منذ سنوات قليلة، وعلى إثر ارتداده عن الإسلام وتعميده على يد البابا بشكل علني وبدعاية كبيرة من الفاتيكان واعتباره موضع ترحيب في الكنيسة، كتب الصحفي المصري "مجدي علّام "المعتنق حديثا للمسيحيّة آنذاك" مقالا تهجّم فيه عن الإسلام وقال فيه فيما قال: "إنّ جذور الشرّ متأصّلة في إسلام سمته العنف وتسوده تاريخيّا الصراعات".
وكم كنت أودّ أن أفنّد هذه المزاعم بالحقائق التاريخيّة التي لا تحتمل الشكّ و لا تقبل السجال حولها و لا يمكن بالتالي القفز عليها بجرّة قلم من أيّ كان ، ولاسيما ممّن هو حديث التحوّل إلى المسيحيّة. لأنّها تعدّ من البديهيات والمسلّمات التي لا يمكن إنكارها إلّا من جاهل أو متحامل أو منافق بالمعنى الإسلامي للكلمة. إلّا أنّ ذلك قد يتطلّب مبحثا ليس مجاله هذه العجالة.
ورغم أنّ التحوّل على المسيحيّة هو أمر شخصي وخيار حرّ لا يجادل فيه أحد، فإنّه من غير الوارد أيضا- بالنسبة لي على الأقلّ- أن لا أجادله في قوله في موضع آخر من مقاله بعد التعميد حيث قال: »إنّ فكره تحرّر على مرّ السنين من ظلاميّة عقيدة تعطي شرعيّة للكذب والتستّر والموت العنيف الذي يؤدّي إلى القتل والإنتحار والخضوع الأعمى للإستبداد«. وأنا ليس باستطاعتي هنا- لضيق المجال- أن أردّ على كلّ ما جاء في هذا القول من تجنّ على الإسلام لأنّ ذلك قد يتطلّب صفحات من المقارعات بالحجج الدّامغة التي لا تقبل الطعن ضرورة أنّها تقطع الشكّ باليقين.
لذلك سأكتفي فقط بالردّ السريع على اتّهامه العقيدة الإسلاميّة بأنّها تؤدّي إلى الخضوع الأعمى للإستبداد. وهو أمر معيب، مجانب للصواب، صارخ ومريب، وتكاد تختصّ به الديانة المسيحيّة بامتياز. حيث انّه يستفاد ممّا جاء به أنبياء العهد القديم وأكّده كتاب العهد الجديد، أنّ الروح أو »مملكة الروح« هي وحدها مجال اهتمام المسيح عليه السلام. ممّا يستوجب بالنتيجة الخضوع لمقتضيات السياسة وضغوطاتها على النّاس لأنّها في النّهاية» لا قيمة لها« باعتبارها مرتبطة بما يسمّى» مملكة الأرض«. ولهذا فواجب المؤمن وأعني به المسيحي، أن لا يبتئس لمحن الجسد. لا بل وعليه أن يتحمّل كل المحن والأعباء الدنيويّة بما في ذلك العبوديّة للطغاة، تماما كما يتحمّل العبيد ما هم فيه من عبوديّة ! كلّ ذلك من أجل تخليص الجسد من أدرانه ليتطهّر طمعا في الخلاص الأبدي.
وهذا بعينه ما يفسّر إقرار المسيحيّة بوجود الرقّ واعتباره أحيانا من صنع السّماء ولا حيلة للإنسان فيه. بل إنّها تذكر أحيانا أخرى أنّ الإسترقاق إنّما هو للجسد فقط أمّا الرّوح فهي للمسيح.
ضمن هذا السياق أيضا جاءت عبارات القدّيس بولس الرسول في رسالته إلى أهل كولوسي (الإصحاح الثالث من 33 إلى 35) داعية إلى تحمّل العبوديّة في صبر وتقوى : » أيّها العبيد أطيعوا في كلّ شيء سادتكم.. والظّالم سينال ما ظلم به وليس ثمّة محاباة«. وهو ما جاء كذلك على لسان القدّيس بطرس: » أيّها الأحباب..أخضعوا لكلّ ترتيب بشري من أجل الربّ«. كما نقرأ في كتاب العهد الجديد » لتخضع كلّ نفس للسلاطين الفائقة، لأنّه ليس سلطان إلّا من الله، والسلاطين الكامنة هي مرتبة من الله «. وبالتالي فمن يقاوم السلطان فكأنّه إنّما يقاوم ترتيب الله ويتحدّى الإرادة الإلهيّة. وهو ما يبرّر الطّاعة المطلقة والإمتناع عن المناقشة وإرجاء الامر إلى الله وحده باعتباره المانح للسلطة والمحاسب عليها.
وباعتبار انّ الخضوع الأعمى للإستبداد مبدأ أساسي في المسيحيّة (وفق مصادرها المتداولة بين أيدينا) فقد انبرى عديد الفلاسفة المسيحيين للدفاع عنه. ولعلّ اشهرهم الفيلسوف "القدّيس أوقيستان"(430345- Saint Augutin/) الذي دافع عن مفهوم الطّاعة للحاكم بصرف النظرعمّا إذا كان صالحا أو فاسدا. ذلك أنّه من واجب المؤمن المسيحي أن يتحمّل الظلم لما في ذلك من مسايرة للمواقف المسيحيّة المسالمة التي ترفض مقاومة الشرّ بالشر، وفق ما جاء في إنجيل متى الأصحاح الخامس( 5:39)»: وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا «. وحتّى المصلح المسيحي الكبير "مارتن لوثر"(Martin Louther/1483-1546) مؤسس المذهب البروتستانتي، فرغم ثوريّته التي أدّت إلى إطلاق عصر الإصلاح في أوروبا، فإنه كان دائم التأكيد على واجب الطّاعة العمياء للحاكم ولو كان مستبدّا، إذ يقول في هذا المضمار: » ليس ثمّة أفعال أفضل من طاعة من هم رؤساؤنا وخدمتهم، ولهذا السبب فالعصيان خطيّة أكبر من القتل« ويقول أيضا: »إنّي لأفضّل أن أحتمل أميرا يرتكب الخطأ على شعب يفعل الصّواب« ولم يشذّ عن هذه القاعدة المصلح البروتستنتي الكبير هو الآخر، وهو "جون كالفن") ( Jean Calvin/1509-1564 حيث يقول: » الحاكم السيّء هو عقاب للنّاس على خطاياهم وهو يستحقّ خضوع رعاياه غير المشروط له، وبما لا يقلّ عمّا يستحقّه الحاكم الصّالح، ذلك لأنّ الخضوع ليس للشخص ولكنّه للمنصب« .
وفي ذات السياق ،لا تفوتني الإشارة إلى تصدّى الفيلسوف الألماني " إيمانويل كانط" (Emmanuel Kant/1724-1804) في مقالته الشهيرة التي يعود تاريخها إلى (1784)، والتي كتبها ردّا على القسيس جوهان فريدريك زولنر، تحت عنوان Qu’est ce que les Lumières ? أي "ما التنوير؟" لفكرة الطّاعة التي يستسيغها ويسوّغها كلّ من رجال الدّين ورجال الأمن، فاستنكر كانط على الكاهن (وبالقياس على الشيخ الدّاعية عند المسلمين) أن يقول: » آمن ولا تفكّر« وعلى الضابط أن يقول: » نفّذ ولا تناقش«. وهي بالقطع حالات من الإرهاب الفكري والديني والسياسي في آن معا.
وتبقى لنا وقفة قصيرة عند مفهوم الإسلام لمسألة الطّاعة . فرغم أن المنهج العام هو قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ ] النساء: 59[ فإنّ هناك ضوابط تحدّد معالم هذا المنهج من مثل الحديث النبوي الشريف الذي رواه الإمام أحمد في مسنده »لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق«، ومن مثل الحديث الآخر » أَعْظَمِ الْجِهَادِ كَلِمَةَ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِر (وفي رواية : حقّ) « ومن مثل ما يستقرأ من حكم الخلفاء الرّاشدين كأبي بكر الصدّيق الذي قال عندما عهد بأمر الخلافة من بعده إلى عمر بن الخطّاب : » (...) فاسمعوا له وأطيعوا (... ) فإن عدل فذلك ظنّي به وعلمي فيه، وإن بدّل فلكلّ إمرئ ما اكتسب من الإثم والخير أردت ولا أعلم الغيب وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون «. وهو ما يعني أنّ الخلافة مرهونة برضا النّاس لا بالتسلّط عليهم. ولذلك لمّا تولّى عمر الخلافة قال: » من رأى منكم منّي إعوجاجا فليقوّمه، ما أنا إلّا أحدكم، منزلتي منكم كمنزلة ولي اليتيم منه ومن ماله«. بما يدلّل على جواز الاختلاف في الرأي في الإسلام و حرّية المسلم في التعبير عن رأيه حول طريقة حكم من يسوسونه. أكثر من ذلك، فإنّ الإصداع بهذا الرأي مطلوب ومرحّب به، لا بل ويلام المسلم إن لم يبديه. وهو تماما ما نستشفّه من قول عمر بن الخطّاب لأحد منتقديه : » ويل لكم إن لم تقولوها، وويل لنا إن لم نسمعها«، ومن قوله لأحدى منتقداته، وقد أقنعته برأيها »: أصابت إمرأة وأخطأ عمر «
ولعلّ هذا ما يفسّر ثورة المسلمين على عثمان بن عفّان- وهو الخليفة- وحصاره لأربعين يوما أو يزيد، ثمّ مطالبته بتنفيذ أحد خيارات ثلاثة؛ وهي إمّا أنّه يعزل نفسه، أو أنّه يسلّمهم مروان بن الحكم، أو أنّه يقتل. ولمّا رفض الطلب بخياراته الثلاثة، أحرقوا باب داره ودخلوا عليه وأمسك أحدهم بلحيته وهو يقول له إنّنا لن نقبل أن نقول يوم القيامة: » رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا « ، في إشارة إلى الآية67 من سورة الأحزاب** .
ولا يفوتني هنا التذكير بانّ عائشة أمّ المؤمنين كانت قد طالبت هي الأخرى بقتل عثمان بقولها » أقتلوا نعثلا« وكانت تقصد عثمانا؛ فهو النعثل لطول لحيته.
أفبعد هذه الإستدلالات والحجج من داخل منظومتي المسيحيّة والإسلام، يمكن لعاقل وصم الإسلام بأنّه يؤدّي إلى الخضوع للإستبداد، وتبرئة المسيحيّة من هذه الوصمة، إلّا أن يكون متجنّيا و مخاتلا، متحاملا و حقودا! أو أن يكون انتقاده من باب تقديم الولاء للعقيدة الجديدة التي قد ينتقدها هي الأخرى إنّ هو إرتدّ عليها يوما ما وتحوّل عنها إلى اليهوديّة أو البوذيّة أو الهندوسيّة أو السيخية أو ربّما الزرداشتية ونحوها. وهو لعمري سلوك أرعن لا يمكن تنزيله إلّا في إطار ما عبّرت عنه الآية الكريمة(إنّ الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم ، إنْ في صدورهم إلاّ كِبر ، ما هم ببالغيه ، فاستعذ بالله ، إنه هو السميع البصير)
]سورة غافر - الآية 56[
*كتب هذا المقال منذ حوالي عقد من الزمن، ولكنّي آثرت عدم نشره لاعتبارات شخصيّة لم تعد قائمة اليوم
**يقول بن كثير في تفسيره للآية ( 67) من سورة الأحزاب (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا)
وقال طاوس : سادتنا : يعني الأشراف ، وكبراءنا : يعني العلماء . رواه ابن أبي حاتم .
أي : اتبعنا السادة وهم الأمراء والكبراء من المشيخة ، وخالفنا الرسل واعتقدنا أن عندهم شيئا ، وأنهم على شيء فإذا هم ليسوا على شيء .