يبدو أن العلاقة بين مفهومي التسامح والتعصب ليست علاقة تضاد حدي فحسب، وذلك بما يجعل من حضور أحدهما نفياً لحضور الآخر ، وإنما هي علاقة تولّد في بُعدٍ من أبعادها الذي يتجاور فيه التضاد والتولد؛ لكن من منظور التعاقب السببي الذي يغدو به غياب التسامح، وهيمنة التعصب إلى درجة الكارثة باعثاً جذريَّاً على البحث عن نقيضه الذي يغدو ترياقاً له، ووسيلةً حاسمةً في المقاومة والمواجهة وعلاج الآثار التدميرية على السواء. وقد تعلمنا من المتحمسين للجدلية التاريخية أن كل ظاهرة تنطوي على نقيضها، وأن اللحظات التاريخية المعتمة، أو حتى حالكة الظلمة، لا تخلو من بصيص ضئيل من الضوء الذي ينفذ عبر الثغرات، ويؤكد حضوره كالأمر الذي يطرحه مبدأ الرغبة في وسط السطوة القاهرة القمعية لمبدأ الواقع. ومعروفٌ تاريخيّاً أمر الحروب الدينية التي ترتبت على حركات الإصلاح الديني في أوروبا، وما اقترنت به هذه الحركات من تعددية مذهبية ، أفضى التعصب إلى كوارث دفعت على التفكير في مواجهة لها، والبحث عن خلاص من آثارها المدمرة التي حفرت حضورها الدامي في الوعي الأوروبي في القرن الخامس عشر. وكان مفهوم " التسامح " نتيجةً لهذا الحضور الدامي ومواجهةً له، مواجهة بدأت بسيطة ، مهمشة، مقموعة ، لكنها لم تلبث بفعل التراكم والإلحاح أن تحولت إلى حركة فكرية، بدأت من المعتقد الديني، وبسبب الصراعات المقترنة بتأويلاته وفهم نصوصه، ولكنها لم تقتصر عليه، أو تنحصر في مداره المغلق. -ففارقته إلى غيره من مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية والإبداعية . وكانت النتيجة انتقال المفهوم من مرحلة النشأة الدينية التي انبسطت عبر القرنين السادس عشر والسابع عشر إلى التطور والشيوع الأوسع في المرحلة المدنية لمفهوم التسامح الذي انطلق من القرن الثامن عشر، متلازماً مع الدعوات الليبرالية والأحلام الديمقراطية المقترنة بصعود الطبقة الوسطى من ناحية، وازدهار حركة الأنوار فيما يعرف بعصر العقل من ناحية ثانية، وسعي الفلاسفة والمفكرين الدائب إلى تأسيس الدولة المدنية، المستقلة تماماً عن الدولة الدينية والسلطة الدينية على السواء، والقائمة على مبدأ الفصل بين السلطات واحترام التعددية التي يلزم عنها حق الاختلاف . وفي الوقت نفسه، مبدأ تداول السلطة وتدوير النخب. وهو المبدأ الذي لم ينطلق تنفيذه إلا مع ترسخ الممارسات الديمقراطية ، والاستقلال الكامل عن السلطة الدينية ، خصوصاً في توجهها المذهبي الذي لا يخلو التعصب له من قمع المغايرة.
وقد حدث في تاريحنا الحديث بعض ما يشبه التاريخ الأوروبي لانبثاق مفهوم التسامح والحركات المقترنة به، سواء في الازدواج الذي ينطوي على التداخل الذي يصل بين المرحلة الدينية والمرحلة المدنية للمفهوم، أو التمييز الأخير الذي جعل المفهوم قيمة إنسانية أساسية، لا سبيل إلى تأسيس العالم الحديث وتأصيل وجوده دونها. وإذا كانت المرحلة المدنية تدين للحضور الفكري لأمثال جون ستيوارت مل، وإلى التأصيلات النطرية لأمثال كارل بوبر الذي جعل التسامح علامة المجتمع المفتوح وقانونه المعرفي الأول ، وجعل التعصب أول أعداء المجتمع المفتوح والقانون القمعي للمجتمع المغلق الذي ينبني على الدمج والتشابه، ويرفض الاختلاف والتنوع والتعدد. وإذا كانت الكلمة الإنجليزية Toleration لا تزال تحمل الملامح الدلالية للمرحلة الأولى الدينية للمفهوم، فتميل دلالتها إلى التخصيص الذي يقترن بالسياسات الدينية، وعلاقة الأديان واحدها بالآخر . بل علاقة المذاهب الدينية المتصارعة أو المتباينة داخل الدين الواحد، ومن منظور تباين التأويل النصي، واختلاف التقعيد الفقهي والأصولي، أقول إذا كانت كلمة Toleration تحمل سمات التخصيص المقترنة بالتأصيل الديني الأول للمفهوم، في تعاقب الدلالات المتراكمة حوله والملازمة له، فإن كلمةTolerance تحمل دلالةً العموم المقترنة بالمرحلة المدنية اللاحقة للمفهوم، والتي تضم – إلى جانب الدلالة الدينية- الدلالة السياسية والدلالة الاجتماعية والدلالة الثقافية، وذلك في جماع الدلالات التي تدور في فلك العموم الذي يجعل من كلمة Tolerance دالة على اللين والمرونة والمسامحة والتساهل وتقبّل الآخر، واحترام الاختلاف بوصفه الأصل الطبيعي للعلاقة بين الكائنات والظواهر والمواطنين والمواطنات، فضلاً عن العلاقة بين الحاكم والمحكوم التي ينبغي أن تكون موازيةً للعلاقة بين تيارات الفكر والإبداع ومذاهب المجتمع وفئاته وأحزاب السياسة ومصالحها وإبداعات الفنون وأنواعها وأجناسها داخل تياراتها التي تؤسسها ثقافة الاختلاف وتأصلها .ويبدو أن شيوع دلالة العموم من ناحية، فضلاً عن تزايد الوعي الإنساني بكوارث التعصب التي أدّت إلى حروب طاحنة على المستويات الكونية والقومية والوطنية، جنباً إلى جنب تصاعد أشكال التمييز السياسي والعرقي والاجتماعي، وقد أدى ذلك كلُّه إلى اهتمام اليونسكو بمفهوم التسامح بصفته قيمة إنسانية لا بد من تأكيدها في مواجهة كوارث التعصب العالمية. ولذلك أوصت اليونسكو من طريق خبرائها ومؤتمراتها، وقبلت التوصية الأمم المتحدة التي دعت إلى أن يكون عام 1995 عاماً للتسامح على امتداد الكرة الأرضية ، الأمر الذي كان يعني التزام الدول الأعضاء في هذه المنظمة الدولية بإقامة المؤتمرات وإعداد الكتب والأبحاث عن مفهوم التسامح والترويج له ، وجعله منطلقاً لزمنٍ واعد من العلاقت الإنسانية في جوانبها المتصارعة سياسياً واجماعياً ودينياً وثقافياً، وفي مؤسساتها الإيديولوجية والمعرفية والإعلامية.
وقد ترحَّلَ المفهوم من الدائرة الصغرى لخصوص الدلالة إلى الدائرة الكبرى لاتساعها في ثقافتنا العربية الحديثة، فبدأ في الدوائر الدينية، خصوصاً المسيحية في لبنان، بصفته سبيلاً فكرياً لمواجهة كوارث التعصب الديني ومذابح الفتن الطائفية التي دفعت رواد الاستنارة العربية إلى الثورة عليها، والتمرد على دعاتها في كل مدار مغلق اقترن به التعصب. وقد بدأ تبلور مفهوم التسامح في سياقاته الحديثة بسبب ما كتبه فرح أنطون عن ابن رشد في مجلة " الجامعة " حيث أشار إلى بعض أشكال التعصب الديني التي شهدها التاريخ الإسلامي، مقرونة بالتعصب الفكري الذي أدى إلى إيذاء المفكرين المغايرين في التوجه العقلاني، خصوصاً من المؤمنين بحرية التفكير العقلي في المغايرة الجذرية والاجتهاد المختلف غير المسبوق. وكان واضحاً أن الذي دفع فرح أنطون إلى الإفاضة في الحديث عن أشكال التعصب الإسلامية هو المحنة التي عانى منها ابن رشد، والإيذاء الذي ناله من السلطة السياسية التي تحالف استبدادها مع التعصب الديني لأهل النقل والتقليد الذين طاردوا الفلاسفة والفلسفة ، ولم يترددوا في حرق الكتب المغايرة والمخالفة، وذلك في السياق التاريخي الذي شهد حرق كتب الإمام الغزالي على رغم أشعريته الوسطية.
وقد قام محمد رشيد رضا بتحريض أستاذه الإمام على الرد على أفكار فرح أنطون، والدفاع عن الإسلام بوصفه " دين العلم والمدنية". وأدت ردود الإمام عبده إلى تعقيبات من فرح أنطون، وذلك في واحدة من أهمّ المناظرات الفكرية وأكثرها عمقاً في تاريخنا الحديث. وبالطبع لم يتخلف رشيد رضا عن الإسهام في هذه المناظرة ، ولكن بما يكشف للأسف عن أفق فكري أكثر ضيقاً من أفق أستاذه الإمام الذي أعانه على إنشاء مجلة " المنار" التي ظلت نقيضاً فكريّاً لمجلة "الجامعة". وظل التضاد بين المجلتين تضاداً بين التسامح والتعصب، خصوصاً بعد أن سفرت "المنار" عن وجهها الذي تزايدت محافظته بعد وفاة الإمام محمد عبده وتحوّل المناخات السياسية والفكرية، وهي المناخات التي وقفت فيها "المنار" خصماً لدوداً لأفكار الحداثة والتجديد الذي اقترن بالجامعة المصرية الوليدة. ولذلك لم يكن من المستغرب أن تبدأ "المنار" الحملة على كتاب علي عبد الرازق "الإسلام وأصول الحكم"، وتطالب بعقاب المؤلف على أفكاره، وإسقاط الشهادة الأزهرية عنه، وفصله من منصبه. ولم تكتف " المنار" بذلك ، بل واصلت الحملة نفسها على طه حسين عندما أصدر كتابه "في الشعر الجاهلي" سنة 1926 ، ولم تنفصل هذه الحملة عن دعوة صاحب " المنار " إلى إحياء فكرة الخلافة، والاحتفاء بتحالف الأسرة السعودية مع الحركة الوهابية. وفي الوقت نفسه، كان المصطلح تأكيداً للحضور الواعد للدولة المدنية التي تنبني على عقد اجتماعي ونسق دستوري يجمع ما بين الديانات المختلفة والمعتقدات المتباينة من دون تمييز أو تفرقة، وذلك على أساس من المواطنة التي تعني المساواة بين الجميع في الحقوق والواجبات من دون تمييز على أساس من دين أو مذهب أو طائفة، أو عرف، أو فئة اجتماعية، أو ثروة ، أو قبيلة.. إلخ.
كان فرح أنطون أول من عرف بين رواد الاستنارة اهتماماً بالموضوع، وأكثرهم مقاربةً لمفهوم التسامح، في دائرتي الخصوص والعموم. ولم يكتف هذا الرائد الذي لا يزال مجهولاً في ثقافتنا العربية بالتأسيس النظري لهذا المفهوم، بل حاول إشاعته من خلال رموز الفن الأدبي وتمثيلات القص الروائي. ولذلك كانت روايته " أورشليم الجديدة" أو " فتح العرب لبيت المقدس" تمثيلاً كنائياً لمفهوم التسامح وإعادة قراءة لأحداث التاريخ من خلاله، خصوصاً في المدارات الدينية. لم تفترق رواية " الدين والعلم والمال" عن" أورشليم الجديدة" في التمثيل لأفكار التسامح والبحث عن رموز إبداعية لها . وقد اقترن الدافع المباشر لكتابة هاتين الروايتين، تحديداً ، بسياقات الصراع الفكري الذي شهده مطلع القرن الماضي. وجمعت أطرافه بين فرح أنطون الذي هاجر إلى مدينة الإسكندرية كما فعل أمثاله من مثقفي الشام الذين تركوه فراراً من الاضطهاد الديني، بحثاً عن مناخ أكثر رحابة وتسامحاً، وقد أسس فرح أنطون مجلته " الجامعة " في الإسكندرية ، وجعل منها منبراً للدعوة الجذرية إلى دولة مدنية حديثة، مستقلة عن أية سلطة لاهوتية، ويتمتع فيها الجميع بحقوق المواطنة التي يلزم عنها حق الاختلاف واحترامه على كل المستويات . أما الطرف الثاني للصراع فضم محمد عبده مفتي الديار المصرية في ذلك الوقت، في السنوت السابقة على وفاته سنة 1905م، ومعه تلميذه محمد رشيد رضا الذي هاجر إلى الإسكندرية من مدينة طرابلس التي هاجر منها رصيفه فرح أنطون، واستقر الثاني في الإسكندرية، حيث الأفق المفتوح للتنوع الديني والتعدد الثقافي والتباين العرقي، بينما اتجه الثاني – محمد رشيد رضا – إلى القاهرة، حيث مركز السلطة الدينية، ورمزها الأزهر، والذي كمثَّل أيضاً في شخص المفتي الذي كان نموذجاً معبرّاً للاستنارة الدينية والفكرية، وداعية غير مباشر لأفكاره الإصلاحية.
وقد شهدت السنوات الأولى من القرن العشرين المعركة الأولى حول مفهوم التسامح الذي دافع عنه فرح أنطون الذي اختار كلمة " التساهل " مقابلاً للأصل الإنكليزي الذي قرأ عنه من خلال أهم فلاسفته في مرحلتيه: الدينية والمدنية . ويُعِّرف الرجل المفهوم الجديد بأنه السياسة التي يتجمل بها المرء في التعامل مع ما لا يوافق عليه، ويتقبل حضوره بوصفه- أولاً- حقاً من حقوق الاختلاف ، وبوصفه – ثانياً – ركناً أساسياً من ممارسة الحرية التي ينبني عليها معنى المواطنة في الدولة المدنية الحديثة. ويشير أنطون إلى المعنى الديني للمفهوم ، مؤكداً أنه يشير إلى التساهل الديني الذي يعني أن الإنسان لا ينبغي أن يدين أخاه الإنسان على أساس من المعتقد الديني ، فهذا المعتقد علاقة خاصة بين الخالق والمخلوق. وإذا كان الله يشرق بشمسه على الأشرار والأخيار، المتدينين وغير المتدينين، فيجب على الإنسان أن يتشبه به ، ولا يضيق على غيره لكون اعتقاده مخالفاً لمعتقده ، فليس على الإنسان أن يهتم بدين أخيه أياً كان لأنه يوجد من حيث هو إنسان فحسب، بعيداً عن صفة الدين التي تقع في دائرة اختيار الإنسان الذي ليس من حق أحد الحجر على حريته.
ولا يمكن للتساهل أو التسامح هذا، في نظر أنطوان، أن يوجد بهذا المعنى إلا في دولة تفصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية. وهي دولة تقترن بأربعة مبادئ ملازمة لمفهوم التسامح: أولها أن التسامح لا يوجد، أو يتأسس من حيث هو ممارسة معرفية واجتماعية ودينية حرة ، إلا في الدولة المدنية التي تقوم على احترام الأديان في تنوعها، وعدم التدخل فيها. وثانيها أن السلطة الدينية لا تقدر على التساهل بحكم طبيعتها البشرية التي لا يمكن فصلها عن الأهواء والمصالح، ولأنها تنبني على التعصب، معتقدة اعتقاداً جازماً أنها على الحق وغيرها على الباطل ، الأمر الذي ينتهي إلى التمييز بين المواطنين . ويتصل المبدأ الثالث بالحرية من حيث هو حق طبيعي للإنسان يتجلّى في أن يعتقد أو لا يعتقد ما يشاء، وأن اعتقاده أو عدم اعتقاده الديني لا علاقة له به من حيث هو مواطن. ويقترن المبدأ الرابع بأثر التسامح في تقدم المعرفة ، خصوصاً من حيث هو تقبل الاجتهادات المخالفة، واحترام لكل محاولة للخروج على المتعارف عليه بما يؤسس لقيم الاختلاف والتنوع المعرفي الخلاّق.
وقد ترحَّلَ المفهوم من الدائرة الصغرى لخصوص الدلالة إلى الدائرة الكبرى لاتساعها في ثقافتنا العربية الحديثة، فبدأ في الدوائر الدينية، خصوصاً المسيحية في لبنان، بصفته سبيلاً فكرياً لمواجهة كوارث التعصب الديني ومذابح الفتن الطائفية التي دفعت رواد الاستنارة العربية إلى الثورة عليها، والتمرد على دعاتها في كل مدار مغلق اقترن به التعصب. وقد بدأ تبلور مفهوم التسامح في سياقاته الحديثة بسبب ما كتبه فرح أنطون عن ابن رشد في مجلة " الجامعة " حيث أشار إلى بعض أشكال التعصب الديني التي شهدها التاريخ الإسلامي، مقرونة بالتعصب الفكري الذي أدى إلى إيذاء المفكرين المغايرين في التوجه العقلاني، خصوصاً من المؤمنين بحرية التفكير العقلي في المغايرة الجذرية والاجتهاد المختلف غير المسبوق. وكان واضحاً أن الذي دفع فرح أنطون إلى الإفاضة في الحديث عن أشكال التعصب الإسلامية هو المحنة التي عانى منها ابن رشد، والإيذاء الذي ناله من السلطة السياسية التي تحالف استبدادها مع التعصب الديني لأهل النقل والتقليد الذين طاردوا الفلاسفة والفلسفة ، ولم يترددوا في حرق الكتب المغايرة والمخالفة، وذلك في السياق التاريخي الذي شهد حرق كتب الإمام الغزالي على رغم أشعريته الوسطية.
وقد قام محمد رشيد رضا بتحريض أستاذه الإمام على الرد على أفكار فرح أنطون، والدفاع عن الإسلام بوصفه " دين العلم والمدنية". وأدت ردود الإمام عبده إلى تعقيبات من فرح أنطون، وذلك في واحدة من أهمّ المناظرات الفكرية وأكثرها عمقاً في تاريخنا الحديث. وبالطبع لم يتخلف رشيد رضا عن الإسهام في هذه المناظرة ، ولكن بما يكشف للأسف عن أفق فكري أكثر ضيقاً من أفق أستاذه الإمام الذي أعانه على إنشاء مجلة " المنار" التي ظلت نقيضاً فكريّاً لمجلة "الجامعة". وظل التضاد بين المجلتين تضاداً بين التسامح والتعصب، خصوصاً بعد أن سفرت "المنار" عن وجهها الذي تزايدت محافظته بعد وفاة الإمام محمد عبده وتحوّل المناخات السياسية والفكرية، وهي المناخات التي وقفت فيها "المنار" خصماً لدوداً لأفكار الحداثة والتجديد الذي اقترن بالجامعة المصرية الوليدة. ولذلك لم يكن من المستغرب أن تبدأ "المنار" الحملة على كتاب علي عبد الرازق "الإسلام وأصول الحكم"، وتطالب بعقاب المؤلف على أفكاره، وإسقاط الشهادة الأزهرية عنه، وفصله من منصبه. ولم تكتف " المنار" بذلك ، بل واصلت الحملة نفسها على طه حسين عندما أصدر كتابه "في الشعر الجاهلي" سنة 1926 ، ولم تنفصل هذه الحملة عن دعوة صاحب " المنار " إلى إحياء فكرة الخلافة، والاحتفاء بتحالف الأسرة السعودية مع الحركة الوهابية. وفي الوقت نفسه، كان المصطلح تأكيداً للحضور الواعد للدولة المدنية التي تنبني على عقد اجتماعي ونسق دستوري يجمع ما بين الديانات المختلفة والمعتقدات المتباينة من دون تمييز أو تفرقة، وذلك على أساس من المواطنة التي تعني المساواة بين الجميع في الحقوق والواجبات من دون تمييز على أساس من دين أو مذهب أو طائفة، أو عرف، أو فئة اجتماعية، أو ثروة ، أو قبيلة.. إلخ.
كان فرح أنطون أول من عرف بين رواد الاستنارة اهتماماً بالموضوع، وأكثرهم مقاربةً لمفهوم التسامح، في دائرتي الخصوص والعموم. ولم يكتف هذا الرائد الذي لا يزال مجهولاً في ثقافتنا العربية بالتأسيس النظري لهذا المفهوم، بل حاول إشاعته من خلال رموز الفن الأدبي وتمثيلات القص الروائي. ولذلك كانت روايته " أورشليم الجديدة" أو " فتح العرب لبيت المقدس" تمثيلاً كنائياً لمفهوم التسامح وإعادة قراءة لأحداث التاريخ من خلاله، خصوصاً في المدارات الدينية. لم تفترق رواية " الدين والعلم والمال" عن" أورشليم الجديدة" في التمثيل لأفكار التسامح والبحث عن رموز إبداعية لها . وقد اقترن الدافع المباشر لكتابة هاتين الروايتين، تحديداً ، بسياقات الصراع الفكري الذي شهده مطلع القرن الماضي. وجمعت أطرافه بين فرح أنطون الذي هاجر إلى مدينة الإسكندرية كما فعل أمثاله من مثقفي الشام الذين تركوه فراراً من الاضطهاد الديني، بحثاً عن مناخ أكثر رحابة وتسامحاً، وقد أسس فرح أنطون مجلته " الجامعة " في الإسكندرية ، وجعل منها منبراً للدعوة الجذرية إلى دولة مدنية حديثة، مستقلة عن أية سلطة لاهوتية، ويتمتع فيها الجميع بحقوق المواطنة التي يلزم عنها حق الاختلاف واحترامه على كل المستويات . أما الطرف الثاني للصراع فضم محمد عبده مفتي الديار المصرية في ذلك الوقت، في السنوت السابقة على وفاته سنة 1905م، ومعه تلميذه محمد رشيد رضا الذي هاجر إلى الإسكندرية من مدينة طرابلس التي هاجر منها رصيفه فرح أنطون، واستقر الثاني في الإسكندرية، حيث الأفق المفتوح للتنوع الديني والتعدد الثقافي والتباين العرقي، بينما اتجه الثاني – محمد رشيد رضا – إلى القاهرة، حيث مركز السلطة الدينية، ورمزها الأزهر، والذي كمثَّل أيضاً في شخص المفتي الذي كان نموذجاً معبرّاً للاستنارة الدينية والفكرية، وداعية غير مباشر لأفكاره الإصلاحية.
وقد شهدت السنوات الأولى من القرن العشرين المعركة الأولى حول مفهوم التسامح الذي دافع عنه فرح أنطون الذي اختار كلمة " التساهل " مقابلاً للأصل الإنكليزي الذي قرأ عنه من خلال أهم فلاسفته في مرحلتيه: الدينية والمدنية . ويُعِّرف الرجل المفهوم الجديد بأنه السياسة التي يتجمل بها المرء في التعامل مع ما لا يوافق عليه، ويتقبل حضوره بوصفه- أولاً- حقاً من حقوق الاختلاف ، وبوصفه – ثانياً – ركناً أساسياً من ممارسة الحرية التي ينبني عليها معنى المواطنة في الدولة المدنية الحديثة. ويشير أنطون إلى المعنى الديني للمفهوم ، مؤكداً أنه يشير إلى التساهل الديني الذي يعني أن الإنسان لا ينبغي أن يدين أخاه الإنسان على أساس من المعتقد الديني ، فهذا المعتقد علاقة خاصة بين الخالق والمخلوق. وإذا كان الله يشرق بشمسه على الأشرار والأخيار، المتدينين وغير المتدينين، فيجب على الإنسان أن يتشبه به ، ولا يضيق على غيره لكون اعتقاده مخالفاً لمعتقده ، فليس على الإنسان أن يهتم بدين أخيه أياً كان لأنه يوجد من حيث هو إنسان فحسب، بعيداً عن صفة الدين التي تقع في دائرة اختيار الإنسان الذي ليس من حق أحد الحجر على حريته.
ولا يمكن للتساهل أو التسامح هذا، في نظر أنطوان، أن يوجد بهذا المعنى إلا في دولة تفصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية. وهي دولة تقترن بأربعة مبادئ ملازمة لمفهوم التسامح: أولها أن التسامح لا يوجد، أو يتأسس من حيث هو ممارسة معرفية واجتماعية ودينية حرة ، إلا في الدولة المدنية التي تقوم على احترام الأديان في تنوعها، وعدم التدخل فيها. وثانيها أن السلطة الدينية لا تقدر على التساهل بحكم طبيعتها البشرية التي لا يمكن فصلها عن الأهواء والمصالح، ولأنها تنبني على التعصب، معتقدة اعتقاداً جازماً أنها على الحق وغيرها على الباطل ، الأمر الذي ينتهي إلى التمييز بين المواطنين . ويتصل المبدأ الثالث بالحرية من حيث هو حق طبيعي للإنسان يتجلّى في أن يعتقد أو لا يعتقد ما يشاء، وأن اعتقاده أو عدم اعتقاده الديني لا علاقة له به من حيث هو مواطن. ويقترن المبدأ الرابع بأثر التسامح في تقدم المعرفة ، خصوصاً من حيث هو تقبل الاجتهادات المخالفة، واحترام لكل محاولة للخروج على المتعارف عليه بما يؤسس لقيم الاختلاف والتنوع المعرفي الخلاّق.