشر: مساهمة في تاريخ المغرب الاقتصادي. مرجع سابق، ص337.
[48] أنجزت من طرف الباحثة "زهرة إخوان" ، صاحبة رسالة مرقونة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط ، "من مظاهر التطور الٌإقتصادي والعمراني في مغرب القرن 16م."
[49] عثمان المنصوري ، بعض قضايا البحث الديمغرافي في الفترة الحديثة (القرن 16م نموذجا)، الديمغرافيا في تاريخ المغرب ، إعداد مصطفى نشاط و محمد استيتو ، مجلة كنانيش ، العدد1/1999.ص85.
[50] عثمان المنصوري، التجارة بالمغرب في القرن السادس عشر، مرجع سابق، ص346.
[51] لقد حافظت بعض الواحات بالقسم الجنوبي الشرقي على كثافة مرتفعة ،نظرا للإرتباط التاريخي والجغرافي بالمنطقة رغم الظروف القاسية التي كانت تمر بها هاته البقع أحيانا .وهناك من السكان من اختار النزوح إلى هذه الجهات : كقصر السويهلة الذي أسسه الأعراب في الصحراء ليحفظوا فيه أموالهم ومؤنهم ويمنعوها من عدوهم ،ولا شيء حوله سوى لعنة الله .فليس هناك حديقة شجر ولا خضر ولا زرع ، ولا أثر لأية حياة ، وإنما هي الحجارة السوداء والرمال . الوزان،ج2.ص 128.
[52] يتحدث برنارد رودريكش عن كثافة سكانية مرتفعة جدا بمداشر وقرى المنطقة الشمالية . برنارد رودريكش ، حوليات أصيلا، 1508/1535، مرجع سابق ، ص100.
[53] D. Noin, la population rurale du Maroc. Op cit. t1, p 237.
[54] Ibid ,p 234.
[55] ذكر الوزان لمرات أن دكالة كانت كثيرة السكان فلقد امتنع سكانها من أداء الضرائب للوطاسيين ،محميين في ذلك بأعدادهم الكبيرة ،وأشار إلى أن محاربيهم بلغوا حوالي مائة ألف ،مع العلم أنه لم يذكر إلا العناصر العربية .وبهذا تكون دكالة قد حافظت على كثافة مهمة في بداية الفترة الوطاسية المتميزة بفتنها وقلاقلها. غير أنها ستشهد التراجع بفعل الهجرات المتتالية التي عرفتها المنطقة ما بين 1513و1520م ، الناجمة عن إحتلال أزمور وفرار كل سكانها الذين التجأوا إلى الشاوية ومنهم من وصل إلى مكناس وفاس .ويرى البعض أن الغزو أفقد دكالة ما بين 34%و44 % من سكانه. بوشرب ،دكالة،ص463.
[56] عانت قبائل الشاوية من جراء الغزو البرتغالي واضطرت إلى ترك أراضيها ،والهروب بعيدا عن متناول غزوات المغيرين البرتغال ،ومن ثم تقلصت الأراضي الزراعية ، كما تعرضت ماشيتهم للنهب ، وحرموا من ولوج سوق أزمور ،وذلك بتعرض كل من دخاه للأسر ،وبذلك حرموا من منفذ ضروري ابيع سلعهم ومن التزود بمواد أساسية بالنسبة لعيشهم. بنكرعي ، مرجع سابق، ص 217.
[57] كبد الإحتلال البرتغالي بغاراته المتتالية القبائل المشرفة على الثغور المحتلة أو القريبة منها خسائر بشرية جسيمة ، لاسيما قبائل بني كرفط وجبل حبيب وبني عروس ، وأحدث بذلك خللا واضحا في توزيع السكان بالإقليم ، فمثلا أصبح جبل أنجرة فارغا من أهله إثر الغزو الذي تعرضت له مدينة القصر الصغير ، ولم يبقى بجبل بني عروس إلا مداشر قليلة في المرتفعات . محمد عمراني ،جوانب من الحياة الإقتصادية والإجتماعية في جبال الريف والهبط :من خلال كتاب "وصف افريقيا "للحسن الوزان ، المغرب في عهد الوطاسيين من خلال كتاب "وصف افريقيا" للحسن الوزان، مرجع سابق،ص103.
[58] محمد استيتو ،فائدة كتب الرحلات والجغرافية في كتابة التاريخ الإقتصادي للمغرب :انموذج وصف الوزان للحسن الوزان، مرجع سابق،ص37.
[59] بوشرب ،دكالة والاستعمار البرتغالي إلى سنة إخلاء آسفي وأزمور (قبل 28 غشت 1481-1541). مرجع سابق،ص463.
[60] حتى أن المجذوب قال : الغرب خالي يصفر مكناس حد العمارة .
فاس ما يندخل لو كان يدور به جناس النصارة.
Comte Henry de Castries, les moralistes populaires de l’islam. Les gnomes de sidi ABD ER-RAHMAN EL-MEDJEDOUB, paris,p74.
[61] يقول ابن خلدون "وقوع الوباء. وسببه في الغالب فساد الهواء بكثرة العمران لكثرة ما يخالطه من العفن والرطوبات الفاسدة ..فإن كان الفساد قويا وقع المرض في الرئة .وهذه هي الطواعين ". المقدمة ،ج2،ص723.
[62] أحمد عبد اللوي علوي، مدغرة وادي زيز إسهام في دراسة المجتمع الواحي المغربي خلال العصر الحديث. الجزء1.صص399-400.
[63] الوزان ،ج1،ص141.
[64] الوزان،ج1،ص82.
[65] محمد حبيدة، بؤس التاريخ، مرجع سابق، ص87.
[66] عثمان المنصوري ، ، التجارة بالمغرب في القرن السادس عشر: مساهمة في تاريخ المغرب الاقتصادي. ص339.
[67] استهدف الأسر طاقات بشرية قادرة على العمل ،الأمر الذي أثر ديمغرافيا من خلال إعاقة النمو الطبيعي ، وإقتصاديا من خلال النقص في اليد العاملة .
[68] كانت الغارات البرتغالية المتتالية تهدف أولا وقبل كل شيء الى الحصول على الأسرى .وإذا كان عدد هؤلاء الأسرى مهما في بداية التوسع (كانوا يشحنون بالمئات)،فإن الحصول عليهم يتطلب على الأقل نفس العدد من القتلى . بوشرب ،دكالة، ص463.
[69] والتي همت فئة معينة في الهرم الديمغرافي يتم بيعها وهي الفئة الشابة من الجنسين. حليمة بنكرعي، مرجع سابق ، ص123.
[70] برنار روزنبيرجي وحميد التريكي، المجاعات والأوبئة في مغرب القرنين 16و17م. ترجمة عبدالرحيم حزل ، دار الأمان الرباط، الطبعة الثانية، 2010 ، ص 54.
[71] ابن خلدون ،المقدمة، ج2، تحقيق عبدالواحد الوافي، دار النهضة مصر للنشر، الطبعة السابعة، 2014. ص526.
[72] نفسه،ص835.
[73] تزايدت وتيرة الهجرة من الجزيرة الإيبيرية إلى المغرب ،خاصة في نهاية القرن الخامس عشر وبداية السادس عشر.
[74] عثمان المنصوري ، التجارة بالمغرب في القرن السادس عشر: مساهمة في تاريخ المغرب الاقتصادي، منشورات كلية الآداب والعلوم الانسانية-الرباط، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الأولى،2001. ص341.