".. المجتمع مثل كائن للتآمر، يبتلع الأخ الذي يملك الكثير منّا مبررات احترامه في الحياة الخاصة، ويفرض مكانه ذكراً متوحشاً ذا صوت يزمجر وقبضة قاسية (...) يستمر في طقوسه الصوفية، وقد تحلى بالذهب والأرجوان وتزين بالريش المتوحش، متمتعاً بالملذات المشبوهة للسلطة والهيمنة، فيما نحن نساؤ(ه) يُغلق علينا في منزل العائلة، من دون أن يُسمح لنا بالمشاركة ". V. Wolf
تقديم
تمثل الهيمنة موضوعاً أساسياً انكبّ عليه بيير بورديو (Pierre Bourdieu) درساً وتحليلاً[1]، قبل مؤلفه الذي يحمل اسم "الهيمنة الذكورية"[2]بسنوات عديدة، وذلك في سياق تشريحه للعلاقات القائمة بين الأفراد في مختلف حقول العالم الاجتماعي/ المجتمع، وليس فقط في الحقل السياسي أو السلطة السياسية كاختزال سافر لمعاني الهيمنة؛ لأنّ أكثر الحقول التي لا تعلن عن نفسها كحقول هيمنة واستعباد إنّما تستثمر كلّ أدوات التخفي والاحتجاب لتمارس التقنع والمخاتلة والمراوغة والخداع.
نحن إذن أمام عنوان دال ممتد وعميق، فـ "الهيمنة الذكورية" مفهوم يختصر واقعاً قائماً لا يساهم فيه الذكور وحدهم وإنما الإناث أيضاً وبشكل لا واع، إنّه اشتراك الضحية والجلاد في تبنّي التصورات والمقولات التصنيفية ذاتها، ممّا يسمح بالحديث عن إعادة إنتاج الهيمنة والمحافظة عليها بل وتأبيدها.
بالتوقف عند مقدمة الكتاب، نجد صاحبه يقرّ بصعوبة الموضوع البحثي، ويعتبره مغامرة منه سبقها تردد كبير، لأنّه كان مدركاً ليس فقط للصعوبات التي تخترقه وإنّما للأحكام والتصورات التي تلفّه، الواعية منها واللاواعية حتى لدى كبار الباحثين. وفوق كلّ ذلك فهو مجال ظلّ محتكراً من قبل النساء في سياق امتزج فيه ما هو ذاتي بما هو موضوعي، لدى جلّ الكتابات النسائية التي أقحمت الدفاع السياسي داخل الحقل العلمي[3[ .
ولتمتعه بالحذر السوسيولوجي الكافي، تنبّهبورديو لهذه المنزلقات؛ ولأنّه رجل لا امرأة لم يكن متورطاً بشكل ذاتي في تناول الشرط النسوي، أمّا عن إحساسه بالتعاطف كإنسان فقد ظلّ خارجياً، الشيء الذي أهّله في النهاية لإنجاز تحليل هادئ ورصين وأكثر عقلانية.
لا يعني ذلك أنّه تنكر للكتابات النسائية أو لأهميتها، وإلا لماذا أقرّ باستناده إليها؟ إنّما الخلاف في موضعة المسافة من الموضوع والذات الباحثة نفسها. لذا نجده ما يفتأ يضيف أنّ عمله ثمرة تفكير طويل غطته أبحاثه السابقة التي اتخذت من كشف آليات الهيمنة والرمزية تحديداً هدفاً لها [4[ .
من هنا يفتتح مؤلفه بسؤال إشكالي: كيف يمكن لنظام الكون باتجاهه الأحادي والممنوع وما يمثله من التزامات وعقوبات أن يكون محترماً رغم ذلك؟ ثم كيف تراه يتأبّد وهو النظام ذاته الذي يحمل من العنف والهيمنة وإهدار حق الغير ما يحمله؟
للإجابة عن هذه الأسئلة وأخرى، انتهز بورديوفرصة ميدانية ثمينة لاختبار فرضياته النظرية، منطلقاً من "قبايل" الجزائر كنموذج للهيمنة الذكورية، ساعياً لتوضيح أنّ الاختلافات الجسدية /البيولوجية بين الذكور والإناث لا تشتغل إلا كتأكيد بل تبرير مبنيِن (بكسر الياء) للاختلاف الطبيعي بين النوعين، بعدها يأتي دور الآليات التاريخية لتؤبد بنيات التقسيم الجنسي الذي رسّخه النظام المجتمعي. وباستدماج الرجل والمرأة للبنيات الثقافية الذكورية في شكل ترسيمات لا واعية من الإدراك والتقييم (Perception et Appriciation)، تزداد صعوبة التفكير في صنف هذه الهيمنة ما لم تتم الموضعة (Objectivation) العلمية لذات الموضعة العلمية نفسها (Objectivation du sujet de L’Objectivation Scientifique) أي استكشاف مقولات الذهن وأشكال التصنيف اللامرئية والتي بها يتم بناء العالم [5[ .
لهذا ولاعتبارات عديدة منها غنى المعلومات والبيانات وكثافة الأفكار وعمق التحليل الذي يميز هذا المؤلف، اخترنا لورقتنا ألا تكون مجرد تلخيص له، وإنّما قراءة لأفكاره وطروحاته، من خلال مداخل كبرى[6]نعتبرها مفاتيح أساسية للفهم، وهي: مدخل المقاربة بالسلطة ومدخلالتاريخ ومدخل الاثنولوجيا، ومدخل التحليل الاقتصادي للسلع / الخيرات الرمزية، والمدخل النتيجة إعادة الإنتاج. لكن كيف يمكن أن نقوم بقراءة لمؤلف هو في الأصل قراءة للهيمنة الذكورية؟
لا شك أننا سنكون أمام قراءة - ممكنة من بين أخرى عديدة بالتأكيد- لقراءة نجدها خاصة وجريئة وصادمة، إلى الحد الذي اتهم صاحبها بكونه ليس عالم اجتماع وإنما هو منظّر فقط للهيمنة. إنّ هذه الوشاية نعتبرها شهادة على قدرة الرجل الدقيقة على فحص الهيمنة وتشريح أشكالها الأكثر احتجاباً واختفاء، بعدما طوّع قبلاً أدواته المنهجية المتنوّعة، وشحذ مفاهيمه الخاصة لكشف هيمنة المدرسة والنظام التعليمي وأماط اللثام عن براءة اللغة والنظام المجتمعي، فاضحاً تورط هيئات عديدة في إنتاج وإعادة الهيمنة التي تمثل الذكورية، هاهنا إحدى صورها.
ولئن كان الإيضاح عبر الفضح ينتمي حصراً إلى حقل السوسيولوجيا - كما يؤكد بورديو - فهل تراه وفّق في فضح طرق اشتغال الهيمنة الذكورية وكشف منطقها الداخلي؟
1-مدخل المقاربة بالسلطة
اتجه بورديو إلى تفكيك الهيمنة والخضوع كجدل يقوم بين قطبي المعادلة: الرجال والنساء، وذلك في سياق ما يسميه بـ "العنف الرمزي" كمفهوم بلوره في دراسات سابقة. والحال أنّه ليس مجرد مفهوم بل نظرية قائمة[7] تتضمن قطيعة تامّة مع التصور الشائع الذي ينطلق من أنّ العنف الرمزي أخفّ من العنف المادي، مادام "الرمزي" يحمل تعارضاً اصطلاحياً مع الواقع المادي أو العيني. كما أنّ الانجرار وراء هذا الفهم الاختزالي ينسينا واقع نساء عديدات يتعرضن لكلّ أصناف العنف والاستغلال[8[.
قد يكون عنفاً ناعماً لا محسوساً، مادام غير مرئي ولا ينتبه له حتى من قبل ضحاياه[9]، لكنه في كلّ الأحوال قائم وواقع، ترسخه الثقافة بتحويله إلى ترسيمات (Schemes) لا واعية، يمتد عملها إلى تقسيم الأشياء والأشكال، محمّلة بعلاقات الهيمنة والاستغلال، مفردة للمذكر ما لا تفرده للمؤنث؛ من هنا يجد فيها هذا العنف كلّ الشروط الكافية والضرورية لاستدامته[10]. وعليه فـ "أساس العنف الرمزي لا يكمن في الضمائر المخدوعة التي يكفي تنويرها، بل في استعدادات معيرة على بنى الهيمنة"[11]. ثم إنه لا يتحقق إلا من خلال "فعل معرفة وجهل عملي يمارس من جانب الوعي والإرادة، ويمنح "سلطته المنومة" إلى كلّ تمظهراته وإيعازاته وإيحاءاته وإغراءاته وتهديداته ومآخذه وأوامر دعوته إلى الانضباط"[12[.
إنّ القوة الرمزية تمارس على الأجساد بشكل مباشر، دون أن تكون بالإكراه الجسدي السافر، لأنّ لها مفعول السحر الذي يستطيع أن يتغلغل فينفذ إلى أعماق الجسد. إنّه عمل تحويلي يزداد قوة بقدر ما يمارس بأسلوب لامرئي.[13] إنّها قوة متحجبة ومتقنعة، وما يجعلها كذلك هو تواطؤ البنيات الثقافية ممثلة في التصورات والقيم إضافة إلى الجهل، كما تعززها هيئات قائمة كوسائل الإعلام والمعرفة والاتصال.
على هذا النحو، تأخذ الرجولة ذاتها بعداً عنيفاً، حينما يتمّ التعامل مع العضو التناسلي الذكري كسلاح، وهو ما نجده في خطابات الثقافة الشعبية، وقد تأخذ أبعاداً عنيفة أكبر في أعمال الاغتصاب الجماعي للمراهقين أو في الألعاب الصبيانية والتفاخر بأعضاء تناسلية ذكورية قوية وكبيرة. إنّ الرجولة بهذا المعنى عملية إثبات أمام الآخرين، لذلك فهي تستوجب اعتراف الآخرين كعنف حالي أو محتمل ومصادق عليه من قبل مجموعة من الرجال[14]، كما تشي بذلك تفاصيل ليلة الدخلة كطقس اغتصابي مقنّع
يصادق عليه النظام الاجتماعي وتباركه الثقافة.
2- التاريخ ضدّ لا تاريخانية الهيمنة
لنزع الهيمنة الذكوريّة من التاريخ، أوضح بورديوأنّ عنفها الرمزي نتاج لعمل تاريخي لا يتوقف، ساهمت فيه مجموعة من المؤسسات، بدءاً من الأسرة والمدرسة إلى الكنيسة والدولة[15]، وفي مستوى آخر الرياضة والصحافة؛ ليأخذ التفاوت بين الذكور والإناث بعداً طبيعياً وجوهرياً.
ولأنّه لا يفلّ الحديد إلا الحديد، يصبح التحليل التاريخي ضرورة لا مندوحة عنها لنزع البعد اللاتاريخاني للتفاوت المراد تأبيده[16]، باستهداف القوى ذاتها المسؤولة عن التأبيد بتحييد التاريخ، لذا لا مناص من "تحييد آليات تحييد التاريخ" و"إعادة بناء العمل التاريخي النازع للتاريخانية"، أو بشكل أوضح، إعادة بناء التاريخ الخاص بالهيمنة بوصفه مرتبطاً ببناء اجتماعي مكرّر ومستعيد لمبادئ الرؤية والتقسيم المولدة للنوعين[17]. فمن الواضح أنّ تاريخ البنيات الموضوعية والذاتية للهيمنة الذكورية يتمّ إنتاجه وإعادة إنتاجه جيلاً بعد جيل، بشكل يبدو لنا فيه تاريخ النساء ثابتاً وتابعاً على الدوام للذكور وفقاً لتقسيم جنسي للعمل.
ولأنّ: "كلّ ما هو أبدي في التاريخ ليس سوى نتاج عمل تاريخي بالتأبيد"، فلا يمكن تصور أيّ تغير طارئ في الشرط النسوي ولا حتى فهمه بعيداً عن تحليل تحول الآليات والمؤسسات الموكول إليها تأمين تأبيد نظام النوعين الذكر والأنثى.[18[
إنّ الهيمنة الذكورية ليست مجرد تسمية كلامية، كما لا يمكنها أن تمّحي فقط بفعل سحر مجلّي[19]، ما دامت التعارضات التي تجسدها بين الذكور والإناث تجد رعايتها وتعزيزها في الثقافة المؤبدة، ضدّ كل التبجّحات التي مثلها فلاسفة ما بعد الحداثة ممن أنكروا الثنائيات وادّعوا تجاوزها، بينما هي متجذرة في الأجساد والبنيات اللاشعورية الاجتماعية والتاريخية.[20[
3-الإثنولوجيا خيار ميتودولوجي لسوسيولوجيا العمق
بُني العالم الاجتماعي في كليته على الهيمنة الذكورية، فهي متناثرة في كل مناحي الحياة الاجتماعية، مما يجعل الوصف الإثنولوجي الذي اعتمده بورديو بمثابة جهد أركيولوجي تاريخي، لفهم اللاوعي المحدد للهيمنة، الذي يمثل في نظره حالاً قديمة للمجتمعات الغربية الأوروبية[21]. ولأجل تفكيك المعتقد الاجتماعي والثقافي في سمته المفارقة وكذلك السيرورات المسؤولة عن تحول التاريخ إلى "طبيعة" ثابتة وتحويل الاعتباطية الثقافية إلى "طبيعية"، تسلّح بأدوات الإثنولوجيا كخيار ميتودولوجي، مبيناً أنّ الاختلافات بين "المذكر" و"المؤنث" مبدأ اعتباطي وطارئ. فالثقافة هي التي عملت على تذكير الجسد لدى المذكر وتأنيثه لدى الأنثى، كعملية ممتدة ومستمرة لاستبدان (Somatisation) لا يوجد مفصولاً عن عملية ترويض للأجساد وإلزامها مجموعة من الاستعدادات التي تناسب الذكورة والأنوثة، في شكل يقترب من الدخول في لعبة اجتماعية محددة.[22] وصادقت على هذا التجلي السحري مجموعة من الطقوس فيما يشبه الولادة الجديدة، لذا فالمقاربة الجديرة بدراسة البعد الرمزي للهيمنة، سوسيولوجياً، لن توفرها سوى أدوات الإثنولوجيا بامتيازات مضاعفة.
ويستشهد بورديو بـ "فرجينيا وولف" بشأن مفهومها "للسلطة التنويمية للهيمنة" موضحاً أنّ فصل النساء يمتد إلى طقوس مجتمع متقادم/عتيق، هنا تصبح المماثلة الإثنوغرافية ذات أهمية كبرى[23] لبناء أركيولوجيا موضوعية في لا شعورنا بالمقارنة بين حوضي البحر الأبيض المتوسط، بل إنّ استدعاءها يسمح بالموضعة العلمية للعمليات الغيبية والطقوسية التي تنتج التقسيم الجنسي، حيث يشتغل مبدأ المركزية بقوة وبدعم من التقاليد القبلية.
إنّ الإثنولوجيا مقاربة تؤسس للتحليل السوسيولوجي العميق، وهذه القناعة الميتودولوجية سبق لبورديو أن خبرها في دراسة سابقة هي "الحس العملي".[24] موضحاً أنّ الجسد، وأعضاءه الجنسية تحديداً، نتاج لبناء اجتماعي تمّ تطبيعه (Naturaliser) بالاقتصار فقط على الاختلافات السطحية والظاهرة للذكر والأنثى جسدياً[25]. فالتقاليد المطقسنة التي تطبع اللامساواة في سياق هيمني ينتصر للذكور تحمل قدراً كبيراً من المخادعة، حينما تتجه إلى توحيدنا بتقاليدنا وعاداتنا الخاصة، ينضاف إليها خداع المظاهر البيولوجية والآثار الفعلية التي تنتج في أجساد وعقول الأفراد. وهكذا فإنّ التنشئة الاجتماعية لما هو بيولوجي تجعل في الواقع ما هو اجتماعي بيولوجياً، وهنا يقع الالتباس. أي أنها تنتهي إلى قلب العلاقة بين الأسباب والنتائج، مفرزة بناء اجتماعياً مطبّعاً، وهابيتوسات مجنّسة (Sexué) كأساس عيني للتقسيم الاعتباطي[26[.
إنّ الدلالة العميقة للهيمنة تسكن الجسد من خلال مفهوم "الجسد المنشأ اجتماعياً" (Le Corps Socialisé)، ويسمح لنا هذا المدخل الأنثروبو- كوسمولوجي بالحديث عن طوبولوجيا جنسية للجسد. ففي مجمل حركاته وسكناته يحمل هذا الأخير دلالات اجتماعية، "فالحركة نحو الأعلى تقترن على سبيل المثال بالمذكر، مع الانتصاب أو بوضع الفوق/الأعلى في الفعل الجنسي".[27]هكذا يبدو تقسيم الأشياء والأنشطة الجنسية، وكأنّه محض اختلافات في الطبيعة الخاصة ببن المذكر والمؤنث على نحو كوني، والحال أنها بناء اجتماعي صرف وفروق يطبّع عليها الأفراد. هاهنا يكمن الخطأ بل الوهم الضخم ذاته، لأننا نصرّ على أنّ التقسيم الجنسي بين الذكور والإناث قائم في الأشياء كـ "نظام طبيعي"؛ فنتعامل معها على أنها عادية وطبيعية، ناسين دور الطقوس والنسق الأسطوري في ترسيخها[28] وإلباسها لبوساً طبيعياً يهبها كامل الشرعية، متناسين أنّها تقسيمات اعتباطية في الأصل.
ولعل ما يتمّ تناسيه أكثر هو عمل الآليات العميقة للنظام الاجتماعي التي توثق تطابق البنيات المعرفية والموضوعية، بشكل يستند فقط إلى الوعي المحض أو نظام التمثل القصدي الأقرب إلى إيديولوجيا أو خطاب مفصول عما يبرره؛ فقوة النظام الذكوري إذن تكمن في قدرته على تقديم نفسه باستغناء عن أي تبرير، "فالرؤية المركزية الذكورية تفرض نفسها كأنها محايدة، وأنها ليست بحاجة إلى أن تعلن عن نفسها في خطب يهدف إلى شرعنتها"[29[.
ويذهب النظام الاجتماعي بعيداً في الربط ما بين الرجولة بمعناها الأخلاقي وما يماثلها جسدياً، ليبلغ التطابق ذروته ما بين "الجسماني والأخلاقي"[30[، فصورة الجسد ترسّخها الثقافة والتمثل الشائع، وفضائل كالقوة والشرف والأنفة لا توجد مفصولة عن الفحولة الجنسية والقدرة على اختراق بكارة العروس ليلة الدخلة والإنسال الكثير والذريّة الغزيرة...[31]. فالانتصاب الذكري مثلاً هو امتلاء وخصوبة ضد الفراغ والعقم. ومتى كانت الأعضاء التناسلية للذكر رخوة، كان ذلك مدعاة للطعن في ذكوريته واقترابه من الأنثى، وهو ما تعكسه صيغ الاستهزاء (المدلي - خرقة - جربوب...). لهذا أيضاً "يميل الرجال إلى التعبير عن استيائهم من أجزاء أجسامهم التي يعتبرونها صغيرة بإفراط"[32[.
أمّا الأخلاق النسوية فتمثلها جسدياً الطأطأة والانحناء والانحدار والتذلل والامتثال وكافة الأعمال التي تكرّس وضع التقوس؛ هكذا أيضاً يشير التأنيث في اللغة القبايلية إلى كل ما هو صغير، "كما لو أنّ الأنوثة تقاس بفن أن تجعل من نفسها صغيرة"[33] مقابل فخامة الذكور،وللسبب ذاته "توجه النساء نقدهن نحو أجزاء من أجسادهن تبدو لهن كبيرة بإفراط"[34[.
وفقا للنسق ذاته/الرؤية يصبح جسد الأنثى محاصراً بالامتناع عن الكلام أمام الملأ وعدم رفع عينها للأعلى، أمّا الكلمة الوحيدة التي تناسبها فهي: "لا أعرف"، خلافاً للكلام الذكوري الذي يتمتع بصفتي الاسترسال والحسم. تفرض عليها أيضاً ملازمة أماكن سفلية كالممرات الجانبية للطريق وتخصص لها أعمال أقلّ قيمة، كما يلزم جسدها بحركات ترسخ وضع الانحناء والعمل بأذرع مطوية إلى الصدر، وباستحضار رتابة الأعمال والطقوس التي ترافقها، يتأصل إكراه النظام الاجتماعي في بنيات الجسد محدداً بنظام فيزيائي مواز له. فالمساحة المخصصة للنساء ضيقة، واللباس الأنثوي يحاصر حركاتهن ويفرض عليهن طرقاً خاصة في الجلوس والحركة ومزاولة أنشطة دون أخرى، وكلما كان مظهره محافظاً كان ذلك مؤشراً أخلاقياً على استقامتهن المناسبة وفقاً للثقافة.
يؤكد بورديو أنّ الحصار الأخلاقي المضروب على الجسد النسوي ما زال قائماً حتى في المجتمعات الحداثية كفرنسا مثلاً، بعد أكثر من نصف قرن من الحركة النسوية، منتقداً الادعاء المبالغ فيه بتحرر النساء، متحدثاً عن "استعراء مراقب" لحركات جسدهن. فعمق التبعية الرمزية للنساء يكمن في كونهن موضوعات رمزية مدركة في حال من عدم الأمان الجسدي، تلخصه عبارة "إنهن موجودات من أجل الآخرين ومن أجل نظرتهم"، لذا ينتظر منهن أن يكنّ باستمرار لطيفات وودودات ومحتشمات. أمّا الأنثوية المزعومة فليست سوى شكل من المجاملة إزاء انتظارات ذكورية؛ هكذا تتجه علاقة تبعيتهن للآخرين لأن تصبح مكوّناً من مكونات كيانهن.[35[
وحتى في الأوساط البورجوازية، حيث تتحول الرياضة إلى تشكيل للجسد وفق الصورة التي يرغبن فيها، فمن الصعب أن نزعم ببلوغهن فكرة"الجسد من أجل الذات" وتجاوز "الجسد من أجل الآخرين"، لأنهنّ يبقين في وضعية "إكراه مزدوج"[36]، فمتى تصرفن أو أصبحن مثل الرجال بابتعادهن عن الصورة التي يطلبها منهن المجتمع فسوف يعرضن أنفسهن لخسارة صفات الأنوثة، أمّا إذا تصرفن على غرار باقي النساء فمرّة أخرى سيظهرن عاجزات.
إنّ للطقوس دوراً كبيراً في مأسسة النظام الذكوري بطابعها الاحتفالي والخارق، هادفة إلى إقامة فصل مقدّس بين الذكور والإناث، اللائي يبعدن من علامات خاصة كالختان المؤسس رمزياً للذكورة، برسم حدود دقيقة وبعلامات خارجية للتميز الجنسي، تطابق التعرف الاجتماعي لكل جنس. هنا أيضاً نستحضر الأدوار الطفولية التي تحمل الكثير من الدلالات والتشخيصات المثقلة بمعاني الفحولة والهيمنة القضيبية للذكور. وكذلك طقوس "الانفصال" التي تحث الصبي على ضرورة التحرر من علاقته بأمّه خوفاً على رجولته وتذكيره (Masculinisation) من كلّ تأنيث يحيق به.
إنّ انتزاع الهويّة الذكورية إذن يتمّ بتنظيم من الجماعة، وذلك بتشجيع هذا الانفصال عبر سلسلة من طقوس التنصيب الموجهة للترجيل (ٍVirilisation) بدءاً من حلق شعر الرأس مروراً بالألعاب والألبسة الذكورية والتمنطق بالخنجر وصولاً إلى رياضات خاصّة كالصيد، قطعاً مع العالم الأمومي للفتيات القريبات من أمهاتهن[37].
على هذا النحو، يبدو أنّ للنظام الذكوري قوة راكمها من خلال عمليتين: شرعنة علاقة الهيمنة، ثم تأصيلها في طبيعة بيولوجية هي نفسها بناء اجتماعي مطبّع[38]. لهذا نعود للقول: إنّ اعتماد الإثنولوجيا كمقاربة تحليلية كان اختياراً موفقاً نزع البعد الطبيعي من التقسيم الجنسي، وفضح النظام الاجتماعي الذي يطرح نفسه كنظام طبيعي، كما كشف مسلماته وثوابته الهيمنية المرسخة للتصور المحافظ حول "أسطورة المؤنث الأبدي".[39]
4- التحليل الاقتصادي للسلع الرمزية
انتقد بورديو في أكثر من موطن التحليل المادي الذي يفسّر التناظر بين الجنسين بظروف الإنتاج، مؤكداً على تحليل مادي خاص بـ"اقتصاد المتاع الرمزي"، في محاولة للانفلات من الثنائيات النمطية: مادي/روحي، موضوعي/ذاتي، معتبراً أنّ الفهم الحقيقي للعنف الرمزي يأخذ مكانه ضمن"النظرية المادية لاقتصاد السلع الرمزية"، حيث يوجد موقع مهم لموضوعية التجربة الذاتية لعلاقات الهيمنة.[40]
إنّ النظام الاجتماعي يصور النساء كأشياء، وفقاً لمبدأ الدونية والاستبعاد الذي يضخمه النسق الأسطوري الطقوسي في سياق يقسّم الكون إلى ثنائية ضديّة[41]، كما أنّ السوق الزواجية ذاتها تكرّس هذه الهيمنة، لتبدو المرأة مجرد شيء أو في أفضل الأحوال رمزاً، مادام المعنى يتشكل خارجها بالضرورة، بل إنّها تساهم في تأبيد وزيادة هذا الرأسمال الرمزي الذي يتحكم فيه الرجال. أمّا حينما يسكن الزوج في منزل عروسه لا بمنزل الزوجية فإنّه يتحول بدوره إلى شيء، أي إلى "أقل من رجل"، واضعاً شرفه موضع تساؤل.[42]
إنّ منطق التبادلات الرمزية المتحكم في بناء العلاقات الاجتماعية والقرابة والزواج، يحوّل النساء إلى مجرد أشياء للتبادل تحقيقاً لمصالح الرجال، أي بلغة بورديو، إلى "وسائل رمزية للسياسة الذكورية"، ولحقن الاقتتال والعنف الذكوري تتعرض النساء للعنف بالمقابل. أمّا إذا استحضرنا البعد الشبقي لهذا التبادل الذي يشبه تبادل النقود، فإننا نستطيع أن ندرك عمق العنف الذي يتضمنه التبادل الشرعي أيضاً للنساء الشرعيات.[43]
وخلافاً للقراءة التي أعطاها ليفي ستراوسلعملية تبادل النساء، بوصفه تواصلاً[44]، يعتبر بورديو أنّ هذا التفسير يحجب البعد السياسي للمعاملة الزواجية بوصفها علاقة قوى رمزية، تهدف إلى الحفاظ أو الزيادة في القوة الرمزية، محوّلة النساء في النهاية إلى هبات. هكذا يتحول الصراع بين الرجال كذوات حول النساء كموضوعات للتبادل، وهنا أيضاً يتحول الرجل إلى سيد مسؤول عن الإنتاج والمرأة إلى منتوج محوّل (بفتح اللاّم) للعمل، يتم استبعاده من الأماكن العامة، حيث تمارس اللعبة الأكثر جدية في الوجود الإنساني[45].
لقد ظلت النساء، في المجتمعات الأقل تمايزاً، تُعامل كوسائل للتبادل لفائدة الرجال، حيث يلعب الزواج دوراً أساسياً في مراكمة رأسمال رمزي ومادي، بتوظيفهن في أدوار ومهام لها صلة بالتحالفات القبلية والاجتماعية، بعيداً عن إرادتهن أحياناً. هاهنا يشتغل العالم الاجتماعي كسوق للسلع الرمزية يتحكم فيها الذكور، بينما لا تحتفظ النساء في ظلّ هذا الوضع الخاص إلا بصورة جسد يمارس دور الإغواء والاشتهاء والإعجاب بالأنوثة في بعدها الحسي، وما توصيف امرأة سلطة ونعتها بالأنوثة، إلا عمل ذكي ومخاتل ينزع عنها صفة السلطة التي تناسب الذكور، إنه أيضاً إنكار لحقها في امتلاك هذه الصفة[46[.
وإذا كان اللباس لدى الذكور يعطي فكرة عن المهنة ويحيل على المركز الاجتماعي، فإنه لدى النساء يسعى لتمجيد الجسد وتجميله كموضوع للإغواء والإغراء، يأخذ منهن وقتاً وجهداً ومالاً، بل إنهن حتى مع أنفسهن يحفلن بالجمال والأناقة، مما يكرّس كونهن موضوعات جمالية. كما أنّ الإغواء الذي تمارسنه والتعامل الجسدي الذي تنتظرنه من الذكر كالتربيت على الخد أو لمس الشعر ولفت الانتباه إلى شكل التسريحة والقوام والقد...، يمثل في الواقع إقراراً بالهيمنة الذكورية[47[.
ينتقل الاهتمام بالجسد مع التقسيم الجنسي للعمل ليأخذ مكانه بشكل ثابت وشبه طبيعي[48] في مجموعة من المهن والوظائف، مثل: (مضيفة طيران، مضيفة استقبال، مضيفة بحرية، مرافقة، مضيفة مؤتمرات..)؛ كما أنّ الخدمات الرمزية التي يطلبها ويصنعها النظام البيروقراطي من النساء تعمق تسليعهن وتدجينهن كموظّفات مطيعات وطيّعات، في الخدمات الجنسية بالفنادق الفخمة أو دور عرض الأزياء والموضة والتجميل والماساج مع ما يتضمنه من إيحاءات جنسية قوية أو في الخدمات الخاصة جداً بالزبائن الأثرياء، يتعلق الأمر أيضاً بتصنّع الإغراء لفائدة زبائن مقدّرين ومنحهم الإحساس بأنهم رجال.[49[
وبالرغم من أنّ سوق السلع الرمزية استضاف النساء في مهن جديدة، فإنه ظلّ يرسخ الهيمنة، لمّا لم يمنحهن إلا مظاهر شكلية للتحرر، ويختزلهن في صورة أدوات لاستعراض أو تلاعب رمزي[50]. ففي ظلّ تعميم الهيمنة الذكورية كاستراتيجية أيضاً، تتجه الجهود باستمرار لكي لا تظهر النساء بمظهر الفاعل الإيجابي أبداً، حتى عندما يتعلق الأمر بالحمل ووهب الحياة (Naitre =Natus)، ويبلغ ازدراء الأعمال النسوية مبلغاً كبيراً بنعتها بالسفلية والضعف والضآلة، كالخياطة والطبخ، لكن عندما تمارس من قبل الرجال تصبح تخصصاً دقيقاً متقناً لا يضاهى.[51]
5- إعادة إنتاج الهيمنة
تتبدّى الملامح العميقة لإعادة إنتاج الهيمنة الذكورية، حينما نلمس أنّ المهيمَن عليهن يتبنّين وجهة نظر المهيمِنين ومقولاتهم، لينتهي الأمر إلى نوع من تبخيس الذات (Auto-Dépréciation) وتحقيرها (Auto-Dénigrement) بشكل ممنهج، تعكسه تمثلات نساء "القبايل" لذواتهن وجنسهن كشيء منقوص وبشع. وحتى في فرنسا ـ كما أكد بورديو ـ عندما تصرّح نسب عديدة من النساء برفضهن لزوج أصغر منهن سناً، فهو اعتراف منهن وإقرار بقبول الهيمنة، وفاء لمنطق "الارتباط بشريك أكبر سناً هو الوسيلة الأكيدة للحصول على وضعية اجتماعية قارّة"، بينما ما زال الرجال يميلون بشكل تفضيلي عادي للارتباط بشريكات أصغر منهن.[52]
في هذا السياق تلعب مؤسسة الأسرة بوصفها"حارسة للرأسمال الرمزي" دوراً أساسياً وحاسماً في إعادة إنتاج القوانين والأعراف المنظمة للالتزام الزواجي على نحو شرعي. ففي مجتمع "القبايل" يبدو دورها قوياً في إعادة إنتاج الهيمنة وتأبيد الاختلافات بين الذكور والإناث داخل "عالم الاقتصاد المنزلي" وإدامة الحصار المضروب عليهن في الأعمال البيتية والنشاطات التي يحتفل بها، في شكل طقوسي يرسخ التأبيد ويجذره بما يناسب مصالح الرجال.
على هذا النحو نفهم كيف يحرص أطراف العلاقة الزواجية على تجسيد احترام الزوج أمام أنظار الآخرين على الأقل، والنساء يمارسن هذه اللعبة بإتقان فـ "... لا يستطعن ابتغاء رجل وحبه إلا إذا كانت كرامته مؤكدة بوضوح ومثبتة في واقعة "أنه يتجاوزهن" بجلاء"[53]. وبالتأمل في هذه المفارقة، يتبين أنّ الهيمنة بوصفها إكراهاً لا تنفصل عن أشكال القبول بها، أي عن الخضوع الحر والإرادي والمتعمد لها أحياناً. فللمهيمن عليهن دور في تعميق الهيمنة، لقبولهن الضمني بالحدود المفروضة عليهن، حتى حين تأخذ بعداً مجسّداً: (خجل - احمرار- حرج كلامي- ارتجاف- غضب - غيظ...).
لا يعني ذلك أننا نعزو للنساء هيمنتهن ونحمّلهن وحدهن مسؤولية اضطهادهن، كما يردد عادة في المقولة "النساء أسوء أعداء لأنفسهن"، أو أنهن يتلذذن بإهانتهن، بل الأمر في كليته عائد إلى بنيات موضوعية واستعدادات قائمة ومتجسدة، يساهمن في ترسيخها لأنّ "السلطة الرمزية لايمكن أن تمارس إلا بمساهمة من تمارس عليهم"،كما يقول بورديو. إنّه التواطؤ كموافقة مرتبطة بالشروط الاجتماعية لإنتاج وإعادة إنتاج الاستعدادات. فالتنشئة الذكورية تتجه إلى ترسيخ سلبية النساء وتصغيرهن لذاتهن وإنكارهن لها، وبالتدريج يتمرسن على الفضائل السلبية في خنوع وصمت، أمّا الرجال فيخضعون للتمثل المهيمن في تكتم شديد.[54] هكذا تصبح لديهن استعدادات الخضوع ولدى الرجال استعدادات ممارسة الهيمنة. لهذا يتحدث بورديو عن "العجز المتعلم" كمبدأ لتكريس الهيمنة، لأنّ المرأة "كلما عوملت أكثر كامرأة صارت امرأة أكثر".
يبدو النظام الاجتماعي مرتباً نوعياً (Genre)، ويميل عبر الدعوات الضمنية أو الصريحة لتوجيه الفتاة نحو الوجهة التي تناسب الرؤية التقسيمية، يساهم في ذلك الآباء والأساتذة وزملاء الدراسة، باستدماج مبادئ الهيمنة بشكل جاهز، ومن ثمّة التعامل مع هذا النظام الاجتماعي بوصفه عادياً أو طبيعياً. تتورط المدرسة إذن إلى جانب الأسرة في المسلسل التنشئوي للهيمنة، بترسيخ الهشاشة وعدم التشجيع المفضي إلى تثبيط العزائم وتبني وجهة نظر المهيمنين، بدفع الإناث إلى خيارات محددة وصرفهن بالمقابل عن خيارات ومسارات مهنية اشتهرت بأنها ذكورية، وفاء للمصير الذي خصّصه لهن مبدأ التقسيم التقليدي.[55]
إنّ التنشئة الاجتماعية التفاضلية "تهيّئ الرجال لحب ألعاب السلطة وتهيّئ النساء لحب الرجال الذين يلعبونها، فالكاريزما الذكورية هي في جزء منها سحر السلطة، والإغراء الذي يمارسه تملك السلطة بذاتها على أجساد دوافعها ورغباتها تمّت تنشئتها الاجتماعية والسياسية"[56]. بهذا المعنى فالرجولة، من حيث هي فضيلة، واجب وجود (Devoir être) تفرض نفسها كأمر مفروغ منه، وعلى غرار الشرف تأخذ أشكالاً جسدية واستعدادات متضامنة مع طريقة التفكير والفعل كخلق (Ethos)، في تعارض مع النساء، لهذا وفي مجالات العمل كي تستطيع امرأة شغل مركز ما فإنّ عليها أن تحوز من الخصائص والصفات ما هو في حوزة الرجال أصلاً، بدءاً بالقامة والصوت والثقة وصولاً إلى الاستعدادات العدوانية...إلخ[57].
اللغة بدورها تساهم رمزياً في المصادقة على الهيمنة الذكورية وتعمقها، إن لم تكن تصنعها صنعاً، من خلال مجازات كثيفة الدلالة، تختزل الذكورة في الانتصاب وانتفاخ القضيب وامتلائه بالحليب المخثر، فغزارة المني دليل على خصوبة لا يناظرها إلا امتلاء النهد لدى الأنثى وقدرته على إفراز حليب الإرضاع المغذي مقارنة بحليب الذكر الواهب للحياة أساساً.
وإلى جانب ما تمارسه الأسرة والمدرسة، يأتي دور الكنيسة المسكونة بالعداء العميق للنسوية؛ لأنها تاريخياً رسّخت فكرة التشاؤم من النساء وأنّبت إخلالهن بالأدب لا سيما في اللباس، عبر الأخلاق التطهيرية التي تدين عدم طهارتهن،"التلوث النسوي"، مروّجة لقيم أخلاقية بطريركية بناء على رمزية النصوص الدينية وشعائرها المقدّسة.[58] وبالرغم من أنّ المدرسة أعلنت تخلصها من الكنيسة، إلا أنّها مع ذلك حافظت على رؤيتها للنساء بتوريث التفاضل الجنسي المسكون بالبطريركية، كما أنّها ـ في ما تنتجه من مضامين معرفيةـ لم تتوقف إلى عهد قريب عن توريث نماذج متقادمة، رسّخت المبدأ الأرسطي الذي يولي أهمية للرجل كفاعل إيجابي ويقصي المرأة.[59]
أمّا عن الدولة فيأتي دورها ليصادق على أوامر البطريركية وتحريماتها، بل ليضاعفها بمجموعة من الأنظمة التحريمية المتأصلة في المؤسسات، كقوانين الأسرة والحالة المدنية التي ليست في نهاية المطاف سوى تجسيد للمركزية الذكورية.[60]
لكن نتساءل: ألا تملك النساء أيّ ردود فعل ضدّ هذه الهيمنة؟
لا شك أنّ النساء استطعن أن يبلورن استراتيجيات رمزية ضدّ هيمنة الذكور، غير أنّها تبقى استراتيجيات ضعيفة، لأنّ أسلحة الضعيف حتماً ضعيفة، ومنها السحر والمكر والكيد والحيلة والحب الاستئثاري. فالنهايات التي تصبو النساء إليها تبقى هي الحب أو الوهن الجنسي للرجل المحبوب - المكروه، وهي استراتيجيات غير كافية لتثوير علاقة الهيمنة، بل تمنح بالمقابل تأكيداً قوياً لفكرة النساء الشريرات أو النساء ككائنات شريرة، خلافاً لما يوحي بذلك مظهرهن.
وفي ظل التنشئة البطريركية يخشى الرجال الحبّ ويسعون إلى تجنب أسره، لأنهم يدركون نفوذه السحري الممارس عليهم والمهدد لكرامتهم لا سيما في العلاقات الحميمة، فهو يحدث في النظام الاعتيادي تصدعاً قدرياً[61] يقلب علاقة الهيمنة ويخفف من حدة سطوتها أو يلغيها، ممّا يجعلها هيمنة مهيمناً عليها، معوّضاً غلبة الذكور باستراتيجيات التكبيل والربط والإخضاع والتسخير والانشغال والانتظار، كما تكمن قوته في تهديد الهيمنة الذكورية عندما تبتعد الذات العاشقة عن قيمة الشرف الذي يستلزم من الذكر قدراً كبيراً من التنازل، بسعيه إلى الاعتراف من خلال ذات أخرى مسلّماً وبشكل طوعي حريته الذاتية إلى سيد يبادلها هذا الفعل الإرادي على شكل تطابق. ولأنّه عالم اللاعنف فهو نادر في أكثر حالاته اكتمالاً وصفاء، بل يتمّ تصوره دائماً بأنّه هش، وبأنّ الزواج المؤسس عليه محكوم بالفشل، والرجل المتورط في حبائله ضعيف ومجنون.
ولئن جاز الحديث عن عنف للنساء ضدّ الرجال، فهو حتماً عنف ناعم يعترض به على العنف الجسدي والرمزي الممارس عليهن، لأنه مهما فعلن يبقين محكومات بحمل الدليل على مكرهن، وبهذا يمنحن التبرير الكافي على كلّ الممنوعات التي تحاصرهن. إنّ واقعهن تراجيدي للغاية ما دامت آثار الهيمنة سرعان ما تعيد تثبيت التمثلات السلبية عن جنسهن. فالأمر أشبه باللعنة لمّا تصبح الرؤية الذكورية مبرّرة من قبل الممارسات التي تحددها.[62]
لكن لا بدّ من التأكيد ـ في مستوى مقابل ـ أنّ للامتياز الذكوري كلفة كبيرة يدفع ثمنها الرجال أيضاً، بدءاً من التوتر الناجم عن تكثيف كلّ الجهود لممارستها والحرص عليها، سواء ببذل جهد خاص في الممارسة الجنسية أو بالتعاطي لمواد مهيجة أو في الخوف الوسواسي من العجز الجنسي، فالرجولة تكليف ثقيل يستوجب قابلية للصراع والإقدام على ممارسة العنف. ويمكن أن نسوق هنا مجموع الممارسات المتهورة التي تحمل قدراً من الشجاعة وفقاً للتصور السائد والممتد أحياناً إلى بعض المهن كالفرق المتخصصة في الشرطة والجيش، حينما يتمّ الربط بين إهمال الإجراءات الوقائية وركوب المخاطرة المؤدية للموت أحياناً، وبين شجاعة الفرد ورجولته.[63]
وعلى مستوى أعمق، يعيش الرجال عادة توتراً نفسياً واجتماعياً كبيراً، تحت ضغط الخوف من فقدان تقدير الآخرين أو فقدان ماء الوجه وتحديداً الخوف من النعت بالجبن والوصم بالانتماء إلى فئات الخنوعين والضعفاء واللوطيين. وكثيراً ما يكون هذا الخوف من الاستبعاد من عالم الرجال مدمّراً، إذ يقود إلى الاغتصاب والتعذيب أو القتل. ها هنا يعاني الذكور بدورهم سطوة الثقافة الذكورية (المهيمنون مهيمن عليهم بهيمنتهم)، بل إنهم يعيشون رهابها باستمرار، لذا يعمدون إلى تبنّي سلوكات القسوة والعنف، "إنهم قساة بسبب معاناتهم الخاصة"، ليخلص بورديو إلى أنّ"الرجولة مقولة علائقية للغاية، شيدت قبالة الرجال الآخرين ومن أجلهم وضد الأنوثة على شكل خوف من المؤنث"[64].
على سبيل الختم:
هل اتسم نسق التحليل البورديوي بالانغلاق بصدد الشرط النسوي لمّا غلّب أوجه الدوام على أوجه التحول؟ هل هو الوفاء لمنطق التحليل الذكوري، أم الوفاء لجرأة التشريح السوسيولوجي النقدي والمزعج باستمرار؟
اعتبر بورديو أنّ التعرض العلمي للهيمنة الذكورية ـ كموضوع سجالي نوقش وما فتئ يناقش ـ يحمل آثاراً اجتماعية بالضرورة، فقد يوطد الهيمنة نفسها عندما يتقاطع مع الخطاب المهيمن، أو يساهم في تحييدها، لكنه معرّض في غالب الأحوال لسوء الفهم، ولا عزاء في ذلك سوى حسن النية، بالرغم من أنّه غير كافٍ، شأن الاقتناع المناضل للكتابات النسوية المتخصصة.
يشير بورديو إلى أنّ النساء الحركيات تخوفن من تحليل الهيمنة الذكورية، وهو تخوف يجد جزءاً من مبرراته في كون نتائج التحليل الهادئ والعميق تبيّن تورط النساء في هذه الهيمنة كما أكدت دراسات كثيرة[65]، لهذا يرفضن تحويل عبء المسؤولية من الرجال إلى النساء.[66] بينما منطق التحليل يقتضي أنّ الجهود ذاتها المبذولة لتحريرهن من الهيمنة الذكورية لا يمكن فصلها عن الجهود الموازية لتحرير الرجال منها أيضاً.[67]
إنّ التحليل السوسيولوجي الهادئ للواقع النسوي يلزمنا بأقصى درجات الجرأة للقول: إنّ عوامل التغير المهمة التي عرفتها وضعية النساء، بسبب العمل النقدي وازدياد بلوغ النساء للتعليم الثانوي والعالي وتوسع العمل المأجور، وما أفرزه من نتائج على مستوى المسافة من المهام البيتية وتقلص الأعمال المنزلية التقليدية الناجم عن الطابع الاستهلاكي المتزايد كسمة للحياة الجديدة، وتطور وسائل المتاع الاستهلاكي والتغيرات الديموغرافية المرتبطة بوسائل منع الحمل وتأخر سن الزواج وتقلص العائلة المركبة واختراق المرأة لمهن عديدة...، لم توقف سطوة الذكورية؛ بل إنّها سرعان ما أفرزت مهناً نسوية جديدة للإناث، كالديكور والإرشاد الاجتماعي والمهن الطبية وشبه الطبية..، يجدها المتأمل المتنبّه تستعيد مقولة "الاهتمام النسوي" و"ملاءمة الطبيعة النسوية"، أمّا تحمل المسؤولية في مجالات كالاقتصاد والمال والسياسة فلا زلن مقصيّات منها.[68] وبالرغم من أنّ الفتيات صرن أكثر تفوقاً في الدراسة وإتمام الدراسات العليا، فما زال حظهن أضعف في الاستفادة من دراستهن أمام استمرار التمثل ذاته الذي يدفعهن لاختيارات أدبية أو أنثوية.
وفي الحالات الإيجابية التي يبلغن فيها مواقع مهنية واجتماعية مهمة، يكون لذلك كلفة كبيرة، كالعزوبة أو التأخر في الزواج أو الفشل في الحياة الزوجية بإهمال الأبناء وإضاعة الشريك. وبشهادة النساء أنفسهن، تعيش المرأة وضعاً ثنائياً عسيراً، إمّا النجاح في الحياة الزوجية والعمل العائلي المنزلي أو النجاح المهني على حساب الأول. ولأنّ"نجاح المؤسسة المنزلية هو غالباً تخل جزئي أو كلّي عن النجاح المهني الكبير"، فإنّها تبقى خارج الصراع على السلطة.[69]
أكثر من ذلك فالمواقع الذكورية التي تتأنث يتمّ تبخيسها لمّا يهاجرها الذكور، وفي حالات أخرى يحتج هؤلاء في احتشام مشوب بقدر من التحقير والاستخفاف من تأنيث مهن طالما اعتبروها ذكورية كالجيش، وكأنهم يدافعون عن رجولتهم لا عن مهنتهم. من هنا صارت نسبة التأنيث الحالية والمحتملة أفضل مؤشر تحليلي على نسبية الموقع والقيمة لمختلف المهن التي صارت تغزوها النساء.[70]
وعليه، فالمساواة النسوية المزعومة هي شكلية في النهاية، لأنّها تخفي أنّ النساء أقلّ حظوة، ففي الوظائف العمومية يتواجدن بأكثر المواقع هشاشة، ويعملن بأقل الأجور رغم تساوي مؤهلاتهن وشهاداتهن مع الذكور، ولأسباب كثيرة يبقين عرضة لهشاشة العمل أو للبطالة، ممّا يضاعف استبعادهن من مواقع السلطة ولعبتها الخاصة.[71]
ولأنهن تعودن تاريخياً العمل غير المأجور، وما زلن إلى اليوم يتحملن أعمالاً هزيلة الأجر، فإنهن يجدن ميلاً كبيراً للعمل التطوعي والخيري[72]. ولعل تفانيهن فيهما، حتى في الأوساط النسوية المترفة، لا يبتعد في العمق عن التفاني الخدمي لدى العاملات في المنازل أو العمل المأجور المكمل لأجر الزوج لدى نساء البورجوازية الصغرى.[73]
إنّ السباق الجاري بين الذكور والإناث سريع، بحيث لا تستطعن فيه استدراك إعاقاتهن المختلفة والطويلة، بالرغم من المظاهر الخادعة لتغير أوضاعهن، لأنّ مبدأ الهيمنة الذكورية قائم في كل الشروط النسوية المختلفة، ولئن اختلف باختلاف الشروط ذاتها فإنّه يبقى هو نفسه في النهاية، إنّه مبدأ خفي وغير مرئي، مخادع ومخاتل.
وتبلغ بنيات الثبات حداً كبيراً حينما نتبين أنّ الانتماء إلى عالم النساء ليس فقط انتماء إلى جماعة موصومة، بل هو انتماء موصوم في ذاته، وتتساوى في ذلك المرأة المترئسة لإدارة شركة كبرى مع العاملة البسيطة، لأنّ استبطان النظام الذكوري والخضوع له قاسم مشترك بينهن ما عدا استثناءات قليلة تجاوزت التقسيم التقليدي بين المذكر والمؤنث.[74]
وإذا استحضرنا مرور الهيمنة من جسد إلى جسد ومن لاوعي إلى لاوعي، فإنّ الهابيتوس النسوييبدو ثابتاً، لأنّ مبادئه منسقة سلفاً (Orchestrés)، أو لنقل مؤثثة قبلاً بشكل موضوعي، وتبدو أكثر ابتعاداً عن الرقابة، ممّا يفسر وبشكل مفارق أشكال الفصام أو ثنائية الخطاب والممارسة لدى بعض الفاعلات النسويات لما يخضعن عملياً للزوج، بينما يدافعن ضد الرجل على مستوى الخطاب، أو لدى بعض المثقفين الذكور الذين ينافحون عن المرأة، بينما هم على سبيل المثال لا يقربون الأعمال البيتية، ولا يساعدون زوجاتهم فيها ولو بالقدر اليسير.
في السياق ذاته، يأخذ بورديو على الحركة النسوية كونها وسّعت مساحة السياسي وراهنت عليه كمدخل لمناقشة إقصاء المرأة وحرمانها، بينما لم تنتبه للدور الخفي واللامرئي للهيئات التي سبق ذكرها في تكريس الهيمنة الذكورية. فقد سيّست نضالها مدّعية له براءة النضال حول المساواة والمطالبة بالتكافؤ بين الرجال والنساء في الهيئات السياسية، غير أنّها بذلك ساهمت في مضاعفة شكل آخر من الكونية الوهمية، مادام القانون الدستوري الذي تعتصم به يتعامل مع الأفراد كأشخاص مجردين لا يحملون خصائص اجتماعية مساوقة لوجودهم.
وختاماً، يؤكد أنّ المدخل الحقيقي للحدّ من الهيمنة الذكورية هو "ثورة في المعرفة"[75]تستوعب مختلف تأثيرات الهيمنة الممارسة، من خلال تواطؤ موضوعي بين البنيات المستدمجة لدى النساء والرجال على السواء، وبين المؤسسات والهيئات التي تولّد النظام الذكوري بوصفه جزءاً من النظام الاجتماعي ككل[76]،لكنها ثورة تستوعب أكثر لأنّ تحققها يقوم على مبدأ التدرّج والتراكم.