لا أحد يستطيعُ أن ينكر ما تميز به تاريخُ المسلمين من عنفٍ منذُ النشأة الأولى إلى اليوم، والغريبُ أن هذا العنف دار بين المسلمين أكثر مما دار بينهم وبين غيرهم، تشهدُ على ذلك كتب التاريخ والسير والأعلام، والتي نجد فيها الكثير من الأحداثِ التي أرخت للبدايات التأسيسية للإسلام، والمقصودُ هنا الإسلام التاريخي أو الإسلام كما تشكل في التاريخ، هذا التمييز نراهُ مهما حتى لا نخلط بين الإسلام كدين والإسلام كتاريخ، غرضنا في هذا القول الحديث عن دور العنف في تشكل الإسلام التاريخي.
أولُ ما يلاحظهُ الباحث في الإسلام التاريخي أنه تأسس منذ نشأته الأولى على العنف، فخلال الخمسين سنة الأولى من وفاة النبي إلى السنوات الأولى من تأسيس الدولة الأموية، كان العنف الخاصية الأساسية التي نشأ عليها الإسلام وتطور، بدأ ذلك في أول تجربة ديمقراطية أفشلها الصحابة المهاجرون ضد الصحابة من الأنصار، عندما فرض عمر بن الخطاب على الجميع أبا بكر الصديق كخليفة، وحصر السلطة في النسب القرشي وهو نسب جعلته سلطة الفقهاء شرطا أساسيا في اختيار خليفة المسلمين، واستطاعوا أن يضعوا له حديثا مشهور وهو حديث "الأئمة من قريش" الذي ورد بصيغ مختلفة في الصحيحين منها: "إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا أكبه الله في النار على وجهه ما أقاموا الدين" و "لا يزال الإسلام عزيزا بخلفاءٍ كلهم من قريش" و " الناس تبعٌ لقريش في هذا الشأن، مسلمهم لمسلمهم وكافرهم لكافرهم".
قلتُ إن هذه التجربة الديمقراطية الفاشلة بسبب سيطرة المهاجرين ورفضهم لمقترح التداول على السلطة، والذي اقترحه بعض كبار الصحابة من الأنصار من خلال مقترحهم منا أميرٌ ومنكم أميرٌ، هذه التجربة التي عرفة في التاريخ باجتماع سقيفة بني ساعدة تمثل بداية التحول في من الإسلام كدين تشكل عن طريق الوحي مع التجربة المحمدية بين مكة والمدينة، إلى الإسلام التاريخي الذي دشن لتجربة جديدة من خلال الصراع حول السلطة ومشروعية الحكم، إن الخلاف الذي جرى بين الصحابة في سقيفة بني ساعد لم يكن صدفة أو حدثا ثانويا، بل كان أمرا مقصودا أملاهُ وعي بعض الصحابة بضرورة القطع مع تجربة الإسلام كرسالة ووحي المرتبطة بشخصية النبي، وهو ما حسمهُ أبو بكر الصديق حين قال: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت". والغريبُ أن المؤسسين الأوائل لتجربة الإسلام التاريخي من عمر وعثمان وعلي قتلوا جميعا ويقال أن أبابكر توفي مسموما، وعثمان قتل بفعل أول ثورة شعبية في الإسلام كانت ضد نظامه السياسي الذي لم يكن الكثير من المسلمين راضين عنه وقد تزعم أول معارضةٍ سياسيةٍ في الإسلام الصحابي أبو ذرالغفاري، كما أن علي بن أبي طالب بعد تقلده للسلطة وخلافة عثمان، لم يتمكن من الاستقرار بحكمه الذي عرف حروبا كثيرة دارة بين المسلمين.
لذلك فإن تجربة الإسلام التاريخي التي تأسست على العنف، ستجعل من الخطاب الديني من المذاهب الفقهية والكلامية وما سيسمى بالشريعة خطابا عنيفا في لغته وتصوراته، وهو ما نجده واضحا في انفصال المذاهب الكلامية والفقهية حسب السياقات السياسية التي أنتجتها، فبعد كل حربٍ أو مواجهة سياسيةٍ بين المسلمين تظهر بموازاتها تأويلاتٌ وتجارب دينية جديدة، ويصبح السياسي متلبسا بالديني والديني مدافعا عن السياسي، وخُذ مثلا على ذلك الانقسام الذي وقع في حروب الصحابة بين مؤيد لعثمان وبين مناصر الإمام علي وانقسام الأمة لمناصري الإمام علي الذين يلقبون بشيعته إلى اليوم، وانصار عثمان ومعاوية من بعده، والذين أطلقوا على أنفسهم أهل السنة والجماعة، وتشكل فقهٌ خاصٌ بالشيعةِ وآخر خاص بالسنة، وكذلك الحديث والتفسير...، وظهرت الخوارج التي دخلت في صراع وحروب ضد الفريقين، كل هذا يدل على أن نظام العنف كان المحرك الأساسي لتشكل المذاهب والفرق الدينية الإسلامية.
خلاصـــــات تركيبية:
-الإسلام كرسالة انتهى بوفاة النبي، وهو يختلف عن الإسلام التاريخي الذي تشكل على الصراع حول مشكلة الإمامة أو الخلافة .
-مقترح الأنصار في تداول السلطة كان سيجنب تاريخ الإسلام الكثير من العنف، وكان سيؤسس لنوع من الديمقراطية.
-المذاهب الفقهية والكلامية وكتب الحديث والتفسير تعكس الانقسامات السياسية، مما جعلها تعكس بنية العنف في خطابها ضد المختلف والمخالف.