كتاب من تأليف المفكر المغربي سعيد بنسعيد العلوي، صدر عن المركز الثقافي العربي ببيروت في العام 1987، يضم في طياته سلسلة من المقالات المتفرقة التي تشكل في مجموعها الإطار العام للبحث المتمثل في الوقوف على كيفية تعاطي الفكر العربي المعاصر مع أسئلة النهضة والحداثة.
أولا: السلفية الإصلاحية وامتداداتها في المغرب
استهل المؤلف قراءته لأهم تيارات الفكر العربي المعاصر بالتيار الإصلاحي السلفي الذي ظهر في المشرق إبان ما عُرف بعصر اليقظة العربية، ومن بين طروحاته الأساسية تشديده على أن سبب التأخر والانحطاط ليس هو الإسلام كعقيدة، بل يعزى أساسا إلى انزياح المسلمين عن تعاليم دينهم. كما يصدر الموقف السلفي من إشكالية سياسية ترد الواقع المتردي إلى استبداد وجور الحكام، قبل أن تتحول (في لحظة تالية) إلى إشكالية دينية من خلال المناداة بإعمال العقل والاجتهاد عبر ترك البدع المثبطة للتقدم.
ويشير الكاتب إلى أن المغرب لم يكن في منأى عن هذا الطرح الفكري، بحيث تَبَلور وعي سلفي ظهرت إرهاصاته الأولية في مطالع القرن العشرين مهدت له الظروف العصيبة التي كان يعيشها المغرب في السنوات السابقة للاستعمار (تهديد خارجي، فتن وثورات داخلية... إلخ)، قبل أن يبلغ لحظة النضج الفكري مع الحركة الوطنية ومُنَظرها الفكري علال الفاسي. وفي هذا الباب، يعرض الباحث لنموذج "مثقف مخزني" برز أثناء فترة الحماية ألا وهو محمد بن الحسن الحجوي (1874 – 1956)، ليخلص إلى أن موقف التيار السلفي من دعوة التحديث والاجتهاد كان ذا نطاق ضيق في مجمله، بحيث طال البنى المادية للمجتمع (التجارة والصناعة... إلخ) دون أن يمتد ليشمل الحداثة الفكرية بمفهومها الواسع.
ثانيا: الدعوة إلى تحديث العقل العربي كشرط للتقدم
يتبنى هذا الطرح الفكري قناعة مفادها أن ثمة أولوية للعامل الفكري والأيديولوجي كمدخل للتقدم والنهوض، فالثورات التي عرفتها الأمم المتمدنة وإن كانت في سطحها ذات طابع مادي (سياسي، اقتصادي... إلخ) فإن وراءها تحول طرأ في الذهنية العامة وطرق التفكير.
1- نموذج عبد الله العروي:
إن المقصود بالتأخر عند العروي ليس التأخر المادي بل الفكري الذي يعبر عنه تخلف الذهنيات وأنماط التفكير وجمودها، ويعد طغيان الفكر اللاتاريخي من أبرز وجوهه. وترتيبا على ذلك، فإن الحل يكمن في تحديث العقل العربي والتشبع بالفكر التاريخي والنقدي، وذلك عبر الانتقال من الذهنية الاستهلاكية إلى الذهنية الإنتاجية، من التفكير الخرافي إلى التفكير العلمي والعقلاني.
ومن ناحية المقاربة المنهجية المتبعة يدعو صاحب "الأيديولوجيا العربية المعاصرة" إلى تبني الماركسية النقدية، فماركس حسب تأويله وإنْ عارض البرجوازية كطبقة اقتصادية مستغلة، إلا أنه لم يكن ضد الثقافة البرجوازية ومكتسبات الحداثة الفكرية والقيمية، على خلاف المثقف العربي الذي يضمر العداء لليبرالية. وبناء على ذلك، فإن الوصفة المثلى للفكاك من وضعية التأخر التاريخي هي استيعاب وتبني التراث الفكري الليبرالي الغربي.
وفي الختام، يسجل الكاتب جملة من الملاحظات على قراءة العروي للواقع العربي المعاصر، لعل أوضحها اختيار العروي مسلك القراءة الأيديولوجية للواقع العربي، والتي تجنح إلى التفكير من داخل إطار مرجعي نظري محدد (التراث الفكري الغربي)، فهي بحكم طبيعتها – لا تخلو من نزعة وثوقية في تصورها للحقيقة، وهو ما يتناقض مع دعوة العروي نفسه إلى تبني المنهجية العلمية الحديثة من حيث هي نقيض للوثوقية الأيديولوجية.
2- نموذج محمد عابد الجابري:
يُعتبر محمد عابد الجابري (1935 – 2010) بدوره من دعاة تحديث العقل العربي كمفتاح للتقدم، لكنه يضيف إلى الإشكالية المطروحة بعدا ثالثا سكت عنه العروي وهو التراث العربي الإسلامي: فالنهضة لا يمكن تحقيقها دون تنظيم العلاقة مع التراث ونقلها من مستوى اللاوعي إلى الوعي. وفي هذا المضمار، يرى المفكر المغربي أن العقل العربي ما زال مشدودا إلى آليات التفكير التقليدية التي تبحث لكل فرع عن أصل سابق له، وبالتالي فهو عقل فقهي لا علمي غير قادر على التفكير من خارج مرجعية النص المقيدة ومبدأ القياس، وهو الحكم الذي ينسحب أيضا على المثقف "الحداثي" لا السلفي وحده.
وتأسيسا على ما تقدم، يميز الجابري داخل التراث العربي الإسلامي بين المعقول (المعقول الديني ويعني به المعاني السامية التي ينطوي عليها الكتاب والسنة كالتوحيد، التراث العلمي والفلسفي الذي وفد إلى الثقافة العربية من اليونان) واللامعقول في التراث (المذاهب الهرمسية والغنوصية المستندة إلى السحر والكهانة) وما مارسته من تأثير خاصة في الفكر الشيعي، وحتى في أوساط بعض الفلاسفة المسلمين وأهل السنة. إن هذا التمييز الذي وضعه الجابري هو السبيل – في تقديره - لاستيعاب التراث وتجاوزه عبر توظيف الجوانب العقلانية فيه في خدمة المشروع النهضوي.
وفيما يخص تقييم الباحث للنتاج الفكري لصاحب مشروع "نقد العقل العربي"، فإن الأخير لم يسلم بدوره (على غرار العروي) من التصادم بين الدافع الأيديولوجي والبعد العلمي المعرفي، ومن بين تمظهراته التناقض بين المثقف الأيديولوجي المشدود إلى الانتماء القومي – العربي من جهة، والفيلسوف الشمولي – الكوني من جهة ثانية.