لماذا نحرص، بكل إصرار وقتالية، على تقبيح أو وأد أجمل ما فينا؟ هل نعي بأننا نضحي بسعادتنا الفردية والجمعية المتوقفتين على السلام الداخلي والخارجي لصالح حرب لا تبقي ولا تذر؟ لماذا نغذي هذا التغول في الأنانية وحب الذات بالحقد وكراهية الغير؟ أليس من النبل أن نحب غيرنا كما نحب أنفسنا، ونحب لهم ما نحب لأنفسنا؟ لماذا نركن إلى التقوقع والانغلاق ونفوت علينا فرص التطور؟ أليس من الأجدى أن نحرر أنفسنا بأنوار الانفتاح؟ لماذا ننتصر للوحش فينا؟ أليس من الحكمة أن يترفق هذا الإنسان بنفسه، وينتصر للمحبة فينتهض لتوطيد أواصرها، ومد جسورها، حتى تطلع الوردة من قلب الحجر، ويسعد كل البشر؟ بعض من أسئلة التعصب الكبرى.
1- في ماهية التعصب
التعصب في المعاجم اللغوية دائر على معاني الالتفاف والتجمع والتقارب والنصرة والمحاماة والتعنت والتمسك والميل والإعجاب والحمية (تنظر في ذلك المعاجم).
وتجدر الإشارة إلى أن الذي يهمنا في هذا المقال، في هذا المقام، ليس التعصب في إطلاقه العام، والذي قد تستفاد منه معان إيجابية، كالتعنت للحق، والتمسك بالموقف الصائب، ونصرة الفقراء والمظلومين، وتوطيد الوشائج في خير، والاعتصام بحبل المودة، وما إلى ذلك. فذلك مطلوب التعصب له. وإنما يهمنا التعصب بما هو مرض نفسي-اجتماعي.
بهذا المعنى فإن التعصب في الاصطلاح سلوك أناني سلبي قائم على تعميمات وأوهام ومشاعر وانفعالات تجعل المتعصب يتصرف على نحو عاطفي غير منطقي، يتنازعه دافعان متناقضان، الحب الأعمى للذات من جهة، والحقد الأعمى للآخر من جهة ثانية. وكما يمكن الحديث عنه باعتباره سلوكا فرديا، يمكن الحديث عنه باعتباره سلوكا جماعيا، باعتبار الجماعة المتعصبة هي مجموع الأفراد المتعصبين المكونين لها. ولذلك يعد التعصب، بهذا المعنى، مرضا نفسيا واجتماعيا في آن معا. وذلك بالنظر إلى كونه إنتاجا للفرد والجماعة معا، يتأثران به معا. ومن المعاني التي ترتبط بالحقل الدلالي للتعصب التقوقع والتزمت والعمى والعنصرية والتمييز والإقصاء والاستبعاد والتطرف. وهي كلها معاني سلبية.
هكذا نجد أن التعصب داء يصيب الأفكار والقناعات والمشاعر فيؤثر سلبيا على معقولية وجودة وحكمة التصرفات التي تصدر عن المتعصب.
2- أنواع التعصب
تتعدد أنواع التعصب بتعدد الموضوعات المتعصب لها. ومنها:
- التعصب الديني/العقدي؛ ويتمثل في الاعتقاد في انحصار الحق في الدين المعتقد، بالفهم المعتقد، دون غيره من الأديان والمعتقدات. ويمكن اعتباره من أخطر أنواع التعصب نظر للهالة القدسية التي تحيط به، حتى وإن كانت مبنية على الجهل الذي يصبح بالتعدي مقدسا أيضا. وذلك رغم أن بعض الأديان، الإسلام مثلا، تدعو إلى الحوار المخلق مع الغير (وجادلهم بالتي هي أحسن) والاعتراف بالآخرين (لكم دينكم ولي دين)، وحرية الاعتقاد (لا إكراه في الدين). بل وتذهب إلى حد اعتبار تعدد الاعتقادات مشيئة إلهية وتعتبر الإكراه على الإيمان تجاوزا (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟).
- التعصب المذهبي أو الطائفي: ويجد جذوره في الفرق الدينية والعرقية والإيديولوجية المختلفة. ويتميز التعصب المذهبي الطائفي عادة بتقديس الأشخاص الذين يمثلون القدوات والنماذج والمراجع العليا، وتبجيل المذاهب والنظريات، والتفاني في العمل بمقتضى أرائها ومواقفها وأحكامها وفتاواها، والانتصار لها بدافع الحمية والعاطفة؛
- التعصب العرقي/القومي: ويتجلى في الغلو في الاعتزاز بالأصل البيولوجي الوراثي المبني على صلة الدم والنسب، واعتقاد تميزه وعظمته وأفضليته، وقد يصل الأمر إلى درجة تقديسه، وذلك دونما مبرر موضوعي علمي منطقي. ويتمظهر ذلك من خلال المباهاة بالنسب وتوهم ارتباط الشرف به، أو ادعاء الأصالة والتميز والذكاء والتفوق عند بعض الحركات العرقية (العرب،الأمازيغ، الفرس، الكرد،...) وبين الفروع داخل نفس العرق المعتقد في التميز.. وهلم عنصرية ووهما وغباء؛
- التعصب الإيديولوجي: وهو التعصب المبني على اعتقاد امتلاك الحقيقة الفكرية دون الآخرين. ويجد مستنده في التسليم بإطلاقية صحة الخلفيات المعرفية التي تشكل الإطار العام الذي يتحرك فيه المتعصب الإيديولوجي، وعدم قابلية كل ما يرتبط بها من مفاهيم ومضامين وتحاليل ومناهج للمراجعة والسؤال والنقد والتخطيء والتجاوز. وهو ما يحول الإيديولوجيات إلى أديان منغلقة على ذاتها لا تقبل التطور. وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن ينبغي التمييز بين الاقتناع العقلي بإيديولوجيا معينة، وتبنيها، واستثمار مفاهيمها ومناهجها بوعي نقدي، والتعصب لها وتقديسها وتوهم صلاحيتها لكل زمان ومكان، ومعاداة كل ما سواها. كما تجدر الإشارة أيضا إلى أن بعض الإيديولوجيات تعصبية في طبيعتها، ويستتبع ذلك أن معتنقها لا يمكن أن يكون إلا متعصبا مصابا بالعمى؛
- التعصب للون: وينبني على توهم أفضلية لون بشرة على لون آخر. والتاريخ الإنساني حافل بالأحداث التي تعتبر شهادات على السلوكيات المقيتة التي تعرض لها السود، ولا زالوا يعانون من ويلاتها في بعض المناطق من العالم إلى الآن.؛
- التعصب السياسي: يرتبط التعصب السياسي بجنوح القوى السياسية إلى الانتصار لرؤيتها وبرامجها ورهاناتها السلطوية والانتفاعية، وذلك بالاستناد إلى منطق التغلب المتجرد من الأخلاق، إلا في استثناءات قليلة جدا. وتجدر الإشارة إلى أن التعصب السياسي قد يسمح باستعمال كل الوسائل القذرة دفاعا عن الحزب أو الحكم، وعن السلطة قرينة الثروة، بما في ذلك اختلاق الأزمات، وضرب المصالح العامة، وكيل التهم للأبرياء المنافسين، ونفيهم وطردهم، وحتى إبادتهم بالعنف. ويدخل ضمن النوع التعصب الحزبي، وتعصب الدولة...
- التعصب الطبقي: لا يتعلق الأمر في التعصب الطبقي بتوهم الأفضلية الطبقية بين الأغنياء والفقراء فقط، وإنما يتجاوز ذلك إلى المتعلمين وغير المتعلمين والحرفيين والمهنيين والتجار والفقهاء. من ذلك مثلا أن يتوهم القضاة أو المحامون أو الأطباء أو التجار الكبار تميزهم عن غيرهم، وبالتالي التصرف معهم بمقتضى هذا المنطق الفاسد.
وعلى العموم يمكن الإشارة إلى أن كل نوع من هذه الأنواع، وغيرها (التعصب الأسري والقبلي والرياضي والفني والجمعوي ...) تشكل بنيات قائمة بذاتها، ميزتها الرئيسة الميل إلى الاشتغال في إطار نسق منغلق وجامد لا يسمح بالحركة والانفتاح إلا بقدر محدود جدا في أحسن الأحوال، وبقدر ما يحافظ عليها كما هي بقدر ما يمنعها من التطور. هذا من جهة، أما من جهة أخرى فإن هذه البنى المنغلقة يمكن أن تؤدي إلى إنتاج وصناعة الأنَوات الفردية والجمعية المستعدية للأخرى، وهنا تكمن المشكلة التي يمكن ان نستدعي للتعبير عنها مفهوم "الهويات القاتلة" كما عند الكاتب اللبناني أمين معلوف. وفضلا عن ذلك تمكن الإشارة أيضا إلى أنه كلما كان التعصب متأصلا جدا في سيكولوجية الأنا المتماهية مع سيكولوجية الحشد كلما كان تأثيره خطيرا ومدمرا، وذلك بسبب الطابع الانفعالي اللاعقلاني الغريزي الوحشي للسلوكيات الحشدية، كما يؤكد ذلك علماء النفس (جوستاف لوبون/ كارل يونغ / سيجموند فرويد).
3- أسباب التعصب
تقف وراء التعصب عدد من الأسباب، منها:
- التنشئة الاجتماعية: حيث يتلقى المتعصب تربية تعزز لديه الأنانية المفرطة وتقديس الذات إلى درجة الغرور واعتقاد الأفضلية، وتنمي لديه دوافع الغيرة والحسد والحقد على الغير والانتقاص من قيمته؛
- الفشل: غالبا ما يولد الفشل مشاعر الإحباط والإحساس بالدونية، فيلجأ المتعصب، كما في تفسير فرويد، إلى حيلة الإسقاط، من أجل التخفيف عن نفسه، معلقا عليهم كل ما يحس به. كما قد يلجأ إلى التهجم والقذف، وقد يصل الأمر إلى ممارسة العنف المادي أيضا؛
- الإحساس بالظلم: يشكل هذا الإحساس عاملا أساسيا في تبلور التعصب في شخصية الفرد، وذلك لأنه يولد لديه الإحساس بأنه موضوعا للاستهداف من قبل غيره، وفي ذلك إحساس بالضعف بشكل ضمني، وبالعداء للآخرين الذين سلبوه حقوقه المادية أو المعنوية أو هما معا. وذلك ما يجعله يتوهم دوما أنه موضوعا للمؤامرة، فينتج عنه التعصب. ومن صور الظلم التي قد يتعرض لها الفرد، والجماعات أيضا، الإقصاء والاستبعاد؛ بأبعاده الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية؛
- الغرور: يؤدي الغرور والغلو في الإحساس بالتميز إلى العجب بالنفس وتوهم العبقرية والقوة والتفرد، وهو ما قد يفضي إلى ما يسمى بجنون العظمة كما يحدث عند الدكتاتوريين والطغاة الذين يصل بهم الحال إلى تغييب المنطق والعقلانية وأصوات الشعوب. وعموما فهذا النوع من المتعصبين لا يسمع إلا صوته وصوت من يعبده ويقدسه ويمدحه؛
- الجهل: يعتبر كل ما ذكرناه من العوامل التي يمكن أن تسهم في ظهور مرض التعصب، لكن لا بد من التأكيد على أن أنسب بيئة يتورم فيها التعصب هي التي يعشش فيها الجهل، فالجهل عادة ما يقود صاحبه إلى التعصب. وليس المقصود بالجهل هنا الأمية وتدني المستويات التعليمية أو الدرجات الأكاديمية، وإنما الجهل بالفاعلية السلبية للتعصب على الذات والآخر في الحال والمآل. ولذلك لا نعدم أن نجد من المرضى المتعصبين منظرين ومفكرين وزعماء، ومن الأسوياء أناس بسطاء جدا. والجامع بين هؤلاء جميعا هو انعدام، أو تدني، مستوى الوعي بالذات باعتبارها ذاتا مريضة من ناحية، وبجهالة التعصب وخطورته ومآلاته الكارثية من ناحية أخرى؛
- الوراثة: إذا لم يكن هناك إجماع حول دور الوراثة البيولوجية في نقل التعصب، فإن المجمع عليه هو أن الوراثة، بما هي نقل عن طريق الاكتساب الثقافي، تلعب دورا كبيرا في تنشئة الأفراد والجماعات على التعصب. وذلك ما يتجلى بشكل واضح في الجماعات العرقية والمذهبية والطائفية المتعصبة.
هذه بعض من الأسباب التي قد تؤثر على الإنسان، فتولد فيه التعصب، ويختلف تأثيرها من شخص إلى أخر، وذلك بحسب استعداداته النفسية، وقدراته العقلية والمعرفية، وطبيعة المحيط الذي ينتمي إليه.
4- أبعاد التعصب
ولتفسير السلوك التعصبي يمكن الحديث عن ثلاث مكونات، وهي:
- المكون المعرفي، حيث الأمر يتعلق بالصور النمطية المشكلة في الخلفية المعرفية للمتعصب، وهي عبارة عن أحكام وتمثلات مسبقة تُعامَل على أنها حقائق موضوعية غير قابلة للمراجعة والشك والسؤال والتعديل. أما منهجيا فإن المتعصب غالبا ما يعتمد على التعميم، كما أتينا على ذكر ذلك. بالإضافة إلى المقارنة الضمنية اللاشعورية والتي تولد لديه وهم التفوق أو عقدة الدونية. وهو ما ينتظم ضمن الخطاطات الذهنية القائمة، والتي تتم وفقها عملية التفكير؛
- المكون الوجداني، ويمكن الحديث بخصوصه عن نوعين من المشاعر: مشاعر الحب المبالغ فيه للذات والشعور بالأفضلية أو الدونية، وما يترتب عن ذلك من مشاعر التبجيل للأنا الفردية والجمعية أو الإحساس بالنقص، من جهة. ومشاعر الحقد والكراهية للآخر، وما يترتب عن ذلك من التحقير، من جهة أخرى. كما يتجلى أيضا في التسرع والانفعال مع الذات أو ضد الآخر؛
- المكون السلوكي، ويتجلى في الانكفاء والتقوقع، واتخاذ مسافة من الآخر، والتعاطي معه بطريقة عنصرية تمييزية عدائية، تتمظهر في عدة صور، كالتأويل المضاعف المفضي إلى سوء الفهم، وتبخيس واحتقار مجهودات الغير، والعنف الممتد من السب والقذف إلى الإبادة. أما إذا تعلق الأمر بالذات، سواء الفردية أو الجمعية، فيمكن أن يتخذ صور المبالغة في التمجيد والتبجيل والاحتفاء والاحتفال، وإن لم يكن هناك ما يستحق ذلك؛
هكذا نجد أن التعصب مزيج مما هو عقلي وما هو وجداني وما هو سلوكي. وهي المكونات التي يمكن اختزالها إلى ما يشكل الخلفيات، والتي تتشكل من المكونين المعرفي والوجداني، وإلى السلوك بما هو تصرف مرضي، وكل ذك يفضي إلى العنصرية والتمييز وما يستتبعه ذلك من السلوكيات المشينة.
5- مواصفات المتعصب
هكذا نجد أن المتعصب يتميز بعدد من المواصفات، ومنها:
- المتعصب ذاتي نرجسي يتوهم المركزية والأفضلية، ويدعي القدرة الكلية، ولذلك فهو لا يعمل على تطوير ذاته ووضعها للسؤال والنقد. مستعد للقتال وربما الانتحار أيضا حتى وهو يعلم بأنه على خطأ وأنه ضعيف لا يستطيع المواجهة. ولذلك فالمتعصب فرد ولائي، ينزع إلى الولاء المطلق لنفسه وجماعته؛
- المتعصب عاطفي وغير منطقي، تتحكم فيه الانفعالات، ويستبد به الهوى. غالبا ما يعتمد في الحكم على الآخرين على التعميم، ولذلك فبنو جلدته بنظره أخيار جميعا مهما أساءوا، والآخرون كلهم أشرار وإن أحسنوا. وهو بذلك ينظر إلى نفسه وإلى جماعته على أنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة، وإلى غيرهم على أنهم الخطأ المطلق. هكذا هي بنيتهم اللاشعورية وإن تظاهروا بعكسها. ولذلك تدهم يقولون شيئا ويتصرفون على نحو آخر؛
- المتعصب سادي اتجاه الآخر يحس باللذة العارمة وهو يراه يسقط، وإذا وقع بين يديه لا يرحمه بسبب غريزة الانتقام الناتجة عن الإحساس بالضعف، كما أنه يغيضه نجاحه، وقد يسعى بكل الوسائل لعرقلته؛
- المتعصب سلبي في علاقته بمن يخالفه، ولذلك ففهمه لأفكاره ومواقفه ومجمل أنشطته غالبا ما تنحو نحو الريبة والشك والتبخيس وعدم الاتفاق؛
- المتعصب تحكمه نزعة عدائية مكبوتة مضمونها الحسد والحقد والكراهية اتجاه الآخر تهدف إلى النيل منه وتحطيمه؛
- المتعصب يعيش أوهام وجود مؤامرة دائمة حوله، وكل ما يخالفه يشكل تهديدا له، داخلا في دائرة الأعداء الذين يضمرون له الشر، ويريدونه به.
- المتعصب استبدادي دغمائي، ينتصر بعناد وتصلب لأفكاره ومواقفه، وينزع إلى فرضها بسلطة العنف إذا تعذرت سلطة الإقناع، ومقابل ذلك تدفعه حالة الجمود الفكري التي يعيشها إلى معاداة كل ما يخالفه حتى وهو يعتقد صحته؛
- المتعصب انطوائي متقوقع داخل عالمه الخاص، يتهيب من الانفتاح على غيره، خاصة مع من له حساسية مفرطة معه، لربما يجد ذلك تفسيره في خوفه من انكشاف ضعفه أو تحطم أوهامه؛
- المتعصب يعاني المتعصب من اختلال نفسي بسبب الاضطرابات النفسية الناتجة عن الاحتياطي الهائل من الطاقة السلبية. ولذلك فإنه لا يترك فرصة تمر دون أن يستغلها من أجل التنفيس عن نفسه؛
- المتعصب غالبا ما يفشل في إقامة علاقات تعايشية حقيقية مستدامة بين الذات والآخر. وذلك بالنظر إلى طبيعته المرضية، النرجسية من جهة، والعدوانية من جهة أخرى.
هذه بعض من الصفات التي تميز المتعصب كإنسان مريض عن غيره من الأسوياء، إلا أنه لا تفوتنا الإشارة إلى أنه ليس بالضرورة أن تجتمع كلها في شخصية المتعصب، لأن المتعصبين بدورهم يختلفون من شخص لآخر، وذلك بحسب ما منسوب التعصب وموضوعاته واستعداداته. كما أن قدر هذه الصفات يختلف من شخص لآخر أيضا.
6- أثر التعصب على التواصل الإنساني
بعد أن تبين أن التعصب مرض نفسي واجتماعي خطير يصيب بعض الأفراد والجماعات، وأنه يصيب صاحبه بالعمى الإيديولوجي، لا بد من التأكيد على أن له انعكاسات سلبية كثيرة على التواصل الإنساني، بما هو عملية تفاعلية قائمة على التأثير والتأثر والأخذ والعطاء. ومن محاذيره ما يلي:
- يؤثر التعصب على فهم المتعصب لغيره فهما صحيحا، ويدفعه الوسواس القابض على نفسه إلى تأويل ما يصدر عنه بما يتناسب مع الأوهام التي يعتقدها. ولذلك فإن للتعصب سلطة ترشيدية سلبية على التأويل، وذلك بالنظر إلى فعل الصرف عن الفهم والإدراك الموضوعيين. وهو ما يؤدي غالبا إلى سوء التفاهم بين المتواصلين، وبالتالي فشل التواصل المطلوب. ولذلك نجد بعض المتعصبين لا يفتأون يستدعون الموضوعات التي تشكل لهم عقدة نفسية في جميع السياقات، حتى وإن كانت غير ذات علاقة بما يستنتجونه من قريب أو بعيد؛
- يؤدي التعصب إلى التعامل مع أفكار ومواقف الآخرين بخلفية تهديدية، حيث يعتبر أن من يختلف معه ما يعتقده مهدد لقيمته ولوجوده الفردي في حالة الفرد، والجماعي في حالة الجماعة. ويختلف منسوب التهديد لديه بحسب منسوب المشاعر السلبية التي يكنها للآخر. هكذا قد نجده مستعدا لكي يتقبل من طرف ما لا يتقبله من طرف آخر. ولا نبالغ إذا قلنا إنه يكون مستعدا لتقديم تنازلات أبلغ وأخطر للطرف الذي يقل أمامه منسوب المشاعر السلبية بالقياس إلى الطرف المستعدَى. مثال ذلك مواقف بعض الحركات العرقية والعنصرية والسياسية المتطرفة بخصوص بعض القضايا الوطنية والقومية. فهي مستعدة لحرق الأخضر واليابس وبيع الوطن للأجنبي والتواطؤ معه نكاية فيمن تعتبره عدوا. مثال ذلك أيضا النظم الشمولية المستبدة؛
- لئن كان التعصب قد يؤدي إلى الالتحام والتعاضد بين أفراد الجماعة المتعصبة، وبالتالي إلى توطيد حميمي بين أفرادها، فإنه يؤدي، على مستوى الجماعات الكبرى المتفاعلة، إلى التفكك الاجتماعي، وسيادة الخوف والاحتراز من الآخر، وظهور النعرات والحروب بين مكونات المجتمع الواحد. كما يمكن أن يكون سببا للتفكك داخل الجماعة نفسها. وبالتالي انفراط عقد التواصل والتماسك.
- يؤدي التعصب إلى الشعور بالقلق والتوتر الدائمين، ويكون ضحيته الإنسان المتعصب نفسه بسبب غياب السلام الداخلي، خاصة بمعية الآخر الذي يشكل حضوره مشكلة نفسية واجتماعية.
- يؤدي التعصب إلى ارتفاع منسوب الحقد والكراهية بين الأفراد من جهة، والأفراد والجماعات من جهة ثانية، والجماعات والجماعات من جهة ثالثة، والأوطان والأوطان من جهة رابعة. وبالتالي يكون الضحية هو التواصل الفعال المبني على التعايش والسلام المشروطين بتقدير الذات المزدوج بالتواضع وتقدير الآخر، وبالانفتاح والتسامح والتفاهم والتبادلية والعدالة والمحبة للناس، كل الناس.
- يحول التعصب بين مكونات الشعوب دون بناء الدول المتماسكة القائمة على المواطنة والمساواة والعدل وتكافؤ الفرص والاستحقاق بين جميع أفرادها وجماعاتها، كما يؤدي في حالة وجودها إلى خراب الأوطان وتفككها، وسيادة الاحتراب بين مكوناتها العرقية أو الدينية أو الطائفية أو غيرها من الاعتبارات التعصبية. فالمتعصب لا يمكن أن يبني وطنا، ولا يمكن أن يحافظ عليه.
- في نفس السياق يجدر التاكيد على أنه يمكن أن يوسل التعصب لأدوار خطيرة على مستوى الأوطان، ولذلك عوض أن تعمل النظم المستبدة على إشاعة روح التفاهم والتقارب والتلاحم بين أبناء الوطن الواحد، والأمة الواحدة، فإنها تعمل على بث روح الشتات والتفرقة وإثارة النعرات وتقويتها لضرب الأطراف بعضها ببعض متى دعت الحاجة إلى ذلك. وينطبق ذلك أيضا على القوى الاستعمارية التي لا تفتأ تغذي هذا الاتجاه السلبي بين أفراد وجماعات الوطن الواحد من جهة، وبين الشعوب المستهدفة في علاقتها ببعضها من جهة ثانية؛
- وكما يحول التعصب دون قيام علاقات تواصلية سليمة على مستوى الداخل، فإنه يحول دون قيامها أيضا على مستوى الخارج لنفس الأسباب.
وعلى العموم فإن للتعصب آثارا سلبية جدا على جودة التواصل الإنساني ومردوديته، خاصة إذ يتعلق الأمر بالتواصل مع الغير سواء كان فرديا أو جماعيا.
7- وماذا بعد؟
تفاعلا مع هذا السؤال تجدر الإشارة إلى أن التعصب، بجميع أنواعه، لم يفض إلا إلى المآسي والحروب، وإلى الشقاء، في كل مكان في العالم. لنقرأ التاريخ؛ القديم والحديث والمعاصر، ولنعتبر. لا منجاة لنا إلا بتفكير إنساني أخوي مُواطني على مستوى الداخل، وتفكير أخوي إنساني كوني على مستوى الوطن الكبير؛ الإنسانية. فإنه لا منجاة لنا إلا بالانفتاح والتنسيب والاحترام المتبادل بين الثقافات في إطار وحدة الجنس البشري، في إطار الإنسانية كقيمة جوهرية، بغض النظر عن الاعتبارات العرضية. ولا شيء قادر على إنقاذنا من داعشية النزعات التعصبية المتنامية التي تتفق في أسبابها، أو تختلف، في هذا المكان أو في مكان آخر، في هذا السياق أو في سياق آخر، لا شيء قادر على إنقاذنا إلا العقلانية النقدية المسددة بالأخلاق الحميدة، والتربية على القيم النبيلة، والتفاعل المبني على الإيمان بوحدة الجنس البشري، وبعد النظر، والرحابة والعلم والمعرفة واتساع الأفق والتحرر من أغلال الأنسقة الثقافية والإيديولوجية الدغمائية وسلطتها القاهرة، وذلك ما يقتضي التسلح بالفكر الإبداعي بالمفهوم الشومسكوي.
وأخيرا فإن سعادة الإنسان، أي إنسان، تتوقف إلى حد بعيد على تواصل مخلق وعادل وديمقراطي، تواصل قائم على الاعتراف والتقدير المتبادلين، والمحبة المتبادلة، تواصل واع نبيل يسعى من أجل صون كرامة وسعادة الجميع. وإذا كان ثمة ما يستحق التعصب فهو الحرص على ذلك.