حفظت الذاكرة تراثا إنسانيا هائلا في الأدب الذي كان في بداياته الأولى معبرا عن آمال ورؤى وتوجهات تتسم ببساطة التركيب الذي تسايره عبقرية المنحى والتصور ،لكن في العصر الآني مع توجه خارطة العالم نحو التوحد والانصهار ،واختفاء الحدود والهويات ظهر التساؤل حول أهمية الأدب الشعبي ودوره في تاْطير الرؤية الوجودية للإنسان ،وهنا يكون التساؤل:ما هو مستقبل الأدب الشعبي في ظل هذه الظروف الآنية والمتعاقبة؟.
تعامل العقل الإنساني بالإقصاء والإلغاء لأنماط تعبيرية مختلفة وفي طليعتها الأدب الشعبي،حيث همشت هذه الأشكال نظرا لوجود متعاليات مختلفة منها :المتعاليات النفسية أين كان العزوف وليد ضغط نفسي اطر رؤية الإنسان وفق ماتقتضيه الأهمية،إذ التهميش الذي وسم به الأدب الشعبي شكل هاجسا ومانعا نفسيا حال دون الاهتمام به،حيث نظر إليه في مقابل الأدب الرسمي نظرة دونية.
وأما المتعاليات الاجتماعية فقد تمثلت في ضغط المجتمع بفرض نظرة قيمية تخدم الأطر العامة وكل القيم والعادات التي رسخها منذ القدم ،وبالتالي ألغيت أشكال معينة وهمشت لأنها لا تخدم هذه القيم.بالنسبة للمتعاليات السياسية ففي طبيعته شكل الأدب الشعبي بديلا عن الأدب الرسمي وخضع لاهتمام الفئة البسيطة ،ولان كل سلطة تتسم بالجمود وتحاول الحفاظ على الثبات والنمطية أدى ذلك إلى محاربة هذه الأشكال التعبيرية.لكن يدعونا التساؤل إلى القول:هل شكلت هذه المتعاليات حاجزا أمام تطور الأدب الشعبي وموضعته في إطار من الحضور الفاعل ،أم لازال الحديث عن حضور الأدب الشعبي موجودا إلى الآن؟.
حاول الأدب الشعبي دائما أن يشكل كينونة مستقلة محكومة بسلطة الزمان والمكان،أي التموضع في إطار من القيمية المتوارثة،ولان الزمن الآني هو وليد أزمنة متعاقبة فقد تعالت الأصوات للحفاظ على هذا النمط التعبيري على أساس انه يشكل هوية ثابتة تتحدد فيه خصائص زمكانية،لكن الملاحظ هو تراجع هذا الشكل وعدم الاهتمام به إبداعا نظرا لوجود تلك المتعاليات التي ذكرناها سابقا،فالخصائص والوقائع الوجودية تتصاعد نحو التعقيد والتشكل وفق رؤية انطولوجية،تؤطر الوجود على أساس من التعقيدات الاجتماعية والسياسية والعالمية بصفة عامة،كما أن الحديث عن الأدب الشعبي هو من قبيل الحديث عن كينونة ثابتة وهوية تتمراى من خلالها الذات بصفات الزمان والمكان فتصبح خاضعة لتشكيلاتها الآنية والمتعاقبة،أما الآن ومع تحلل الروابط واختفاء الحدود وظهور ما اسميه بالهوية المتعددة أين أصبح الحديث عن هوية نقية من قبيل المغالطة ،أصبح الأدب الشعبي ـ وهو الممثل الأساس لهذه الهوية ـ لا يخضع في تجلياته المختلفة لمتطلبات هذا العصر الذي يتسم باللاتحديد واللامعقول ....،من هنا نظر إلى الأدب الشعبي على أساس من الدونية التي تمتثل للمعطيات الوجودية المعاصرة،فقد أصبح هم الإنسان المعاصر أن تكون صيرورته وكينونته المتحققة مسايرة لنمطية التفكير المعاصر،الإنسان الذي لا ينتمي إلى أي هوية ولا يخضع لأي سلطة سوى سلطة المال على حد تعبير بيار بورديو.
إذن تراجع الأدب الشعبي بشكل كبير وواضح فحلت محله أنماط تعبيرية أخرى ،كما أن الروابط الأسرية الحاضنة لمثل هذه التشكيلات قد انحلت بدورها،وأسهمت في التقليل من موضعته ومعها تفككت الروابط الاجتماعية بصفة خاصة وحلت الصورة محل الرسالة فعزف السامع عن هذه الأشكال وأصبح وجوده حبيسا لهذه الأنماط المعاصرة ـ أي ثقافة الصورة ـ هذا عن مستقبل الأدب الشعبي إبداعا.
أما دراسة فالاهتمام لازال باقيا من طرف العديد من الباحثين وان تراجع الإبداع،لان الأدب الشعبي شكل مادة خصبة لاستخراج التصورات الاجتماعية والسياسية،وحديثا ظهر الاهتمام بالمسكوت عنه والمهمش على أساس انه شكل مادة أقصيت بسبب بسبب خضوعها لسلطات ومتعاليات مختلفة،فحاول الدارسون العودة إليها لاستخراج مكونات العقل الإنساني والكشف عن تحيزات كامنة ونقد لاذع لتلك السلطات،وهذا بهدف الكشف عن العبقرية الشعبية وتأكيد أصالة الفكر الإنساني عامة والفكر العربي خاصة،إذ شكل قيمية ثقافية غنية من خلالها يستخرج الدارسون خصائص الزمان والمكان.
هاشمي غزلان
المركز الجامعي ـ سوق أهراس ـ الجزائر