ظاهرة زيارة الأضرحة هي ترجمة حية للعقل الخرافي الوهمي الذي واكب الفكر الإنساني منذ مدة طويلة ،ولازال يعيش معه جنبا إلى جنب، يساير الأنظمة الاجتماعية و السياسية و الثقافية .فالواقع الشعبي يتحدث عن السرعة الفائقة التي انتشرت بها هذه الظاهرة ، ومدى تشبث أفراد المجتمع بها إلى درجة التقديس و التبجيل،فعاد ضريح الولي بمثابة عبادة طبية مختصة ، يتوجه إليه كل من يمسه الأذى في جزء من أجزاء جسمه أو عرف ضيقا نفسيا(1).
وقد تعددت طرق التي رسخت هذه الظاهرة بين التنشـــئة الاجتماعية التي تتمثل بالأســـاس في السيرورة التي يتعلم منها الفرد كيف يربط طيلة حياته بـيــن مجوعـــة من العناصر السوســـيوثقافية للوســـط الذي يعيـــش فيـــه، وكيـــف يســـتدمج بالتالـــي تلـــك العناصـــر في بنيته الشـــخصية، ولعـــل التقاليـــد والعـــادات والطقوس التي تتأثر بها الأســـر مـــن حيث التفاعل المســـتمر مـــع الإرث الثقـــافي تنعكس في تنشئتها لأبنائها، وترســـخ نســـقا فكريـــا وثقافيا يُكســـبه الزمن مشـــروعية ليعتبـــر فيما بعد مكونا لا يتجزأ من البنية الشخصية لفرد ، إلى جانب المخيال الشعبي الذي أسهم ي بلورة ملامح "أضرحة الأولياء" بفضائها الشاسع ، ليتقدس و يتعاظم شأنه عند الناس .(2)
وتندرج هذه الظاهرة ضمن حقل "التدين الشعبي".و التراث الديني الشعبي يختلف عن الدين بمعناه الرسمي الصحيح ، فالتراث الديني الشعبي يتضمن تنويعات عديدة من الأفكار والتصورات والمعتقدات الشعبية والطقوس والممارسـات التـي تعكس نظرة الإنسان للعالم وترسم إطاراﹰ لعلاقاته ببعض الكائنات التي تتعدد وتتنوع ، فالأولياء من بنـي الإنسان يحظون بتكريم وتقديس الأفراد لهم ويحتلون مكانة كبـرى فـي المعتقـد الشعبي، أما الدين الإسلامي الصحيح فانه لا يعترف بمقامات أو أضرحة الأولياء فالإسلام ينكر تقديس الأشخاص، ويتم تحريم عبادة الأولياء اي هؤلاء "الحاملين "للبركة الذي توصل التدين الشعبي إلى اعتبارهم وسطاء شرعيين مع الله.
ويعد المغرب من أكثر الدول العربية والإسلامية احتضانا للأضرحة والمزارات حتى تكاد لا تخلو قرية أو مدينة من ضريح أو مزار(3)، وبلغت زيارة الأولياء والتبرك بهم درجة كبيرة من الترسيخ والانتشار في المجتمع المغربي حتى قيل عنه أنه "بلد المائة ألف ولي"، وأن أرضه تنبث الصالحين والأولياء كما تنبت الأرض الكلأ، وأنه يختلف عن البلدان المشرقية فإذا كانت بلاد المشرق هي بلاد الرسل والأنبياء فإن بلاد المغرب هي بلاد الأولياء.
ورغم ما يعرفه مجتمع اليوم من تطور وتقدم وانفتاح، والتجديد الذي دخل عبر المستحدثات التقنية إلى ميادين الحياة كافة، إلا أننا نلاحظ استقرار هذه الظاهرة وترسخ الاعتقاد بقدرات الولي وكراماته بل وتبرك بكل ما له علاقة به .
الطقوس الممارسة داخل الضريح :
الطقوس و الممارسات حول هده الأضرحة تعد ترجمة للأداء و الاعتقاد اتجاه هذه المعالم، وهنا تجدر الإشارة إلى رأي الباحث فراس السواح الذي ربط بين الطقوس والمعتقدات، فالمعتقد في رأيه مجموعة من الأفكار المتعلقة بالمعلم القدسي، والطقوس هي مجموعة من الأفعال المتعلقة بأسلوب التعامل مع هذا المعلم القدسي، ويعرف المعتقد على أنه هو الذي "يرسم صورة ذهنية واضحة وقوية التأثير للعوامل القدسية" وبالتالي يدفع الزائرين في حالة من الشعور الانفعالي إلى ممارسة الطقوس التي تمثل ترجمة لتلك الأفعال وهذا ما لاحظته أثناء تواجدي في ميدان الدراسة من خلال تعامل الزائرين مع ضريح الولي. والمتوافدين إلى الضريح سيدي يحيى والممارسون لطقوس الزيارة يعتقدون في وجود قوة الولي كما سبق وأشرنا وكأنه مازال حيا حاضرا.
ومن خلال معاينة الطقوس التي يمارسها الزوار داخل الضريح يلاحظ على وجه الزائر ملامح الخوف و الرهبة الممزوجة بمظاهر الحب و الطمأنينة يتخللها الخشوع و التذلل، ويغلب عليها الطلب و الرجاء و الأمل .
ومن هذه الطقوس :
أولا : نزع الحذاء : وهو ممارسة إلزامية ، ينبغي على الزائر أن ينزع حذاءه قبل دخوله إلى الضريح ، وذلك يعبر عن رمز التقديس و التبجيل .
ثانيا : بعد الدخول إلى الضريح يقوم الزائر بالطواف حول قبر الولي سبع مرات ـ في غالب الأحيان ، ويتم أثناء ذلك الدعاء للولي، ومن الزائرين من لا يقوم بالطواف فيكتفي بالوقوف أمام قبر الولي و الدعاء للولي كالطلب و الرجاء ، يرجو الولي أن يساعده في أموره و يقضي له حوائجه ، ويلاحظ ان بعض الزائرين من يجلس مقابلا للقبر ممسكا بالقماش المغطي للقبر ويلح في طلب الحاجة و أحيانا يصرخ و البعض يدعو في صمت. ويتم التمسح بضريح و الجدران وتقبيله .
ثالثا : النوم داخل الضريح : ويعتبر هذا الطقس علاجيا ، فالزائر الذي يريد التخلص من المرض ينام داخل الضريح لفترة معينة .
وهذه الطقوس التي بيناها حول الضريح لها دلالة بسيكوسوسيولوجية ، فهي طقوس هجاسية (4)و حيدة المنحى وليست دينية كونها تعبيرا رمزيا لحاجات و رغبات و مشاكل نفسية ومرضية اجتماعية معينة ، وقد وصفها فرويد في المشابهة البنيوية بين الطقس الهجاسي و الطقس الديني: " تبدو هذه الطقوس المتصفة فعلا بأنها محض سيكولوجية أو نفسية مرضية فهي لا تشكل جوهرا ولا طبيعة روحية" وهكذا يختلف الطقس الهجاسي عن الطقس المقدس ، إنما هي عبارة عن حركات جسمية مصحوبة بكلام تعبر عن شعور انفعالي نحو تفريغ التوترات النفسية الوجدانية و الخروج من الشعور الضيق على حد تعبير فريد .
خلاصة القول أنه وبمجرد السكوت على مثل هذه المعتقدات و استمرارها في حياة الناس يعتبر عائقا في حد ذاته وخطرا مهددا باستمرار لبرامج التنمية و التحديث، إلى الحد الذي يستحيل معه التوفيق بينها وبين أي شكل من أشكال التنمية الحديثة،فهي تلعب دورا كبيرا في إعاقة برامج ومشروعات التنمية المختلفة (الاقتصادية ، الاجتماعية، والصحية...الخ) وذلك لتأصلها ورسوخها في عقول الأفراد، فهي تكرس الجهل و التخلف بل تعد مظهرا من مظاهره.
----------------------------------------
1:يوسف إسماعيل البهاني،جامع كرامات الأولياء ، طبعة مصطفى البابي الحلبي،القاهرة،1962،ج1،صص 167ء166
2:سراج جيلالي : زيارة الأضرحة وأثرها في المعتقدات الشعبية "ضريح سيدي يوسف الشريف نموذجا"،رسالة ماجستير في الأنثروبولوجيا ،كلية الأداب و العلوم الإجتماعية جامعة ابي بكر بلقايد ،تلمسان ،الجزائر ،2015.ص:125.
3:أوسرار مصطفى : الأضرحة و مزارات الأولياء بالمغرب ، مجلة التقافة الشعبية، العدد33 ، 2016، صص 96 105.
4:الهجاس : هو نوع من الوسواس المرضي،تلعب الظروف الاجتماعية و الثقافية و ظروف الحياة دورا كبيرا في الإصابة بهذا المرض النفسي، ويصيب مختلف الطبقات الاجتماعية والثقافية و ظروف الحياة دورا كبيرا في الإصابة بهذا المرض النفسي، وينشأ بسبب صراعات لا شعورية.