من أجل ربح الرهان الذي يقتضيه عنوان هذه القراءة،أقترح عرض ما جاء في مقالة جيزيل سابيرو التي عنوانها الأصلي :"من أجل مقاربة العلاقات بين الأدب والإديولوجيا"،والتي نشرتها في المجلة الإلكترونية"contextes".لكن، قبل الشروع في عرض مضمون هذه المقالة يجدر بي تقديم نبذة عن كاتبتها. فهي من مواليد 1965 بباريس، مؤرخة فرنسية متخصصة في الأدب الفرنسي خلال القرنين التاسع عشر والعشرين .
تندرج اهتماماتها بالأدب في إطار مواصلة أبحاث بيير بورديو؛ السوسيولوجي الفرنسي الشهير. بعد إنجازها لعدة أبحاث حول إشكالية الالتزام لدى الكتاب الفرنسيين طيلة سنوات الحرب العالمية الثانية، ثم تحول اهتمامها إلى التداول العالمي للأفكار وما يخضع له من مؤثرات العولمة.أما الآن، فتشغل منصب مديرة أبحاث بالمركز الأوربي للسوسيولوجيا وتحاضر بمدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية. من كتبها الصادرة عن دار النشر"فايار"،هناك "معركة الكتاب،1940-1953" (1998) و"من أجل تاريخ للعلوم الاجتماعية" (2004) و"دفاعا عن بورديو"، بنفس التاريخ.
مهدت الباحثة لمقالتها بمقدمة ميزت فيها بين الحقل الأدبي وحقل الإنتاج الإديولوجي؛ حيث أشارت إلى أن مفهوم الإيديولوجيا المتحدر من الماركسية يثير انتباهنا إلى أن الأدب مرتبط، في جزء منه، بنسق من القيم؛ أي برؤية للعالم، وبالتالي فبإمكانه التعبير عن وجهة نظر المهيمنين أو عن وجهة نظر المهيمن عليهم في مجتمع معين. وبفضل هذه المقاربة، تحققت قفزة نوعية من البحث في مقاصدية الكاتب نحو المحددات الاجتماعية المتحكمة في ناصية عمله الإبداعي. لكن اختزال الأدب إلى بنية فوقية، إلى مجرد انعكاس للبنية التحتية لعلاقات الإنتاج، سرعان ما أدى إلى نفق مسدود. لذا، شرع الباحثون الماركسيون في سوسيولوجيا الفن والأدب في التساؤل حول الاستقلالية النسبية للآثار الأدبية والفنية إزاء الإيديولوجيات. وهكذا تنطلق الكاتبة من فكرة لفردريك إنجلز مفادها أن الحق متوقف على القضاة باعتبارهم يشكلون فريقا من ذوي الاختصاص، لتستنتج أن ماكس فيبر طور تلك الفكرة في مجال الدين حيث يفضي تخصص فريق من الفاعلين إلى قطيعة بين العلماء والعامة. وفي نفس السياق، تؤكد سابيرو على أن فيبر ودوركايم يجمعان على إمكان معاينة ذلك التطور في مختلف مجالات المجتمع من خلال تقسيم العمل الذي أدى إلى اختلاف وتمايز في الأنشطة.
إلى ذلك، تضيف الكاتبة أن بورديو ذهب بهذا التفكير إلى أبعد مدى، وذلك عن طريق اجتراح مفهوم"الحقل" الذي يقتضي استقلالية نسبية للإنتاج الأدبي إزاء الإكراهات الاجتماعية، الاقتصادية والسياسية والذي طبقه على الأدب مقترحا توليفا أصيلا بين المقاربتين: الفيبرية والماركسية.
أما بخصوص مفهوم الإديولوجيا، تتساءل الباحثة عما إذا كان من الممكن النظر إليه من نفس الزاوية. جوابا على هذا التساؤل تقرر أن هذا المفهوم يفترض فعلا نسقا من القيم متماسكا وجليا؛ قيم يستبطنها المهيمن عليهم على شكل "وعي زائف" حسب المقاربة الماركسية. لكن الإيديولوجيا لا تشكل نسقا قائم الذات إلا بالنسبة لجماعة محدودة من الأشخاص ذوي الاختصاص. لهذا- تقول جيزيل- استبدل بورديو هذا المفهوم بمفهوم آخر؛ألا وهو"الدوكسا"،أي مجموع المعتقدات التي تؤسس لرؤية للعالم وتجعله طبيعيا. تشكل هذه المعتقدات والبنيات الأولية لإدراك العالم وتقييمه والتأثير فيه ما دعاه بورديو بالسمت. إذن، فسيرورة استبطان كل هذه المعتقدات والبنيات تحيل على ما أسماه ب"العنف الرمزي".
يتكون مفهوم "العنف الرمزي من ثلاثة عناصر متزامنة ومترابطة:1-الاعتراف بمشروعية الهيمنة يؤدي 2- إلى عدم الاعتراف بتعسفها وبالتالي3- إلى رفض استبطان علاقه الهيمنة من قبل المهيمن عليهم. وهكذا تخلص الباحثة إلى أن هذا التعريف لمفهوم"العنف الرمزي"يفتح آفاقا أرحب للتفكيرحول العلاقة بين الأدب والإيديولوجيا. فليس الأدب مؤلفا فقط من هذه الأشكال الرمزية التي تسمح بتلطيف وتغليف مبادئ الهيمنة مع إضفاء المشروعية عليها.بل على العكس من ذلك، له (الأدب) القدرة على تعرية تلك المبادئ المستترة عبر عملية تفكيكية معاكسة.
في نهاية هذه المقدمة، تشير الكاتبة إلى أن مسألة العلاقات بين الأدب والإديولوجيا تستدعي إذن تحليلا سوسيولوجيا عبر ثلاث محطات لا يتم التمييز بينها إلا لضرورة منهجية بحيث يتعين إدراكها كثلاثة مستويات تؤثر بشكل متزامن على العلاقات هاتيك. ففي مقام أول - تقول سابيرو-،سوف يتعلق الأمر بدراسة شروط الإنتاج الأدبي،لاسيما نظام الإكراهات الخارجية التي تنيخ بكلكلها عليه؛ مثل درجة استقلالية الحقل الأدبي حيال حقول السياسة والدين والاقتصاد والإعلام. أما المستوى الثاني، فيهم العلاقة بين الأثر الأدبي ورؤية العالم لدى الكاتب وكذا نسقه القيمي. في حين يرتبط المستوى الثالث بمسألة التلقي.
يمكن تحديد الحقول الأدبية القومية اعتمادا على عاملين أساسيين وهما مستوى الليبرالية الاقتصادية ومستوى الليبرالية السياسية أو الإيديولوجية. انطلاقا من هذه الأطروحة، تكشف عن ميل العاملين إلى التقاطع فيما بينهما من الناحية التاريخية. من جهة ،كانت المراقبة الإديولوجية، في النظام القديم أو في ظل الأنظمة الاستبدادية، تقتضي ضبطا صارما للسوق ومراقبة حثيثة للتنظيمات المهنية. ومن جهة أخرى، كانت لبرلة المبادلات الاقتصادية، في الغالب، مصحوبة أو متضمنة في المطالبة بالليبرالية السياسية (حرية التعبير، حرية التجمع) والثقافية حرية الإبداع والاستهلاك)، وذلك منذ الثورة الفرنسية وحتى السياسة الليبرالية الجديدة للنصف الثاني من القرن ال19.
في الجانب المتعلق بالمراقبة المؤسساتية، ترتب الأنظمة الاستبدادية التي تكون فيها المبادلات الاقتصادية مضبوطة بإحكام والمنتجات الثقافية مراقبة كليا بواسطة جهازمصنوع لهذا الغرض و/أو عن طريق مركزة مؤسسات الإنتاج والتكريس.في مثل هذه لأنظمة، تكون الدولة أداة للمراقبة في خدمة أنظمة ذات طموح إلى الكليانية، سواء كانت دينية، فاشستية، أو شيوعية. هكذا يتحدد، إذن، العرض التقافي بالطلب الإيديولوجي للتشكيلات المهيمنة. وبقدر ما تتمكن هذه الأنظمة من امتلاك وسائل احتكارالعنف المشروع (جهاز إداري،قوات الأمن،إلخ) بقدر ما تكون مراقبة الإنتاج الثقافي أكثر صرامة.
وفي حديثها عن أدوات المراقبة الإديولوجية للمنشورات، تقول جيزيل سابيرو إنها معروفة جدا بحيث أنها تقيس درجة حدة المراقبة، شريطة أخذ الاستعمال المطبق عمليا بعين الاعتبار، لأنه قد يتم بهذا القدر أو ذاك من الصرامة. أولى تلك الأدوات الترخيص بالطباعة، وهي وسيلة للمراقبة أكثر انتقائية وأكثر كلفة (مثلا، الكنيسة الرومانية في العهد القديم). لقد أصبحت هذه المراقبة اللصيقة مستحيلة عمليا نظرا لاتساع نطاق سوق الكتب في القرن ال18. أما المراقبة التي تسبق النشر والتي تتم بواسطة الرقابة، فهي تنطلق من مبدإ معكوس( لاتمنع سوى الكتب المشتبه فيها)، لكنها تستدعي تنظيما شبيها بالأولى (مجموعة من الخبراء المتخصصين في ممارسة الرقابة). هذان الأسلوبان في ممارسة المراقبة على الإنتاج الأدبي يلتقيان غالبا في لجوئهما إلى أداة ثالثة وهي لائحة الممنوعات التي عادة ما يتم العمل بها في حالة حدوث تغييرفي نظام الحكم أو احتلال بلد أجنبي (مثلا، في فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية).
في هذا المستوى من البحث، تشدد الكاتبة على أنه ينبغي تمييز المواقف السياسية المتبناة بشكل صريح عن الإديديولوجيا أو عن بنيات التلقي والتقييم التي تحملها الإنتاجات الأدبية. هذه البنيات التي تحيل على قيم وأنظمة تراتبية للتصنيف (عال/سافل، جدير/حقير،نبيل/سفيه) متوافرة ليس فقط في الروايات ذوات الاطاريح التي شكلت موضوعا لدراسات رصينة، بل موجودة حتى في تلك التي تبدو ظاهريا غير مسيسة. وفي موضوع العلاقة القائمة بين بنيات التلقي لتي تبنين الأثر الأدبي وتلك التي تؤلف الإيديولوجيا السائدة، تخبرنا الكاتبة بأنها (العلاقة) شكلت موضوعا للمقاربة الماركسية عند لوسيان غولدمان بالخصوص، كما أنها في صلب أبحاث النقد الاجتماعي عند مارك آنجونو الذي يقيم علاقة بين الكتابات الأدبية و"الخطاب الاجتماعي". وإذا كان الأول يفترض استقلالية نسبية لبنية الدلالة وبالتالي تماسكا وانسجاما في العمل الأدبي، فإن الآخر يهتم، على خلاف ذلك بما تشترك فيه الآداب مع الأنماط الأخرى من الخطاب في المجتمع. من هنا، يرجع الفضل إلى آنجولو في تجاوز التعارض، الإشكالي من وجهة نظر سوسيولوجية، الذي يحاول النقد الاجتماعي إقامته بين الأدب و"الخطاب الاجتماعي".
على المستوى الفردي، تعتبر رؤية العالم التي يوظفها كاتب ما في إنتاجه الأدبي، بدون علمه أحيانا، تمرة لسمته، أي لمجموع الاستعدادات التي تؤهله لتمثل العالم والتصرف وفق بنيات إدراكية وفعلية وتقويمية. هذه لاستعدادات تم اكتسابها خلال التنشئة الأولية في الوسط العائلي وخلال التنشئة الموالية في أطوار الدراسة.ومن الثابت علميا أن البعض من هذه لاستعدادات يستمرفي بنينة السمت، علما أن ملكة التكيف مع التحولات تعد في حد ذاتها استعددا لايستهان به.
في إطار المقارنة بين الأنظمة الليبرالية والأنظمة الاستبدادية فيما يخص الموقف من مراقبة الإنتاج الثقافي، تبرز الباحثة مفارقة تتمثل في كون الأنظمة من الصنف الأول تتميز، على نحو مثير، عن نظيراتها، من النوع الثاني عندما تطالب بحرية النشر، حيث يتم الانتقال من الأسلوب الإنذاري إلى الأسلوب القمعي. ذلك أن هذه الحرية تكون متناغمة مع قيود تختلف من حيث الأهمية وتترتب عن خرقها عقوبات زجرية. ويمكن تصنيف هذه القيود إلى سياسية وأخلاقية، إلا أن الصنفين متداخلان؛ إذ يلاحظ أن الأخلاق العامة" والتقاليد تعتبر تعابير من وحي الإيديولجيا السائدة. كما أن مستوى الليبرالية يختلف باختلاف المراحل وحسب هذا القدر أو ذاك من الصرامة المعتمدة في تطبيق هذه القوانين في مختلف المراحل، خصوصا في أوقات الأزمات (حروب، نزاعات اجتماعية، إلخ..). إما بالنسبة للأنظمة الاستبدادية، لاتمارس المراقبة فقط بواسطة الإنذار والقمع أو باستعمال وسائل اقتصادية مثلما هو الشأن في القانون الفرنسي لعام 1850 الذي يفرض غرامة مالية على كل جريدة نشرت رواية عبر سلسلة من المقالات)وفضلا عن المنح والمكافآت المقدمة بشكل مباشر للكتاب الأكثرإخلاصا، تستعمل أساليب مهمة في المراقبة، مثل تركيز وسائل الإنتاج وتوحيد المهنة ومراقبة الهيئات المهنية والتأطير الإيديولوجي. وبما أن هذه الأساليب تضمن تجانسا في اختيار الموظفين، فإنها تسمح بالحد من السلوكات الشاذة وكذلك بمطاردتها بأسرع مايكون.هكذا، فرضت الأنظمة غير الليبرالية شكلا من التنظيم المهني للمثقفين أتاح فرص تجويد المراقبة الإديولوجية للإبداع الثقافي، وفي الأنظمة الشيوعية، كانت اتحادات الكتاب، المؤسسة على النموذج النقابي، هيئات ممركزة ومهتمة بمراقبة النشر والتكريس في آن واحد بواسطة مجلاتها وجوائزها. من الناحية الرسمية، لم يكن كل هؤلاء منخرطينفي الحزب الشيوعي،لكن الكتاب الشيوعيين الذين يشكلون نواة صلبة ضمن تلك الاتحادات، كانوا يمارسون مراقبة إيديولوجية لصيقة، وظل استقلالهم الصوري استقلالا وهميا. إن هذه الأنظمة تريد، فضلا عن المراقبة، توجيه الإنتاج الثقافي مع تكليف الأدب بمهمة بيداغوجية تتمثل منهجيتها بالضرورة في "الواقعية الاشتراكية".
وصولا إلى الاستراتيجيات المتبناة من قبل الكتاب لتفادي تلك الإكراهات في أنظمة استبدادية مغايرة، تشير سابيرو إلى أننا نعاين تشكل منطق مجالي يتقابل ضمنه المهيمنون - الماسكون بوسائل احتكار التكريس الرسمي- مع المهيمن عليهم الذين يقاومون الهيمنة. ومع ذلك، يتوفر هذا الحقل على استقلالية ضعيفة، لأن منطق بنينة الحقل محكومة بالتعارض السياسي بين التقليدانيين الخاضعين للإيديولوجيا السائدة وبين المرتدين المنشقين.هكذا،يتم اللجوء إلى الرمزية والاستعارة والتلميح، وثصبح الإحالة إلى أزمنة تاريخية وأمكنة جغرافية استراتيجية رائجة؛ استعملها، مثلا، الشعراء الفرنسيون في عهد نظام فيشي وكذلك المعارضون للأنظمة الشيوعية.
في القسم الأخير من مقالتها المطولة، تطرقت الكاتبة لإشكالية التلقي الذي تعتبره نتاج أنماط التعميم والنشر: نص مواز (مقدمة، ملحق)، حامل صحافة، مقال في مجلة مختصة، كتيب، كتاب)..إلخ. وقد يمكن لظرفية المحيط العام توجيه تلقي نص من النصوص وجهة مختلفة عن مقصد الكاتب، خاصة في الفترات التي تشهد حجرا على الكلمات. لهذا السبب امتنع عدد من المثقفين الفرنسيين طيلة الاحتلال الألماني لفرنسا من نشر إبداعاتهم في الجرائد.
وبصرف النظر عن التنظيمات السياسية التي من المتوقع أن تكون قراءتها للأعمال الأدبية قراءة إديولوجية، تأتي الكاتبة على ذكر هيئة مهنية من قبيل أكاديمية "غونكور" التي تستطيع ممارسة شكل من الرقابة قد يتخذ طابعا لغويا أو إيديولوجياأو "عنصريا" حسب ما ما توحي به المنازعات حول هذا العنوان أو ذاك. هكذا نجد -كما تقول سابيرو- المؤسسة المذكورة ترفض منح الكاتب رونيه ماران جائزتها عن روايته "با توالا" لأنه انتقد الإدارة الكولونيالية ولأنه بالأحرى أسود اللون. أما عن التلقي المرتبط بالنقد، تبادر الباحثة إلى التمييز بين الأحكام التي تتناول الكتابات اعتمادا على درجة تسيسها ودرجه استقلالها. يتوقف هذا التمايز على وضع الشخص الملقي للخطاب النقدي في الحقل الأدبي. فبقدر مايحتل هذا الناقد وضعا مهيمنا، بقدر ما يكون خطابه لامسيسا. وبالمقابل، كلما كان وضعه في مرتبة أدنى إلا واتجه خطابه إلى التسيس والتنديد بالنزعة المحافظة والطابع الأكاديمي في وجهات نظر المهيمنين. إضافة إلى ذلك واعتمادا على معيار آخر، كلما كان الخطاب النقدي تابعا إلا واهتم بمضمون العمل وبمظاهره الإديولوجية. وعلى خلاف ذلك، كلما كان مستقلا إلا وركز على الشكل والأسلوب. إذن، يؤدي تقاطع هذين المحورين إلى التمييز بين اربعة أنماط من الأحكام على الأدب: أخلاقي، جمالي، سوسيو-سياسي، تدميري.