تمهيد:
تندرج هذه الدراسة في إطار التأريخ لأدبية مدغرة الشعرية، لاسيما شعر المديح النبوي المدغري، كجزء لا ينفصل عن الأدب المغربي الأصيل في أبعاده الأدبية والروحية والصوفية، فقد أسهم شعراء مدغرة على مدى قرون في الدينامية الفكرية لمجتمع الواحة، مستلهمين من محبة النبي «صلى الله عليه وسلم» المتجذرة في نفوسهم، أفكارهم الدينية، وهي الأفكار التي ترجموها إلى أشعار مدحية، تخاطب روحَ وعقلَ ووجدانَ وفؤادَ الإنسان المدغري المُحِب في الجناب النبوي الشريف، فالتدين من السمات الأساسية التي تطبع شخصية المجتمع الواحي المدغري، لذلك أبدع هؤلاء الشعراء في نظم قصائد مدحية نبوية شريفة إبداعا يليق بمكانة النبي «صلى الله عليه وسلم»، موظفين أغراضا شعرية ترسم فيها قصائد المديح النبوي المدغري عبر أبياتها تجليات العشق المحمدي كما عاشه هؤلاء الشعراء، فالتغريدة النبوية المدغرية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالدين وبالمقدس في أغلب أشعارها، سواء في الشعر الفصيح أو الملحون، بهذا المعنى تسموا المدحة النبوية المدغرية بلغتها الشعرية المدحية فصيحا وملحونا فوق الزمان والمكان إلى عوالم روحانية مشرقة، لتضيء ظلام النفوس الحائرة، والأرواح المنكسرة والقلوب المكلومة، إنها تستمد من الوحي الإلهي القرآني والسنة النبوية الشريفة، وكذا من شعر المديح النبوي السني الصافي الخالص روحانيات نورانية مضيئة، تفيض منه محبة النبي «صلى الله عليه وسلم»، لتروي ظمأ الأرواح العطشى وتشفي مايعتري صدور الخلائق من غم وهم وأحزان، تطهيرا للروح والبدن من الأدران الدنيوية التي تحجب نور الهدي المحمدي.
1- الإرهاصات الأولى لشعر المديح النبوي:
شكلت البعثة المحمدية الشريفة، حدثا مفصليا في تاريخ البشرية جمعاء، ومن تلك اللحظة التاريخية الفارقة، لحظة انبجاس نور الوحي الإلهي في صحراء شبه الجزيرة العربية، تغيرت العديد من المظاهر الفكرية والإجتماعية والإقتصادية والسياسية، وكذا العادات التي كانت سائدة قبل مجيء الإسلام فيما يصطلح عليه بالعصر الجاهلي، حيث شمل هذا التغيير ألوانا أدبية عديدة، أبرزها الشعر الجاهلي الذي عرف تغييرات على مستوى التيمات الشعرية، بحيث انتقل من معالجة تيمات تقتصر على بيئة شبه الجزيرة العربية المحلية، إلى توظيف موضوعات مستجدة تجاوزت المواضيع التقليدية المتعلقة بالمفاخر والهجاء القبلي و شعر الخمرة والغزل والرثاء، وكل ما له علاقة بالبيئة العربية المحلية، حيث ظهر شعر المديح النبوي كموضوع مستجد بأعراض شعرية مختلفة، ولو في شكل إرهاصات أولية، فقد ألهم حدث البعثة النبوية الشريفة العديد من الشعراء في ربوع العالم الإسلامي، لنظم وسبك الأشعار والأزجال في الجناب النبوي الشريف، بهذا المعنى فالمديح النبوي أو النبويات حسب الباحث عبد العزيز فيلالي هو:{كل أدب يتعلق بشخصية الرسول «صلى الله عليه وسلم»، وقد تتسع دائرة هذا الأدب لتشمل الرسالة والخطبة والتوسلات وحتى المؤلفات الضخمة}[1] وكذلك احتل موضوع الدفاع عن العقيدة الإسلامية ونصرتها مكانة هامة ترسيخا لمبادئها في نفوس الأتباع من الأنصار والمهاجرين، وظهر أصحاب المذاهب الفكرية والعقدية الإسلامية الجديدة، ينافحون عنها بنظم الأشعار توطيدا لأركانها وصوغا لبعض افكارها في قالب شعري، كشعر الخوارج وشعر الشيعة وشعر أهل السنة إلى غير ذلك من التلوينات الشعرية التي وظفت لخدمة القضايا المستجدة، ولو في شكل نواة أولية. وقد برزت الإرهاصات الأولى للشعر الديني وفي طليعته شعر المديح النبوي مع: {شعراء النبي «صلى الله عليه وسلم» الذين ينتصرون له، ويجيبون المشركين عنه، كحسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن زهير رضي الله عنهم، فقد قال فيهم عليه السلام، هؤلاء النفر أشد على قريش من نضح النبل، وقال لحسان بن ثابت اهجوهم فو الله لهجاؤك أشد عليهم من وقع السهام في غيش الظلام أهجهم ومع جبريل روح القدس }[2]، لقد وظف شعراء الدعوة المحمدية أشعارا تمتدح سيد الخلق محمد "صلى الله عليه وسلم" تارة، وتارة أخرى نظموا أشعارا تمتدح جماعة المسلمين،أو تهجوا خصوم الدعوة المحمدية، وسيعرف المديح النبوي الشريف أوج إزدهاره وإشعاعه في عصر البوصيري، إلى حدود العصر الحديث مع أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وغيرهم من الشعراء الذين أسهموا في تطوير وتجديد شعر المديح النبوي عبر العصور، يقول الدكتور عبد الله بنصر العلوي متناولا فن المديح النبوي: {وليس المديح - من جهة ثانية - شأن البوصيري وحده في عصره، فالوقوف على أشعار ابن دقيق العيد والحسن بن صافي والصرصري والوتري وأبي حسن الجزار وشهاب الدين الحلبي وابن نباتة وغيرهم مايجعلنا نلاحظ ان بعض قصائد هؤلاء الشعراء في المديح قد تبلغ درجة عالية، ربما فاقت البوصيري، ولعل مالقيه البوصيري من شهرة أتاحت لمدائحه النبوية شيوعا لدى البيئات الصوفية، مرجعه إلى ما نسج حول البردة - خاصة - من حكايات تناقلها الناس على مر السنين}[3] وأضيف قائلا، أن هذا لايعني التقليل من أهمية شعر البوصيري ومدحه، فقد اعتبرت قصائده عبر السنين، المرجع الذي ألهم، والمثال الذي فجر قريحة وموهبة العديد من الشعراء الذين جعلوه النموذج والقدوة، ونسجوا على منواله، خاصة شعر المولديات الذي أجاد فيه وأبدع بامتياز، فمنذ بزوغ الإرهاصات الأولى للمديح النبوي، والمدحة النبوية تعرف تطورا مستمرا عبر العصور أسهمت في تراكم تراث شعري مدحي مهم للغاية، خاصة مع فقهاء المدارس الصوفية وغيرها من المدارس، كالبوصيري وابن دقيق العيد وابن الفارض والقاضي عياض والشقراطيسي ومالك بن المرحل ولسان الدين بن الخطيب وغيرهم، مستلهمين من سيرة الرسول «صلى الله عليه وسلم” العطرة ومن معجزاته الخارقة وصفاته الحميدة كل معاني العز والرفعة والبهاء، وذلك بنظم سيرته الطاهرة نظما تفيض منه محبة النبي «صلى الله عليه وسلم»، اعترافا بمقامه الرفيع وفضله الكبير على البشرية جمعاء، وقد سميت هذه الأشعار النبوية مدحا وليس رثاء رغم وفاة النبي «صلى الله عليه وسلم» بمئات السنين، لكون صورة النبي «صلى الله عليه وسلم» كانت دائما حاضرة في قلوب المسلمين وأرواحهم وجوارحهم.
2- إسهام حاضرة مدغرة في المدحة النبوية المغربية:
لقد أكدت حاضرة مدغرة من إقليم سجلماسة العامر كذلك حضورها في هذا الزخم الشعري وهذه الدينامية الصوفية المدحية في الرسول الأكرم «صلى الله عليه وسلم»، حينما تجند العديد من الشعراء المدغريين لنظم الأشعار وسبك القصائد في مدح الرسول الأكرم «صلى الله عليه وسلم»، تعبيرا عن المحبة التي يكنها المجتمع المدغري للرسول الكريم، والمكانة التي يحضى بها في قلوب المجتمع الواحي المدغري، لأجل ذلك تجند هؤلاء الشعراء المدغريين لترجمة هذه المحبة المباركة بنظم وقرض الشعر الفصيح و الملحون في مختلف قصور هذه الحاضرة وعلى رأسها قصور القصبة الجديدة وايت مسعود وسيدي أبو عبد الله...، فقد عبر قاطنوا الديار المدغرية عن محبة النبي «صلى الله عليه وسلم»، ليس فقط بقرظ الشعر ونظمه، بل كذلك تم العبير عن هذه المحبة بزيارة الديار المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة، عبر تنظيم رحلات طويلة لمواكب الحجاج استغرق بعضها بضع سنوات ذهابا وإيابا، مستعملين وسائل نقل بدائية كالدواب؛ من خيل وبغال وحمير لزيارة الأماكن المقدسة، وهي رحلات يمكن أن يتعرض معها ركب الحجاج إلى اخطار شتى، لكن محبة النبي «صلى الله عليه وسلم» الساكنة في قلوب المدغريين كانت أقوى بكثير من كل الأخطار الداهمة، لقد عني الإنسان المدغري في وقت مبكر بهذه المحبة وترجمها إلى قصائد وأشعار وأزجال وموشحات، ناسجين على منوال القصائد المدحية النبوية المعروفة ما أمكنهم ذلك، بالسير على نهجها واقتفاء أثرها، بل وتجاوزها أحيانا أخرى إلى أشكال أكثر إبداعا وأكثر جمالا، في قوالب نظمية شعرية خاصة، تعكس قدرة الإنسان الواحي عامة والشاعر المدغري خاصة على الإبداع والتحليق عاليا في عوالم روحانية إبداعية نظمية، فحاضرة مدغرة -البلدة الطيبة- من إقليم سجلماسة ليست بالتي تُشَدُّ عن ركب المدحة النبوية المغربية، بل انخرطت في وقت مبكر في الحركية الشعرية للمديح النبوي مع مولاي عبد الله بن علي بن طاهر المدغري الحسني السجلماسي دفين مدغرة المتوفى عام 1632م، وربما قبله بسنوات، إذ من الصعب تحديد فترة دقيقة لبدايات شعر المديح النبوي المدغري، فما يطفوا فجأة على السطح بدون مقدمات، لبد وقد سبقه تراكم شعري سابق عليه، يمهد له الطريق للإستمرار والإشعاع والإنتشار، وهذه مهمة الباحثين في البحث والتنقيب والتمحيص. يقول الباحث عبد العزيز فيلالي: {يعسر تتبع واستقصاء المدائح النبوية على العموم، وبالمغرب على الخصوص، وقد تعددت أجناس القصائد المدحية النبوية، فهناك الحجازيات والبديعيات والمولديات والمعشرات وقصائد النعال النبوية والتخميسات والتشطيرات وغير ذلك من الأجناس، إلا أنها تلتقي في غرض مشترك هو مدح الرسول «صلى الله عليه وسلم»}[4]، ويؤكد كذلك الدكتور عباس الجراري الحقيقة التي مفادها، أن المديح النبوي المغربي بدأ مبكرا منذ السعديين والمرنيين، يقول في كلمة ألقاها بأكاديمية المملكة المغربية: {ولكن الحقيقة أنه اذا تذكرنا الشقراطيسي وابن ابي الخصال قبل البوصيري بقرنين، يتبين ان المغاربة كان لهم هذا التوجه في إبراز فن يختص بمدح رسول الله «صلى الله عليه وسلم»، إن المغاربة وقد كانت لهم التوجهات الطليعية بالنسبة لمحبة الرسول «صلى الله عليه وسلم» والتعبير عن هذه المحبة، سوف يعطون لهذا الاحتفال ولما يواكبه من إبداع أدبي إطارا متميزا وذلك في عصر الدولة السعدية ولسيما في عهد المنصور الذهبي}[5]، لقد غلب الطابع الديني الصوفي على أشعار المدغريين، فالتدين سمة مميزة لشخصية الشاعر المدغري، إذ ترتبط الأشعار المدحية لديه بالقيم الدينية والأخلاقية للمجتمع الذي يعيش فيه، والتي تخترق نظمه وشعره اختراقا يجسد من خلالها الشاعر قيم المحبة والإخاء والسلم والتعاون التي تسود المجتمع المدغري الذي ينتمي إليه، وهذا ماتجسده بعض القصائد المدغرية، التي يمتدح فيها الشاعر المدغري شاعرا أخر، استذكارا لفضله وعرفانا بما قدمه من إنجازات علمية وتربوية و تعبيرا كذلك عن المحبة والأخوة التي تجمع بين بعض الشعراء، حتى ولو لم يتزامن تواجدهم في عصر واحد، كحال أبي عبد الله محمد الهاشمي العلوي المدغري (مولاي هاشم بلغالي) مع محمد العربي الدرقاوي بن محمد الهاشمي مثلا، الذي مدحه ببعض الأبيات الشعرية اعترافا بفضله ومقامه،إذ يقول في مدحه.
إذا طرقت مسامعنا ابتهجنا // وفزنا في سرور واغتباط.
وخلنـــــا ان تليهــــــــــا علينـــــــا//ينادينا إلى نادي النشاط.
ويقول كذلك في مدح شيخه عبد الحي الكتاني تعبيرا عن فرحه وسروره بلقائه بعد مدة طويلة.
ياصاح قم واغنم فذا بدر الدجى //لقد اعتلى وتجلت الأقمار.
والليل نادى بالوصال فحيهـــــــل // وعلى النجوم تبدت الأستار.
وهناك نماذج أخرى لايسمح المجال لسردها، إذ تحضر القيم الدينية في الشعر المدغري على مستوى المضامين والتيمات، لقد جسدت أشعار هؤلاء الشعراء المدغريين قيما حقيقية تظهر بعمق تغلغل الثقافة الدينية والعقيدة الإسلامية وقيمها السمحة في المجتمع المدغري.
3- قصيدة سبائك الذهب كنز مغمور وإرث مجهول:
قصيدة سبائك الذهب لسيدي محمد العربي بن محمد بن قاسم[6] المعروف اختصارا بسيدنا العربي مداح النبي، قصيدة مدحية مغمورة لم يقف عندها الدارسون والباحثون إلا مانذر، لكونها كانت ولازالت حبيسة التدوال المحلي في قصر القصبة الجديدة بحاضرة مدغرة، تنشد جنبا إلى جنب مع قصائد الإمام البوصيري رضي الله عنه بحلول ذكرى المولد النبوي الشريف في الأيام الأنثى عشرة الأولى من شهر ربيع الأول بقصر القصبة الجديدة، وهي قصيدة مدحية رائعة تتألف من 151 بيتا شعريا في مدح المصطفى «صلى الله عليه وسلم» وال بيته الطيبين الطاهرين وصحبه الكرام،
وقد عثرت على نسختين منها في خزانة المرحوم والدي الفقيه الطالب عيسى المدغري[7] كتبهما بخط يده رحمه الله، اعتمادا على نسخة قديمة وحيدة كانت بحوزته، ربما انتهت إليه بالتواتر فقيها عن فقيه، إلى أن وصلته رحمه الله، وماساعده على إعادة كتابتها وتدقيقها هو ذاكرته القوية، إذ كان رحمه الله يحفظها عن ظهر قلب، وهذا مامكنه من إعادة كتابتها وتنقيحها بخط يده في نسختين و أكثر، ولولا هذا العمل الجبار الذي قام به هذا الفقيه الجليل، لكانت هذه القصيدة المدحية المباركة في تعداد القصائد المدحية الضائعة، والمخطوطتان الحاليتان في ملكية أسرة الفقيه بن خالي الطالب عيسى لا يعرف لهما نظير إلى حدود كتابة هذه الأسطر، حيث قمت بالإطلاع عليهما ومقارنتهما لأجل تدقيق وتحقيق النسختين، فتبين لي أنهما متطابقتان شكلا ومضمونا رغم إختلاف الكناشة التي استعملت لكتابتهما، فلاشك أننا محظوظين بالعثور على هذا الكنز الشعري الفريد، ومحظوظين كذلك أن أنجبت حاضرة مدغرة شاعرا كبيرا بحجم سيدي محمد العربي بن محمد بن قاسم القصبي الجديدي، والذي بنظري لايقل رحمة الله عليه قيمة عن نظرائه الشعراء الكبار من طينة البوصيري وغيره من الشعراء، ورغم قلة ما وصلنا من نتاجه الشعري، فقد خلف رحمه الله قصائد أخرى رائعة في مدح الرسول «صلى الله عليه وسلم»، تعد من بين أجمل قصائد المديح النبوي في منطقة مدغرة، فقصائد هذا الشاعر الكبير فخر لأهل مدغرة خاصة ولأهل المغرب الأقصى والعالم الإسلامي بصفة عامة، إن البحث في تاريخ وثقافة حاضرة مدغرة الشاعرة وتراثها الحضاري المادي واللامادي من أدب وشعر ونثر وفقه وتصوف وأعلام وعمران وعمارة، يعتبر بحق موضوعا من الغنى والثراء بما كان، فقد خلف المدغريون على مدى قرون مضت إرثا ثقافيا هاما، يتجلى في كتابة المخطوطات والكناشات والمصنفات والكراسات، بفضل عناية الله أولا، وتفطن بعض رجالات مدغرة ثانيا، من خلال اعتمادهم على الذاكرة والحفظ، وكذا التدوين على الألواح والمخطوطات، حيث مكننا ذلك العمل العظيم لرجالات مدغرة من إنقاد العديد من الكنوز الشعرية والفقهية المغمورة من الضياع، وعلى رأسها قصيدة سبائك الذهب، وسيكون الكتاب الحالي {المنتقى المعين من شعراء المغرب فى القرنين التاسع عشر والعشرين في آثار الدارسين} أول كتاب مغربي منشور وفق الأعراف الأكاديمية المتعارف عليها يحتضن قصيدة سبائك الذهب بين دفتيه، وقد سبق ونشرها أحد الباحثين المدغريين المعاصرين في كتاب مدغري محلي تتوفر بعض الأسر القصبية على نسخ منه، حيث قدم لهذه القصيدة بعض الشروحات و الإضاحات القيمة، راجع في هذا الصدد كتاب (شرفاء قصر القصبة الجديدة وساكنتها المحبوبة المحبة 2019) للأستاذ الفاضل مولاي إدريس أبوالحامد. إن إخراج هذا الكنز المطمور والشعر المغمور من حيز التدوال المحلي الضيق بحاضرة مدغرة، إلى رحابة النشر والتدوال وطنيا وعربيا لهو الخطوة الأولى التي نقوم بها في هذه المقالة.
4- قصيدة سبائك الذهب إغناء للمدحة النبوية المغربية:
قصيدة سبائك الذهب لناظمها العالم العلامة سيدي محمد العربي بن محمد بن قاسم قصيدة فريدة في مدح المصطفى «صلى الله عليه وسلم»، وقد جاءت في151 بيتا شعريا مدحيا كما ذكرت سابقا، اعتمدت هذه القصيدة المدحية الميمية نظام الشطرين العمودي، ووحدة القافية، كسائر قصائد الشعر التقليدي القديم لسيما المتعلق بالمديح النبوي، إذ تتشابه قصائد المديح النبوي التقليدية من حيث الإيقاع والأغراض الشعرية والألفاظ والأوزان المستخدمة وكذا التيمات، ونستطيع أن نجازف بالقول أن قصيدة سبائك الذهب اقتفت أثر بعض القصائد المشهورة في المديح النبوي، من ناحية البناء الشكلي للقصيدة، و كذلك من ناحية الموضوعات التي عالجتها، دون إعادة تكرار نفس الصيغ والعبارات، بل نجد الناظم رحمه الله يجدد ويبدع ويعارض ويتجاوز قصائد مدحية سابقة من مناحي متعددة، بحيث يظهر إفراطا شديدا في محبة النبي «صلى الله عليه وسلم»، وذكر فضائله وخصاله وشمائله صلوات الله عليه وسلم، وتعلقه بمحبته والسير على نهجه، وقد ذكر الشاعر في قصيدة سبائك الذهب كذلك بعض الصيغ الشعرية متوسلا بالدعاء والإستغفار والإبتهال وأحيانا محاسبة النفس على تقصيرها وطلب العفو والمغفرة، مستوحيا من هدي القرآن الكريم والسنة النبوية وكتب السير والمغازي ما يعزز به أغراضه المدحية، فقصيدة سبائك الذهب بهذا المعنى، تحفة ناذرة وكنز مدحي في الرسول «صلى الله عليه وسلم»، جاد بها الله على أهل مدغرة، فهي إرث شعري في تجليات العشق المحمدي، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن شعر المديح النبوي كان منتشرا في أماكن عدة من العالم الإسلامي خاصة في بلاد الغرب الإسلامي، بما في ذلك مدغرة الحاضرة العلمية السجلماسية من بلاد المغرب الأقصى، مما يثبت بقوة الإسهام القوي لهذه الحاضرة العلمية في الحركة الشعرية للمديح النبوي بالمغرب الأقصى، تغنيا ومدحا بفضله وحسنه وجماله وأخلاقه وبهائه وكل ما يعلي من رفعته وشأنه «صلى الله عليه وسلم». يقول الباحث عبد العزيز فيلالي في هذا الصدد {وهذا ماجعل شعراء المغرب الأقصى من الشعراء الذين أخذوا بحب رسول الله «صلى الله عليه وسلم» وتعلقوا بأهداب عشقه، وتفانوا في التغني بشمائله وصفاته، ورددوا على مسامع الناس مواقف من سيرته العطرة، ووجوها من أخلاقه السنية، ودبجوا ما اعترى أفئدتهم من أحاسيس صادقة، ونظموا ما اختلج بدواخلهم من عواطف جياشة رائقة[8]، لقد أسهم المغاربة عبر قرون في إغناء المدحة النبوية المغربية بقصائد في غاية الروعة لحبهم لرسول الله «صلى الله عليه وسلم» وتعلقهم بسيرته العطرة، فهو السراج المنير والصادق الأمين المبعوث رحمة للعالمين، ومن ثم ندرك الغرض من تدفق أشعار المديح النبوي عبر القرون بذكر مناقب النبي «صلى الله عليه وسلم» وخصاله الحميدة، وتعداد مكارمه وأفضاله على البشرية جمعاء، التي أخرجها بهدي القرآن الكريم من الظلمات إلى النور، فنظمت الأشعار مدحا وتوقا وحنينا وشوقا إلى رؤيته صلوات الله عليه وسلم، وها نحن في هذه المقالة نعاود مطارحة موضوع المدحة النبوية، وما ذلك إلا حبا في نبينا ورسولنا صلوات الله عليه وسلم، إذ المحب للرسول «صلى الله عليه وسلم» لايمل ولايكل من مدارسة سيرته و مدراسة الأشعار التي نظمت في مدح ذاته المحمدية، يقول الدكتور عبد بن نصر العلوي متحدثا عن أهمية دراسة المديح النبوي: {أن مدارسة المدحة النبوية يجدد البحث العلمي، اذ أن موضوع المديح النبوي ليس موضوعا تاريخيا، وإنما هو موضوع كما عايشه الأجداد والآباء نعايشه نحن اليوم، ليس على صعيد الواقع الاحتفالي فحسب، ولكن على صعيد الفكر وعلى صعيد الإبداع، ذلك أن موضوع المديح النبوي موضوع خصب في التراث المغربي وفي تاريخ الحركات الأدبية في العالم العربي والإسلامي، كتب حوله الكثير، لكن مع ذلك مازلنا نحن في حاجة إلى دراسات جديدة، تعمق الفكر والإبداع.وتعمق النظرة إلى هذا التراث الأدبي وتحيينه في وقتنا هذا}[9].
5- شهادات شفوية معاصرة حول قصيدة سبائك الذهب:
لهذه القصيدة المباركة قصة طريفة سأحيكها هنا كما سمعتها من مصادرها، وهو الشيء الذي يستدعي فخرنا واعتزازنا بهذا الكنز الشعري الفريد، فحسب بعض الروايات الشفهية الموثوقة تم العثور على نسختها الوحيدة لحد علمنا ولحد كتابة هذه السطور، عند والدنا الفقيه المرحوم الطالب عيسى المدغري الذي أنقدها من الضياع كما سبق وذكرت، وذلك بإعادة كتابتها، في نسختين أو أكثر بفضل حفظه لأبياتها، قصد توزيعها على المنشدين من سكان قصر القصبة الجديدة، وما يشهد لصحة هذا القول الذي ذكرت، شهادات متعددة من بعض أصدقائه، من بينها شهادة شفوية موثوقة أخبرني بها الأستاذ الجليل مولاي إدريس أبو الحامد صاحب كتاب {شرفاء قصر القصبة الجديدة وساكنتها المحبوبة المحبة}، أكد لي أن الفقيه الطالب عيسى، هو من انتهت إليه هذه القصيدة فاعتنى بها وأعاد كتابتها لحفظها من الضياع، وكذلك شهادة أخرى لصديقه الفقيه سيدي محمد بلمهدي بابوي أكد لي بدوره أن هذه القصيدة كانت بحوزة الفقيه الطالب عيسى الذي نسخ منها نسخا بخط يده لتوزيعها على المنشدين من أبناء القصر المذكور، وأستحضر كذلك شهادة أخرى للأستاذ عمر ابن زايد أخبرني فيها أنه لولا إعادة كتابة قصيدة سبائك الذهب من طرف المرحوم الطالب عيسى لكانت هذه القصيدة في تعداد القصائد المفقودة التي لايعرف لها أثر، هذه شهادات من بين العديد من الشهادات تبرز الدور الكبير الذي قام به الفقيه الطالب عيسى رحمه لحفظ هذا الكنز الشعري من الضياع، لتبقى لنا وللأجيال القادمة كنزا وإرثا شعريا مدغريا نعتز ونفتخر به خاصة نحن أبناء قصر القصبة الجديدة بحاضرة مدغرة، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل بشكل قاطع على تفطن وفطنة هذا الفقيه، الذي انقد بفضل الله أولا هذا الكنز الأدبي الشعري من الضياع، وبفضل ذاكرته القوية ثانيا، وأستحضر هنا شهادة قيمة في حق الفقيه الطالب عيسى المدغري للباحث في التاريخ المحلي المدغري الأستاذ الجليل سيدي محمد حمداوي يؤكد فيها على الدور العلمي المهم الذي لعبه المرحوم الفقيه الطالب عيسى بحاضرة مدغرة
في القرن العشرين إذ يقول: (رحم الله فقيهنا الجليل الطالب عيسى المدغري، الذي كان نموذجا منفردا بمدغرة حيث دون ما يمكن تدوينه من علوم في هذا الشأن، وعلم العديد من الطلبة بصيغ حقيقية، فسيرة هذا الرجل لن تنحصر في سطور معدودة، وتحتاج النبش والبحث، زيادة على المادة العلمية المتواجدة عند ابنه وطلبته، لكونه كان أستاذا بالمدرسة القرآنية العتيقة لإبن طاهر بالزاوية البكرية بمدغرة، وكان له عدد من التلاميذ أخدوا عنه زيادة على حفظ كتاب الله الفقه وقواعد اللغة العربية... وعلى هذا الأساس ففقيهنا وأستاذنا ما حصل عليه من ثقافة عربية وفقهية وحفظ للقرآن ليس من السهل أن نختزله ونختزل حياته في سطور، فله شيوخ وتردد على أماكن الحفظ والتدريس لكسب المعرفة وله مسار مهني طويل)، وفي نفس السياق، يضيف الباحث سيدي محمد حمداوي شهادة أخرى يشيد فيها بدور الفقيه الطالب عيسى في حفظ التراث العلمي المدغري يقول فيها: (لو خط فقهاؤنا بمدغرة مثل ما خطه هذا المرجع الفقهي، لكان عندنا بمدغرة خزانات تحتوي على عدد من العلوم... فكل ما أردنا أن نقول في حق فقيهنا من ثناء فهو قليل...) انتهت شهادة الأستاذ سيدي محمد حمداوي. ومايؤكد لي بالملموس، أهمية قصيدة سبائك الذهب المدغرية القصبية من الناحية العلمية والتراثية، وأنها أحق بالعناية والدراسة والتحليل والتعريف والنشر، وأنها بحق كنز أدبي وتحفة شعرية ناذرة، وبعد استقصاء وبحث معمقين من طرفي، وسؤالي لبعض الدكاترة الباحثين والدارسين المختصين في التاريخ والتراث من أبناء المنطقة عن هذه القصيدة المدحية المباركة، لأجل التأكد من وجود نسخ أخرى، ربما أكون قد اغفلتها لمقارنتها مع النسختين الوحيدتين التي بحوزتي، للخروج بخلاصات في الموضوع، فقد أكد لي هؤلاء الباحثين جميعا، أنه لم يسبق لهم أن اطلعوا عليها أو حتى سمعوا بها، وأنها بحسب علمهم لم تذكر، ولم تتم الإشارة إليها لا من قريب ولا من بعيد، في بعض المخطوطات المحلية المعروفة التي تناولت قصائد الناظم سيدي محمد العربي بن محمد بن قاسم، كمخطوط (فتح القدوس القاهر ) لعلي بن المصطفى، أو مخطوط (مطالع الزهراء في ذرية بني الزهراء ) لمحمد الزاكي بن هاشم، أو في كتاب (الدرر البهية والجواهر النبوية ) لإدريس بن أحمد الفضيلي، وهي نفسها المخطوطات والمراجع التي أرخت وسجلت بعض القصائد الأخرى لنفس الشاعر، من هنا يتبين إذن بما لا يدع مجالا للشك، أننا أمام كنز سبائكي ذهبي، وإرث أدبي مدغري ثمين و ناذر، تم انتشاله من الضياع وحفظه، مثل ما ضاعت العديد من مخطوطات هذا العالم والشاعر الفذ في الفيضانات التي ضربت منطقة مدغرة في تلك الفترة من القرن الماضي، او ما عبث به العابثون بضريحه حينما تم تضيع العديد من المخطوطات التي خلفها رضي الله عنه، هذه القصيدة التي نتمنى صادقين أن يولها الدارسون في المستقبل عناية واهتمام كبيرين، لأنها لا تقل أهمية عن كبريات القصائد الإنشادية المدحية في العالم الإسلامي، وللشاعر مداح الرسول الأكرم سيدي محمد العربي بن محمد بن قاسم قصائد مدحية اخرى، وإن كانت ليست بحجم وطول قصيدة سبائك الذهب، فهي قصائد مهمة ومعتبرة من الناحية اللغوية والشعرية و الفنية لدى الدارسين والعارفين بفن الشعر والنظم، وقد ورد ذكر بعض أشعاره الأخرى في بعض المخطوطات كما أشرت إلى ذلك سابقا، واخص بالذكر قصيدة في مدح فاطمة الزهراء البتول من 14 بيتا شعريا يقول في مطلعها (لبنت المصطفى جاه عظيم☆ وعز لاتحيط به العقول) وقصيدة أخرى كذلك في 32 بيتا شعريا في نفس الغرض مطلعها (هنيئا لنا بالمصطفى وببنته ☆ فيا له من جد ويالها من أم)
أورد القصيدتين العلامة إدريس بن احمد الفضيلي في كتابه الدرر البهية والجواهر النبوية.
6- موهبة سيدي محمد العربي في نظم الشعر وقرظه:
سيدي محمد العربي بن محمد بن قاسم بن الحفيد من النخب الفكرية والعلمية لمنطقة مدغرة في القرن 19، فقد خلف رحمه الله العديد من القصائد في مدح الرسول الكريم وال بيته الطيبين الطاهرين، ورغم توفر بعض الشهادات في حق هذا الشاعر الكبير، مستقاة من بعض المصادر التاريخية، فإن المعلومات عنه رغم ذلك تبقى ضئيلة إلى حد ما، لاتشفي صدر الباحث الذي يتطلع إلى المزيد ولايكتفي بالمتداول والسائد، فلا يقدِّر موسوعية هذا العالم العلامة فريد زمانه وعصره إلا الباحثين والشعراء والأدباء ذوي الذوق الرفيع، ومع ذلك فقد ترك بعض المؤرخين شهادات تؤرخ لهذا الشاعر الحصيف، وإن كانت لماما، فهي غنية لأنها صادرة عن علماء كبار، شهدوا له بالمكانة والمنزلة الخاصة، وبالقدرة على قرظ الشعر ونظمه كشهادة محمد الزاكي بن هاشم الذي قال عنه في مطالع الزهراء: {كان عالما عاملا مشاركا، شاعرا له قصائد في مدح المصطفى «صلى الله عليه وسلم»، زاهدا في الدنيا مشتغلا بالتدريس}[10] وقال عنه كذلك إدريس بن أحمد الفضيلي في الدرر البهية والجواهر النبوية: {كان بحرا في العلوم، مشاركا مشتغلا بالتدريس، وكان مستغرقا في محبة النبي «صلى الله عليه وسلم»، مقصودا للزيارة، تفد عليه الوفود، وتهاديه الكبراء[11]، إنها شهادات تظهر المكانة الرفيعة التي كان يحضى بها هذا الشاعر الكبير ولازال، ففي قصيدة سبائك
الذهب موضوع المقال الآني يستعرض إمكاناته الشعرية الهائلة في قرظ الشعر ونظمه، بالإضافة إلى النفس الطويل الذي يمتلكه في نظم أشعاره، باستعمال لغة فصحى تجمع بين البساطة والتعقيد، وهي قدرات نظمية لا تقل شأنا عن نظرائه من كبار شعراء المديح في العالم الإسلامي الذين سبقوه إلى هذا الفن، ويبدوا من قصيدته التي بين أيدينا أنه تفوق على العديد منهم رغم بعد المسافة الزمنية التي تفصل بينه وبينهم، ورغم أنه ينسج على منوال من سبقوه من فطاحل الشعراء، إلا أنه لايسلك أثرهم إلى الدرجة التي لاتميز شعره عن غيره من الأشعار، بل يظهر الشاعر سيدي محمد العربي تفردا وتميزا خاصا، وامتلاك لقدرات نظمية فريدة ميزت شعره عن العديد من الأشعار قديما وحديثا، رغم إشتراكهم في غرض واحد هو المديح النبوي، وهذا ما مكنه من رسم معالم شعرية خاصة به، بوأته مكانة مرموقة في عالم قرظ الشعر، وسيدي محمد العربي أعطى للشعر المغربي والمدحة النبوية المغربية المكانة التي تستحقها إذ لم يترك سيدي محمد العربي وبعض الشعراء المغاربة الأخرين المجال فارغا للحاقدين و المنتقصين والشاكين في قدرة المغاربة على نظم الأشعار وسبك القصائد الطويلة في المديح النبوي وغيره من الأغراض الشعرية الأخرى. من هنا تتضح لنا قوة الموهبة الشعرية الهائلة التي يمتلكها هذا الشاعر الكبير رحمه الله،والذي ساهم بشكل واضح في الرقي بالشعر المغربي والمدحة النبوية وإعطائهما المكانة التي يستحقانهما.
كما نلاحظ أن الناظم سيدي محمد العربي يظهر حبا مدحيا نبويا نورانيا خالصا مستعملا مفردات مدحية عشقية ولغة شعرية صوفية راقية، لم يحتج الشاعر خلطها بمفردات العشق الخمري الرمزي كما يفعل شعراء آخرون حينما يريدون التعبير عن محبتهم الإلهية في صور خمرية مجازية، يوظفون خلالها قاموس ممزوج بمفردات شعرية لغوية تمتح من شعر الخمرة والسكر الرمزيين العرفانيين كما عند الصوفية مع ابن الفارض وابن عربي وغيرهم، فسيدي محمد العربي لم يظهر في العديد من أشعاره وخاصة في قصيدة سبائك الذهب تأثرا بهؤلاء الشعراء الخمريين الذين استعملوا المجاز الخمري في أشعارهم، ومرجع ذلك في نظري أن سمو مكانة النبي «صلى الله عليه وسلم» في نفس الشاعر ومحبته المتغلغلة في أعماق نفسه، ربما منعته من استعمال مفردات هؤلاء الشعراء، ترفعا عن ذلك لسمو مقام النبي «صلى الله عليه وسلم»، ولسمو مقام الشاعر كعالم وفقيه، فمدحه مدح نوراني خالص ولذلك لم يواكب لغة الخمر والسكر الرمزيتين كما يفعل آخرون، وربما لأن الشاعر سيدي محمد العربي لم يتأثر بشعر الخمريات عند شعراء الصوفية، بل هو متأثر بالشعر الصوفي السني الطاهر لإيصال محبته بلغة شعرية عفيفة.ولم يؤثر فيه ماذهب إليه شعراء مغاربة أخرون كأحمد بن عجيبة وغيره الذين تأثروا بتيار النزعة الخمرية الرمزية التي عند إبن الفارض مثلا. رغم انهم توسلوا بمفرداتها فقط للتعبير عن مايختلج صدورهم من حب إلهي وعشق عجزت اللغة والألفاظ عن إيصال معانيه العشقية إلا بلغة الخمريات.
وكلامي هذا لايعني أني اقلل من شأن أولئك الشعراء الذين وظفوا المجاز الخمري في أشعارهم، بل يعني أن هؤلاء القامات الشعرية أرادوا إيصال محبتهم الإلهية بطرق أخرى مجازية ورمزية وهم أحرار في مذاهبهم و اختيارهم، لأن لكل شاعر مذهبه الخاص يرسم لنفسه السبيل الذي يسير عليه، مادام التنافس في العشق الإلهي والعشق المحمدي هو الهدف المنشود. ويبدو أن سيدي محمد العربي من خلال قصيدته سبائك الذهب الطويلة التي استعرض فيها قدراته على قرض شعر المديح النبوي، ربما يتجاهل السياق المحلي المدغري الذي عاش فيه، وكذلك يتجاهل أحداث القرن 19 الذي عاش فيه، إذ لانجد إشارات تدل على الأحداث المحلية والوطنية في شعره رغم طول قصيدته، ومرجع ذلك في اعتقادي المتواضع مرده إلى تعلق قلب الشاعر بحب النبي «صلى الله عليه وسلم» دون غيره، وزهده في الدنيا، وترفعه عن الزمان والمكان إلى الإبحار في عوالم روحانية متعالية خاصة به، فهو يسترسل فقط في مدح الرسول الأكرم «صلى الله عليه وسلم» وصحابته الكرام، رابطا قلبه وعقله ببلاد طيبة، مكة المكرمة، وبساكنيها من الصلحاء والشرفاء والأولياء، فقلبه لامكن فيه لذكر أحداث محلية، بل كل ما يشغله، هو السفر بقلبه وعقله ووجدانه إلى تلك الديار المقدسة، عبر رحلته المدحية النظمية الطويلة، الخالصة لله تعالى، والتي لايبتغي من وراءها إلا الأجر والثواب من عند الله سبحانه وتعالى، فشعره طاهر خال من الرياء والنفاق، لايبتغي به كسبا ماديا ولامتاعا زائلا، مثل ما هو معروف عند شعراء آخرين، ويؤكد أحد الباحثين المعاصرين الحقيقة التي تظهر الفرق بين المديح النبوي الخالص الذي يبتغي فيه الشاعر وجه الله تعالى والمديح التكسبي الذي يطلب فيه الشاعر عرضا من الدنيا، اذ يقول: {ومن المعهود ان هذا المدح النبوي الخالص لايشبه ذلك المدح الذي كان يسمى بالمدح التكسبي او مدح التملق الموجه إلى السلاطين والأمراء والوزراء، وإنما هذا المدح خاص بأفضل خلق الله ألا وهو محمد «صلى الله عليه وسلم»، ويتسم بالصدق والمحبة والوفاء والإخلاص والتضحية والإنغماس في التجربة العرفانية والعشق الروحاني اللدني}[12]، فالقصيدة المدحية عند سيدي محمد العربي تجعل ناظمها ومنشدها وسامعها وناسخها ينغمسون جميعا في بحر الإرتواء والإغتراف والإرتشاف من محبة النبي الكريم «صلى الله عليه وسلم» للإستزادة من حبه صلوات الله عليه وسلم دون طمع في كسب دنيوي زائل أومتاع فانٍ. ويقول أحد الباحثين المعاصرين متحدثا عن القيمة الكبرى للأشعار الخالدة التي خلفها فطاحل الشعراء: {ولئن جهد الشاعر العربي نفسه لإبداع مثل تلك السمفونيات الشعرية الخالدة، التي مازالت تقاوم الدهر، وتتجدد وتنبعث متلألئة متوهجة مع كل دراسة متخصصة استهدفتها من الباحثين منذ قديم الزمان إلى الآن، فإن ذلك ما كان إلا لخدمة الدلالات والمعاني التي يروم إبلاغها للمتلقي}[13]، ويقول في مقطع اخر: {وما كان للشاعر العربي أن يمنح شعره تلك الطاقة الموسيقية الهائلة التي وهبته اللحن والإتزان الصوتي إلا من خلال ما أجراه فيه من تخير لذيذ الوزن، وضبط نظام القافية واهتمام بموسيقية اللفظ وعناية بقيمة الحركات، والسكانات في حروف الكلم لتحقيق التناسق الإيقاعي العام[14]، لقد تمثل سيدي محمد العربي كل المقومات الشعرية والإبداعية من خلال شعره، وخاصة مقومات شعر المديح النبوي، موظفا الدلالات البلاغية واللفظية والإيقاعية وكذا الأشكال والأغراض والتيمات التي مكنته من سبك أعذب قصيدة مدحية.
-7خلاصات:
ختاما لابد من التذكير مرة أخرى بالدور العلمي الذي لعبته حاضرة مدغرة في التاريخ، لسيما مشاركة هذه الحاضرة وغيرها من الحواضر الإسلامية في المدحة النبوية، فمدغرة حاضرة علمية تاريخية، أسهمت بقسط وافر في الدينامية الفكرية لمجتمع الواحة بصفة خاصة ومجتمع المغرب الأقصى بصفة عامة على جميع الأصعدة سياسيا وفكريا وأدبيا واجتماعيا واقتصاديا وحضاريا، حيث أسهمت بأدوار طلائعية في الإشعاع العلمي لبلاد المغرب الأقصى، يقول الباحث سعيد واحيحي في هذا الصدد: {وهذا ما شهدت به الروايات التاريخية والإنتاجات العلمية والأدبية التي تجعلنا نقول دون أن نغالي، إن الثقافة التي كانت تحتضنها المنطقة المدغرية السجلماسية هي ثقافة دينية، عبرت عنها الإنتاجات العلمية والوثائق المخطوطة التي مازالت تحتفظ بها بعض الأسر المدغرية أو الخزانات المغربية العتيقة}[15] وما قصيدة سبائك الذهب المدحية إلا نموذجا مدغريا فريدا، يبرز بعمق تجليات الثقافة الدينية المدغرية الأصيلة في مجال المديح النبوي، إسهاما في الحركية العلمية والدينامية الفكرية للمنطقة، ومن هذا المنبر الفكري نشد بحرارة على يد كل من ساهم في إبراز كنوز التراث الفكري والديني لحاضرة مدغرة، في مجالات الشعر والنثر والفقه والتفسير والتصوف، و كذلك في مجال الإشادة بالأعلام من شعراء وعلماء وفقهاء تكريسا لثقافة الإعتراف التي نفتقدها، ورغم أن إسهامات الباحثين لسيما من أبناء المنطقة في الإهتمام بالحركة العلمية لحاضرة مدغرة، تبقى إسهامات محتشمة نوعا ما، إلا أنها تحضى بقيمة فكرية كبرى إذ احتضنها {المنتقى المعين من شعراء المغرب فى القرنين التاسع عشر والعشرين} وكذا {المنتقى المعين من شعراء المغرب في آثار الدارسين} بين دفتيهما لفضيلة الدكتور العلامة عبد الله بنصر العلوي، صاحب الغيرة الكبيرة على التراث المغربي الأصيل، والذي نتمى له مزيدا من التوفيق والسداد والإشعاع لمزيد إغناء التراث المغربي الأصيل والذي لن أنسى فضله أبدا علي.إذ شجعني على كتابة هذه المقالة ومنحني هذه الفرصة الكريمة. ومدني بمراجع وظفتها في إخراج هذه المقالة فله شكري وإمتناني الخالص.
أضع بين أيدي القراء قصيدة {سبائك الذهب} لسيدي محمد العربي بن محمد بن قاسم،
وبعدها قصيدتين أخريين لنفس الشاعر.
☆سبائك الذهب في مدح المصطفى☆
صلى وسلم رب العرش خَالِقُنَا |
على الذي انكشفت من نوره الظُلَمُ |
وآله وصحابته وَأُمَّتِهِ |
ما قرئت صحف وكتب القَلَمُ |
يا أمة المصطفى البشير بشرى لَنَا |
بنعمة عجزت عن نيلها الأُمَمُ |
حق الفخار لنا بخير من فَخُرَتْ |
به السماوات والأرضون وَالعَلَمُ |
بشرى لنا برسول الله بشرى لَنَا |
عمت علينا به من ربنا نِعَمُ |
لقد رُفِعنا به في الدنيا مَنْزِلَةً |
وفي القيامة نعم الذخر والقِدَمُ |
هو الشفيع الذي عمت شَفَاعَتُهُ |
بوجهه سائر الأكوان قد رُحِمُوا |
من مثلنا ورسول الله قِسْمَتُنَا |
لقد ظفرنا به والفضل يَنْقَسِمُ |
إن الكريم بخير الخلق أَكْرَمَنَا |
هو الكريم ومنه قد بدا الكَرَمُ |
صرنا به كبراء صرنا به عُظَمَا |
قد عظمت وسمت لنا به الهِمَمُ |
في كل هول يقول أمتي أُمَّتِي |
هو المغيث إذا الأهوال تَزْدَحِمُ |
يوم القيامة والأهوال زَائِدَةٌ |
تحت لواه جميع الرسل تَنْتَظِمُ |
من فضله كل فضل ناله الفُضَلَا |
من أجله صار هذا الكون يُحْتْرَمُ |
مَنَّ وجاد علينا ذو العطاء بِهِ |
يخص من يشاء بالفضل هو الحَكَمُ |
إليه نفزع في الهول العظيم إِذَا |
لم يبق بين الورى خل وَلَا رَحِمُ |
وفر كل حبيب من أَحِبَّتِهِ |
وصار في الناس موج الهول يَلْتَطِمُ |
فلا شفاعة أولى من شَفَاعَتِهِ |
يوم القيامة والجبار يَنْتَقِمُ |
ولاعناية أقوى من عِنَايَتِهِ |
يوم تكون العدا في النار تَقْتَحِمُ |
ولا كرامة أعلى من كَرَامَتِهِ |
في جنة الخلد والرضوان مُنْحَتِمُ |
فلا تقس بالرسول في العلى بَشَراً |
فإنه في علاه مفرد عَلَمُ |
نبينا حصننا من كل حَادِثَةٍ |
بالله ثم به ننجو وَنَعْتَصِمُ |
نبينا عزنا نبينا فَخْرُنَا |
سلطان أهل الرسالة وَقُطْبُهُمُ |
هو السراج الذي اهتدى به كل مَنْ |
هو بنور الهدى والحق مُعْتَصِمُ |
ليس لنا سند إلا مُحَمَّدُنَا |
هو الملاذ إذا زلت بنا القَدَمُ |
وهو سرور قلوبنا وَأَرْوَاحُنَا |
ونور أبصارنا وظلنا القَائمُ |
تزين الكون منه وهو بَهْجَتُهُ |
كما به جنة الفردوس تَبْتَسِمُ |
فلا نور يعدل نورا حل في طَيْبَةٍ |
ثم استنارت به الأطلال وَالخِيَمُ |
لذتنا ذكره جنتنا وَجْهُهُ |
راحتنا مدحه يشفى به الأَلَمُ |
لما سما قدره انشق له قَمَرٌ |
من السما وصار والليل مُنْبَهِمُ |
هو الذي رحبت به النبيئون إِذْ |
دعاه ذو العرش والأملاك تَلْتَزِمُ |
فنال قربا من الرحمان ليس لَهُ |
نهاية والقياس فيه مُنْعَدِمُ |
كيف يفي مدحنا فيه وذو العرش قَدْ |
مدحه وجرى بمدحه القَلَمُ |
فكل معجزة للرسل قد ثَبَتَتْ |
كان له مثلها وذاك مُلْتَزَمُ |
كالبحر والنار لكن ذا لِأَصْحَابِهِ |
إذ هم هداة وليس الحق يَنْكَتِمُ |
أمته الشهداء وهو مُعَدِّ لَهُمْ |
يوم الجزاء فلا أمة مِثْلُهُمُ |
إذا جاء الناس للحشر بِأَجْمَعِهِمْ |
يا فخرنا برسول الله بَيْنَهُمُ |
سدنا عليهم بخير الأنبياء كَمَا |
قد ساد متبعنا الارسال كُلُّهُمُ |
وكل علم وحلم فيه قد جُمِعَا |
من فيض أمداده تفجرت حِكَمُ |
هو المغيث لخلق الله إن فَزِعُوا |
واعتذر الكُبَرَ من رسله لَهُمُ |
كل يقول اذهبوا إلى من سواي إِلَى |
أن تنتهي لإمامهم وَخَيْرُهُمُ |
فيرغب الله جل فيقول لَهُ |
اشفع تشفع وقل يسمع لك اَلْكَلَمُ |
ويحمد الله جل بمحامد لَمْ |
يسبق إليها كما في اللوح مُرْتَسَمُ |
هناك يرضيه ذو العرش في أُمَّتِهِ |
وينجز الوعد من صفاته لَهُمُ |
فأي مرتبة وأي مَنْزِلَةٍ |
كهذه فاعتبر أيها اَلْفَاهِمُ |
فلم ينلها نبي ولا مَلَكٌ |
إلا الحبيب الذي اعتز بِهِ آدَمُ |
وأخذ الله عهد الأنبياء لَهُ |
وقبلوا أمره وحكمه الْتَزَمُوا |
وشهدوا بعد أمر الله سُبْحَانَهُ |
لهم بأن يشهدوا والله فَوْقَهُمُ |
فيالها بيعة منهم لِسِيِّدِنَا |
وكلهم رؤسَا وهو رَئِيسُهُمُ |
لما بدا وجهه الوهاج وَانْتَشَرَتْ |
أنواره هزمت بضوئه الظُّلَمُ |
وزال كل ضلال وانتفى وَلَقَدْ |
خرت على وجهها الأوثان وَالصَّنَمُ |
قد أيد الله بسيفين لَنْ |
يعطهما أحد وباسمه الْقَسَمُ |
فسيف حجته للبلغاء قَاطِعٌ |
وسيف إرهابه لمن طغا قَصِمُ |
قد ساد أهل السماء والأرض كُلُّهُمُ |
وخضعت لعلاه العرب وَالْعَجَمُ |
فلو رأيت محمدا بِمَحْشَرِنَا |
عليه تاج البهاء تسعى له اَلْأُمَمُ |
وهم به لئذون قائلون لَهُ |
بالله فاشفع لنا خفت بنا الْحُرُمُ |
ولو رأيت لواء الحمد يَحْمِلُهُ |
زوج البتول وأهل الحشر يَخْتَصِمُ |
من بعد أن يكتسى من الرضا حُلَلَا |
ويعطى قول جبريل وَيَنْفَحِمُ |
مقداره بالحساب ألف عام كَمَا |
في عرضه نصفها فهذه الْهِمَمُ |
فلو رأيت محمدا وَقُبَّتَهُ |
مضروبة عن يمين العرش تُسْتَلَمُ |
فلو رأيت محمدا وَرِفْعَتَهُ |
على الخلائق عربهم وَعُجْمُهُمُ |
فلو رأيت محمدا وَأُمَّتَهُ |
في غاية القرب والأقوام دُونَهُمُ |
فلو رأيت محمدا وَمَنْزِلِهُ |
في حضرة القدس فوق الخلق كُلُّهُمُ |
فلو رأيت محمدا وقد وَقَفَتْ |
صفوف أهل السماء والأرض وَانْتَظَمُوا |
وهم على حذر من سطوة اللهِ لَا |
يدرون ما الله جل صانعٌ بِهِمُ |
هناك يظهر سؤدد الحبيب وَمَا |
أعطي من شرف ويظهر الْكَرَمُ |
ويعلم الخلق كلهم بأن لَنَا |
ركنا قويا متينا ليس يَنْهَدِمُ |
من أجل ذا غبطتنا الأنبياء بِهِ |
وقال موسى مقالا ليس يَنْفَهِمُ |
في سورة البكر قد بانت كَرَامَتُنَا |
وآل عمران فاتل أيها الْفَاهِمُ |
فمن ذا يشبهنا ونحن أُمَّتُهُ |
والله فضلنا والكون مُنْعَدِمُ |
ونحن أسعد الحشر كُلِّهُمُ |
بالمصطفى ولنا في جمعهم سِيَّمُ |
حق السرور لنا على الدوام بِهِ |
يا فوز من هو بالمختار مُنْتَظِمُ |
ونحن شيعته وأهل مِلَّتِهِ |
منتسبون له باآلله نَتَّسِمُ |
حزنا به كل فضل واكتسبنا بِهِ |
عزا كبيرا ومنه الفضل يُغْتَنمُ |
له كتاب في أمره عَجَبٌّ |
السر والنور والأحكام وَالْحِكَمُ |
وحي من الله للانذار أَنْزَلَهُ |
بنور آياته قد انجلت غُمَمُ |
ما مثله قط في الارشاد مَوْعِظَةٌ |
يشفي القلوب ولا يبقى بها سَقَمُ |
قد أعجز الفصحا فضلُّوا وَانْقَطَعُوا |
وأذعنوا كلهم وخاب ما زَعَمُ |
وخضعت رؤساء البُلَغَاءِ لَهُ |
وعجزوا كلهم وضل ما فَهِمُ |
حجته ظهرت في كل عصر وَفِي |
كل مكان وليس الحق يَنْفَصِمُ |
هو الصراط الذي ليس لَهُ عِوَجٌ |
من حاد عن نهجه حلت به النِّقَمُ |
بسيف حجته رأس الضلالة قَدْ |
قطع وانهزمت من فجره الظُّلَمُ |
إن العلوم لمن بحوره اِنْفَجَرَتْ |
بل هو معدنها وأصلها الفَخِمُ |
حبل متين من الرحمان تَنْزِيلُهُ |
يفوز قوم به استمسكوا وَاعْتَصَمُوا |
ليس كإعجازه للخلق مُعْجِزَةٌ |
فانظر وحقق وَسَلْ قوما به عَلِمُ |
له معان بنور الله مُشْرِقَةٌ |
في فهمها حارت الأقوام وَالْأُمَمُ |
للفظه هيبة من أجله اِنْفَطَرَتْ |
قلوب أهل الشقاء فليس تَلْتَئمُ |
نور عظيم على آياته سَاطِعٌ |
وكل حرف لديه السر مُكْتَتَمُ |
حق وبالحق ناطق إلى الحَقِّ |
قد أرشدنا وبقول الحق يُرْتَسَمُ |
منبئٌ بغيوبٍ لا نفاذ لَهَا |
مضت وتَاتِي وحكم الله مُنْبرِمُ |
ليس يزيد على كثرة تِرْدَادِهِ |
إلا الحلاوة قط ما له سأَمُ |
متى تلوت وجدت آخِراً غير مَا |
وجدته أولا والسر مُزْدَحِمُ |
جاء به الصادق الأمين جبريل مِنْ |
عند اإلله فنعم القول وَالكَلمُ |
لم يبد أهل الشَّقَا قولا ولا مَثلًا |
إلا ولاح ضياء الحق فَوْقَهُمُ |
فنكسوا الرأس صاغرين وَانْقَلَبوا |
بِذِلَّةٍ وهوان ضل سَعْيُهُمُ |
في كل حين إلى خير الورى مَدَدٌ |
من ربه واصل مجدد دَائِمُ |
ما بين موعظة وبين تَسْلِيةٍ |
وغير ذلك مما لم يصله فَمُ |
اختاره ربنا واختار أَصْحَابَهُ |
واختار أوطانه فهوَ لنا حُرُمُ |
له أصحاب كنجوم السما بَلْ همُ |
أبهى وأعلى لأن الله أَرْضَاهُمُ |
فلا تسل عن مديح في الكتاب لَهُمْ |
وفي الحديث عن المختار مَدْحُهُمُ |
هم السيوف التي لله قد نُسِبَتْ |
قد باعوا أنفسهم لله رَبِّهِمُ |
وأنفقوا في سبيل الله أَمْوَالَهُمْ |
ونصروا الدين لا نصر كَنْصْرِهِمُ |
فوارس المصطفى وحزبه اَلْكُرَمَا |
وأهل نصرته فالفوزُ فَوْزُهُمُ |
وَقَوْا بأبدانهم وجه نَبِيَّهُمُ |
ولم يبالوا بها لِله ذَرُّهُمُ |
وهاجروا الأهل والأوطان والمال فِي |
حب الرسول فما أجمل فَعْلَهُمُ |
وقاتلوا في رضا الرحمان أَبْنَاءَهُمْ |
كذا الآباء فما أقوى يَقِينَهُمُ |
نهارهم صائم وليلهم قَائِمُ |
وعزهم دائمٌ فالربحُ رِبْحُهُمُ |
سيوفهم في النحور وَعُلُومُهُمْ |
مثلُ البحورِ فما أعجب أَمْرَهُمُ |
أكرم بهم من سلاطين لهم شَرَفٌ |
على البرية لا يقدر قَدْرَهُمُ |
أثنى عليهم إله العرش سُبْحَانهُ |
وفي التوراة والإنجيل نَعْتُهُمُ |
وكم لهم من مزايا مالها عَدَدٌ |
وهل يعد الحصى والقصر وَالدِّيمُ |
قد فتحوا الأرض فتحا وهي مَغْلُوقَةٌ |
مسدودة وظلم الكفر مُنْسَجِمُ |
هم الغيوثُ إذا ما أزمة نَزَلَتْ |
هم الليوث إذا ما الحرب يُصْطَلَمُ |
لا يقصدون سوى الرحمان في عَمَلٍ |
وأن مبلغ شرع آلله دَأْبُهُمُ |
هم الجيوش التي بالله نُصْرَتُهَا |
ليس يخافون إلا الله مَوْلَاهُمُ |
نعم الكتائب والأجناد يا لَهُمُ |
إن اصطفوا حول رسول الله وَالْتَحَمُ |
يُرَوْنَ مثل نجوم أو كزهر رَبَا |
أو مثل قطر السما وهو مُنْسَجِمُ |
فهم إلى الحرب في تعبئةٍ كَمُلَتْ |
ولحدث السّرَى بعشرها نِعَمُ |
في النَّبْلِ والسيفِ والرمحُ تِجَارَتُهُمْ |
وربحهم وظهور الخيلِ فَرْشُهُمُ |
ما منهم أحد تحكى مَنَاقِبَهُ |
إلا وقلت لا شك هذا خَيْرُهُمُ |
جلت مراتبهم عزت مَنَاقِبُهُمْ |
هم الكواكب والمختار بَدْرُهُمُ |
ردد مدائحهم عدد شَمَائِلِهِمْ |
ونزه الفكر في رياض حُسْنِهِمُ |
وانشر محاسنهم واذكر مَآثِرَهُمْ |
واعلم بأن جميع الفوز حُبُّهُمُ |
إن القلوب لها في مدحهم رَاحَةٌ |
جرب تجد عجبا إن كنت تَهْوَاهُمُ |
كما ذكروا فرادى أو جُمَعَا |
بين الورى يطرب الأسماء ذِكْرُهُمُ |
سبحان من خصهم بصحبة الْمُصْطَفَى |
وَعَمَّرَ الكون كله بِنَشْرِهِمُ |
الله أكرمهم بنيل رِضْوَانِهِ |
وسورة الفتح قد جاءت بِوَصْفِهِمُ |
وكلهم علماء وكلهم حُكَمَا |
وكلهم رحما فالفضلُ فَضْلُهُمُ |
يا ليتني كنت أحمل السلاح لَهُمْ |
وأرعى بالليل والنهار خَيْلَهُمُ |
طابت به طيبة وطاب مَشْرَبُهَا |
وصار منها نسيم الطيب يَنْتَسِمُ |
هي السراج لأهل الأرض قَاطِبةً |
هي الشفاء لمن بقلبه سَقَمُ |
ياقوتة الأرض لا حَدَّ لِإِشْرَاقِهَا |
بأهلها عاد سور الكفر مُنْهدِمُ |
قد اكتست حللاً من البهاء بمَا |
حوت من الخير فهي للقرى سَنمُ |
أكرم بدار العالمين وَمَنْ |
بعزه شرفت مكة وَالْحُرُمُ |
مهبط جبريل والأملاك والوحي مَا |
أسعدها بقعة سكانها غَنِمُ |
يا فوز من كان في طيبة مَسْكَنهُ |
يحشر في زمرة الهادي وَيُرْتَحَمُ |
فإنها قبة الإسلام من زَارَهَا |
يعطى مناه ولا يلحقه ندَمُ |
وإنها معدن الأنوار من جَاءَهَا |
يكسى حللا وللخيرات يَغْتَنمُ |
منزل خير الورى ودار هِجْرَتِهِ |
لها به شرف في الأرض مٌنْفَخِمُ |
جبالها لرسول الله مَحْبُوبَةٌ |
وَاُحُدٌ بينها بالقول مُتَّسِمُ |
هي عروس القرى جَلَّتْ مَحَاسِنُهَا |
وجل إحسانها ونفعها الْعَمِمُ |
ويا لها من روضة للفضل جَامِعَةً |
كيف وفي جوفها قد انطوى الْعَلَمُ |
فلا تسل عن جمالها وَبَهْجَتِهَا |
حدث بما شئت ليست قط تُتَّهَمُ |
ضمت شفيعا به تستمسك الشُّفَعَا |
وإنه مبدأ لهم وَمُخْتَتَمُ |
هي الجنان هي الفردوس يا شَفِيعاً |
فيا لقوم هم لِحُرْمِهَا خَادِمُ |
وفيها ما تشتهيه الأنفس من نِعَمٍ |
نال المنى من له بجنبها خِيَّمُ |
يمم حماها وقبل عرف تُرْبَتِهَا |
واقصد كراما بها وَحَيِّ رُبْعَهُمُ |
وقف بأبوابهم وأنت في أَدَبٍ |
واهتف بأسمائهم والدمع يَنْسَحِمُ |
فسلم عليهم بأرفع السلام وَقُلْ |
إني لفي فاقةٍ وإني ضَيْفُهُمُ |
يا للكرام لمن ضاقت مَذَاهِبُهُ |
ولم يجد حيلةً إلا نِدَاءَكُمُ |
يا أهل دار الوفاء والجود من جَاءَكُمْ |
ينال ما يرتجي والعبدُ أَمَّكُمُ |
فعجل القصد إن الله يَرْضَاكُمُ |
وأنتم الشفعاء في الناس كُلِّهِمُ. |
- قصيدة اخرى بعنوان: يارب صل على
وهذه قصيدة اخرى في مدح المصطفى «صلى الله عليه وسلم» لسيدي محمد العربي بن محمد بن قاسم، تنشد صبيحة عيد المولد النبوي الشريف من أمام مسجد قصر القصبة الجديدة بمدغرة، إلى بيت أحد أحفاد هذا القطب الرباني من جهة العمومة في موكب
من الشيوخ والشباب والأطفال والنساء بالزغاريد بعد تناول وجبة الكسكس بالمسجد، وكان سكان قصري القصبة الجديدة والحيبوس في الماضي ينشدونها من امام المسجد إلى بيت الولي الصالح سيدي محمد العربي ويدخلون عليه في عقر داره وهم يرددون جماعة:
*يارب صل على*
يا رب صل على☆ أكرم من أرسلا ☆ الآل والفضلاء ☆ أصحاب هذا الحبيب |
يا معشر الحنفاء☆ يا أمة المصطفى ☆أسعدكم ذو الوفاء ☆ بالهادي نعم الحبيب |
سدنا على من مضى☆ حزنا جميع الرضا☆بالمصطفى المرتضى☆ فزنا بأوفى نصيب |
بشرى لنا بالرسول ☆ نلنا به كل سول ☆بين الأنام نصول ☆في الموقف المنتصب |
بشرى لنا بالشفيع ☆يوم إجتماع الجميع ☆ ذاك المقام الرفيع ☆سر بديع عجيب |
نعمتنا نعمة ☆ قسمتنا قسمة ☆ ما مثلنا أمة ☆ يا فخرنا بالحبيب |
الهادي نور الهدى ☆ منه الجمال بدا☆ تحت لواه غدا ☆كل تقي منيب |
شرفه ذو الجلال ☆فرده بالكمال ☆ ما لعلاه مثال ☆ طه الإمام النجيب |
قرة أعيننا ☆ بهجة أنفسنا ☆ نزهة أرواحنا ☆ منه القلوب تطيب |
فهو ضياء القلوب ☆ وهو دواء الذنوب ☆وهو مزيل الكروب☆ عن كل قلب كئيب |
مفتاح باب الأمان ☆ سلطان أهل الجنان ☆ أحسن كل حسن ☆ أقرب كل قريب |
ما في السماء ولا ☆في الأرض أبهى حلى ☆ من فاضل الفضلاء☆ راحة كل غريب |
بشرى بنعم البشير☆ من نوره منتشر☆تاج البهاء المنير☆ من شمسه لا تغيب |
جاء بحق ونور☆ أذهب ما في الصدور☆من باطل وغرور☆ وأنقذ كل لبيب |
اختاره واجتباه ☆وخصه وحباه ☆ ذو العرش ثم اصطفاه ☆ للأنبياء خطيب |
مولده قد سما ☆ في الأرض بل في السماء ☆سبحان من عظم ☆من للنبي ينتسب |
في حبه ربحنا ☆ في ذكره أنسنا ☆في مدحه عزنا ☆مادحه لا يخيب |
علينا به الله جاد ☆وأكرمنا ذو الأياد ☆ ومن بخير العباد ☆ عليه سلام رقيب |
فنسأله أن يجود ☆بحب إمام الوجود ☆ فإنه نعم الودود ☆ وللسائلين مجيب |
فيا رحمة العالمين ☆ ويا نعمة المسلمين ☆ ويا ملجأ المذنبين☆ إذا ما الصغير يشيب |
عجل لنا عطفة ☆ تشملنا جملة ☆واشفع لنا رحمة ☆ عند السميع المجيب |
فيا أرحم الراحمين ☆ إغفر لنا أجمعين ☆واعطف على الوالدين ☆ بجاه النبي الحبيب |
- - قصيدة أخرى بعنوان: (من البقيع إلى البقيع)
وهذه قصيدة اخرى لسيدي محمد العربي أرسلها الى إمام المسجد النبوي مع ركب الحجاج من مدغرة إلى المدينة المنورة يبلغ سلمه لأهل البقيع بالمدينة المنورة مستغيثا بالله وببركات صلحاء ال البيت الموجودين بديار الحجاز، طالبا أن يشمله الله بعفوه ورحمته ويمن عليه بالشفاء.
"من البقيع إلى البقيع "
سلم على أهل البقيع وقل لهم |
عبدا ضعيفا يشتكي الأضرار |
وله إليكم نسبة وإضافة |
وتعلق فاستعطفوا الجبار |
واستعطفوا واستنجدوا المختار |
ليزيل عنا الهم والأكدار |
فيمن سبحانه بنيل مرادنا |
وينور الأجساد والأبصار |
يا آل الكرام لواقف ببابكم |
يرجو الإجابة أن تكون جهارا |
لذنا بحرم الله ثم بحرمكم |
فبحقكم اقضوا لنا الأوطار |
يا حزب أحمد أحسنوا لفقيركم |
إن الكريم يشفع الأخيار |
أنتم خيار الناس شرقا ومغربا |
الفرد منكم قط ليس يجارى |
لو كان منكم واحد فرد كفى |
سيما إذا كنتم له أنصار |
بالله يا أهل الكمال تفضلوا |
واستنجدوا واستنصروا المختار |
بالله إن الله يقبل سؤلكم |
لا تقبل في جاهكم أعذار |
أنتم سلاطين البسيطة كلها |
في سهولها وجبالها أقمار |
أنتم سيوف الله في أرضه |
لقد حزتم عناية عزها وفخارا |
أنتم بحار الجود والإحسان كم |
أغنيتم القصد والزوار |
أنتم ليوث الله في مهمه |
وكم هزمتم الاعداء والكفار |
فبكم يستغيث المستغيث ويحتمي |
وبكم يحوز المستجير جوار |
أيضام عبد لا يفارق مدحكم |
طول الأزمان يردد الأشعار |
منوا وجودوا بالمنى تفضلوا |
فلا تتركوا للحاسدين قرارا |
ثم الصلاة على الذي بفضله |
يمحو الإله الهم والأوزار |
ثم الصلاة على حبيبنا محمد |
يمحو الإله الغم والأكدار |
ثم الصلاة على شفيعنا محمد |
يمحوا بها الكيد والأضرار. |
* (سبائك الذهب): قصيدة مدحية ميمية نظمها العالم العلامة سيدي محمد العربي بن محمد بن قاسم المدغري القصبي الجديدي في مدح الرسول «صلى الله عليه وسلم» وصحبه الكرام، بلغة عربية فصيحة وبيان راقٍ، وقد جاءت هذه القصيدة في حوالي واحد وخمسون بيتا شعريا بعد المائة، وتعد واحدة من أجمل و أروع القصائد التي نظمت في شعر المديح النبوي بحاضرة مدغرة ، ورغم أن شهرتها لاتجاوز حدود قصر القصبة الجديدة بمدغرة، إلا أنها برأيي المتواضع لاتقل أهميةً عن كبريات القصائد الذائعة الصيت في مجال المديح النبوي كالبردة و الهمزية وغيرهما، إنها تعد بحق كنز شعري ينضاف إلى الرصيد العلمي والديني والروحي لحاضرة مدغرة.
[1] - شعرية التحدي} كتاب جماعي، تكريما للشاعرعبد الكريم الوزاني الابراهيمي تنسيق الدكتور عبد الله بنصر العلوي، منشورات المركز الأكاديمي للثقافة والدراسات المغاربية والشرق أوسطية والخليجية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز- فاس / مطبعة انفو- برانت- الليدو- فاس، طبعة 11 مارس 2023م، ص 145.
[2] - محمد بن محمد بن عاشور الطاهر،{شفاء القلب الجريح بشرح بردة المديح} المطبعة الوهبية، بالديار المصرية،جمادى الأولى 1396هجرية ، ص6.
[3] - عبد الله بنصر العلوي {في المدحة النبوية لمغربية}، أبحاث وأوراق، منشورات المركز الأكاديمي للثقافة والدراسات المغاربية والشرق أوسطية والخليجية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ظهر المهراز- فاس، مطبعة أنفو- برانت، الليدو- فاس، طبعة يناير 2016م، ص 85.
[4] - (شعرية التحدي) كتاب جماعي، تكريما للشاعر الوزاني الابراهيمي تنسيق الدكتور عبد الله بنصر العلوي، منشورات المركز الأكاديمي للثقافة والدراسات المغاربية والشرق أوسطية والخليجية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز- فاس / مطبعة انفو- برانت- الليدو- فاس، طبعة 11 مارس 2023م، ص146.
[5] - عباس الجراري: {الإحتفال بعيد المولد النبوي الشريف في المغرب} عرض ألقاه الدكتور عباس الجراري بأكاديمية المملكة المغربية، ضمن نطاق حديث الخميس. نشرت هذه المقالة بموقع الدكتور عباس الجراري بتاريخ 13يوليوز 2000م. [www.abbesjirari.com]
[6] - (سيدي محمد العربي): هو الولي الصالح والشاعر الفصيح سيدي محمد العربي بن محمد بن قاسم بن الحفيد، من الشخصيات العلمية لحاضرة مدغرة، كان عالما وفقيها وشاعراً، ويُعرَفُ اختصاراً في حاضرة مدغرة بسيدنا العربي مداح النبي، ينتمي لقصر القصبة الجديدة بمدغرة، عاش في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر على عهد الدولة العلوية في فترة حكم السلطان مولاي سليمان العلوي الذي كانت تربطه به علاقة علمية وأخوية تبادل على إثرها قصائد وردود على بعضهم البعض شِعراً، وقد توفي سيدي محمد العربي بمدغرة عام 1837م، ودفن بمقبرة البقيع بقصر الحيبوس وهو صاحب الضريح المعروف هناك، كان رحمه الله جزولي الطريقة، ويعد واحدا من أبرز شعراء القرن 19م بمدغرة، ورغم ماوصلنا من أخباره على نذرته فإنني لم أقف له على ترجمة كاملة شافية ووافية، ولم أقف كذلك على نشأته وتعليمه وتاريخ ولادته، وكذا الشيوخ والعلماء الذين درس وتلقى العلوم على أيديهم، إلا ماورد عنه في بعض كتب التراجم لماماً، وبعض النتف من هنا ومن هناك، وبالخصوص ما أورده عنه ادريس بن احمد الفضيلي في الدرر البهية، وكذلك ما ذكره محمد الزاكي بن هاشم عنه في مطالع الزهراء بشكل مختصر.. يمتلك سيدي محمد العربي رحمه الله موهبة شعرية ولسان فصيح ساعده على نظم الشعر وتطويع الكلام والمعنى، مما مكَّنهُ من إخراج قصائد مدحية في مدح الرسول الأكرم بقيمة شعرية رفيعة بلغت شأوا عظيما كسائر قصائد المديح النبوي الذائعة الصيت ، ونظرا لعلمه الغزير وإطلاعه الواسع وذكائه الحاذق فقد تولى منصب التدريس والإفتاء والإمامة والخطابة بمدغرة، خلف رحمه الله العديد من القصائد في مدح الرسول الأكرم «صلى الله عليه وسلم»، أبرزها قصيدة سبائك الذهب الطويلة، وعدة قصائد أخرى في مدح فاطمة الزهراء البتول رضي الله عنها، قال عنه صاحب الدرر البهية العلامة إدريس بن احمد الفضيلي: {كان بحرا في العلوم، مشاركا مشتغلا بالتدريس، وكان مستغرقا في محبة النبي «صلى الله عليه وسلم»}، وقال عنه محمد الزاكي بن هاشم في مطالع الزهراء:{كان عالما عاملا مشاركا، شاعرا له قصائد في مدح الرسول «صلى الله عليه وسلم»، زاهدا في الدنيا مشتغلا بالتدريس في كل وقت من حديث وتفسير وغير ذلك} وحسب روايات عن بعض أحفاده من جهة العمومة فإن سيدي محمد العربي لم يخلف إلا طفلين ولد وبنت توفي رحمهما الله في حياته صغارا، ولسيدي محمد العربي كرامات وخوارق متعددة يرويها العامة وبعض الصوفية عنه لايسمح المجال بذكرها، وكان رحمه الله كما يُحكى عنه لتقواه يضع كمامات على أفواه ماشيته، حتى لاترعى في حقول الناس ولا تأكل ولو عرشا واحداً من الحقول المجاورة غدوا ورواحاً رحمه الله ورضي عنه.
[7] - {الطالب عيسى بن خالي المدغري}: هو الفقيه عيسى بن احمد بن محمد بن خالي المدغري القصبي الجديدي، المولود عام 1942م والمتوفى سنة 2007 م، ينتمي لقصر القصبة الجديدة بحاضرة مدغرة، ويعتبر واحدا من أبرز الفقهاء الحفاظ الكبار بمدغرة في القرن العشرين، حفظ القرآن الكريم وعددا كبيرا من المتون في سن مبكرة، فقد بلغت محفوظاته بعد كتاب الله تعالى مايزيد عن أربعين حزبا من المتون والمنظومات والأرجوزات المختلفة المتكونة من مئات الأبيات الشعرية النظمية في الفقه والمدح والتصوف والفرائض والسِّير وأصول الفقه والعقائد الخ، من بين أبرز محفوظات الفقيه الطالب عيسى التي كان يحفظ عن ظهر قلب، متن العلامة عبد الواحد ابن عاشر المسمى المرشد المعين، ومتن الأجرومية في النحو، ومتن لقمان لِيحي بن موسى الجزولي، ونظم مثلت قطرب في علم البلاغة، ومنظومة الدرر اللوامع لإبن بري في علم القراءات، ومنظومة المصباح، وكذا منظومتي النصرة والأنصاص للتهامي بن الطيب الغرفي السجلماسي في علمي القراءات والرسم القراني، بالإضافة إلى نظم التكميلة لسيدي عبد السلام المدغري التزناقتي ، كما كان يحفظ رحمه الله قصائد المديح النبوي الشريف كالبردة والهمزية للبوصيري، وسبائك الذهب لسيدي محمد العربي والدعاء الناصري لأحمد بن الناصر الدرعي، والعديد من المنظومات المختلفة وعشرات الأبيات الشعرية لشعراء من عصور مختلفة كشعر الشافعي وغيره من الشعراء ، وأشير هنا أن أغلب محفوظاته من المتون والمنظومات هي إجتهاد شخصي من الفقيه الطالب عيسى رحمه الله في عصامية فريدة عز نظيرها، فقد حباه الله بذاكرة قوية، وقوة في الحفظ والإستذكار. يعتبر الفقيه الطالب عيسى واحدا من أبرز الفقهاء المدغريين المتأخرين الملمين باللغة والرسم القرآني والمتن، كما يعد واحدا من أبرز الشخصيات العلمية التي وسمت شخصية مدغرة العالمة في القرن العشرين، أما بالنسبة لحياته المهنية، فقد تولى مهمة الإمامة والخطابة بعدة مساجد بحواضر المغرب في سنوات السبعينيات والثمانينيات بمدينة الدار البيضاء والرشيدية، ونواحي ميدلت وأزرو وذلك في بداية مشواره المهني، ليعود إلى مسقط رأسه بقصر القصبة الجديدة مع نهاية سنوات الثمانينيات وبداية التسعينيات ليتولى مهمة الإمامة والخطابة بمسجد بلده بقصر القصبة الجديدة لأزيد من عشرين سنة، عينته وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في الفترة الأخيرة من حياته في منصب معلم القران ومدرس المتون بالمدرسة العتيقة في الزاوية البكرية بمدغرة، زاوية العالم العلامة القطب الشهير مولاي عبد الله بن علي بن طاهر الحسني المدغري السجلماسي دفين مدغرة المتوفى عام 1632م ، حيث تولى الطالب عيسى التدريس بهذه المدرسة العتيقة في الفترة مابين 1997م و 2007م سنة وفاته رحمه الله، درَّس الفقيه الطالب عيسى رحمه الله لطلابه خلال تلك المرحلة متن إبن عاشر، وبعضاً من مختصر خليل، ومتن الجزرية في التجويد، ونظم الأجرومية وعدة متون اخرى، خلف رحمه الله العديد من الكناشات الفقهية لم يتم تحقيقها بعد، من أبرز الشيوخ الذين تلقى على أيديهم القرآن بمدغرة وخارجها نذكر، الطالب العربي، الطالب محمد البرابر، مولاي هاشم بلغالي العالم والشاعر المعروف، والطالب محمد بوشام وغيرهم، قال عنه المرحوم مولاي الزهيد بن الشريف رئيس المجلس العلمي للرشيدية حين بلغه خبر وفاته:( كنز من العلم يدفن الآن، فقدته مدغرة)، وقال عنه الأستاذ الفاضل ديدي مولاي الطيب وهو يشيع جثمانه ويرفع صوته بحرقة:(نشيع جثمان آخر فقيه مدغري من الفقهاء المدغريين الذين حافظوا على الطريقة التقليدية) وقال عنه الأستاذ الفاضل مولاي إدريس ابو الحامد في أحد كتبه: (له قلب أبيض من الثلج) بمعنى ان الفقيه عيسى لايكن في قلبه حقدا لأحد مهما اختلف معه، هذا وقد سبق وحصل على شواهد تقديرية من المجلس العلمي المحلي للرشيدية وأخرى من جمعية الولاء الفلالي التي كان يرأسها المرحوم عزيري علوي إدريس منوهاً فيها الأستاذ الفاضل إدريس عزيزي علوي بقدرة الفقيه الطالب عيسى الفائقة على الحفظ والضبط وحسن الإلقاء وزناً وصوتاً في إنشاد قصائد البردة والهمزية للبوصيري التي تنشد في ذكرى المولد النبوي الشريف من كل سنة رحمه الله ونفعنا ببركاته.
[8] - شعرية التحدي} كتاب جماعي، تكريما للشاعر عبد الكريم الوزاني الإبراهيمي، تنسيق الدكتور عبد الله بنصر العلوي، منشورات المركز الأكاديمي للثقافة والدراسات المغاربية والشرق أوسطية والخليجية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز- فاس / مطبعة انفو- برانت- الليدو- فاس، طبعة 11 مارس 2023م، ص146.
[9] - عبد الله بنصر العلوي {في المدحة النبوية المغربية}، أبحاث وأوراق، منشورات المركز الأكاديمي للثقافة والدراسات المغاربية والشرق أوسطية والخليجية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ظهر المهراز- فاس، مطبعة أنفو- برانت، الليدو- فاس، طبعة يناير 2016م ، ص 97.
[10] - عبد الله بنصر العلوي، {المنتقى المعين من شعراء المغرب فى القرنين التاسع عشر والعشرين } من شعراء حاضرتي مكناس وتافيلالت(مدغرة) تصدير الدكاترة، أحمد الدويري، عبد العزيز بلبكري، عمر قلعي، ومراجعة عبد الكريم الرحيوي، منشورات المركز الأكاديمي للثقافة والدراسات المغاربية والشرق أوسطية والخليجية، دار أبي رقراق للطباعة والنشر- الرباط ، الطبعة الأولى 2022، ص 258.
[11] - إدريس بن احمد الفضيلي {الدرر البهية والجواهر النبوية } مراجعة ومقابلة أحمد بن المهدي العلوي، ومصطفى بن أحمد العلوي، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية- الرباط، مطبعة فضالة المحمدية. ط1، 1999م، ص 293.
[12] - جميل حمداوي {شعر المديح النبوي في الأدب العربي}، مقالة نشرت على الموقع الأدبي: (ديوان العرب) بتاريخ يوليوز 2007م. [www.diwanalarab.com]
[13] - عبد الكريم الرحيوي،{جماليات الأسلوب في الشعر الجاهلي}مقاربة نقدية بلاغية في إبداع شعراء المدرسة الأوسية، دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع، عمان-الأردن الطبعة الأولى 2014، ص 193.
[14] - نفس المرجع السابق، ص 191.
[15] - مدغرة التاريخ والمجتمع والثقافة} و{مدغرة في التاريخ والفكر والأدب} كتاب جماعي، تنسيق الدكتور عبد العزيز بلبكري، أعمال الندوتين العلميتين، 2017/2018م ، مطبعة انفو غراف- الرشيدية، ط1، 2021م، ص217.