يجمع الكثير من المهمومين بشغف السؤال عن وضع المثقف في مطلع الألفية الحالية على تأكيد زواله واندثاره أو غياب تأثيره في المجتمع[1] ويحملون وسائل الإعلام المسؤولية الكاملة على ما آل إليه وضعه.
لو سلمنا بأن ميلاد مفهوم "المثقف" كان على يد الصحافة الفرنسية[2] التي عاشت سجالا عنيفا حول قضية الضابط الفرنسي دريفس،[3] فهذا يعني أن مكانة المثقف تشكلت على ضوء ميلاد المجتمع الجماهيري وتطور الصحافة والنشر[4]؛ أي أن وسائل الإعلام، والصحافة تحديدا، كانت سببا في بروز مفهوم المثقف. إذ شكلت عاملا أساسيا في تعاظم مكانته في المجتمع، وذلك لعدم وجود النقاش والجدل اللذين يسمحان للمثقف بالتعبير عن أفكاره ومواقفه، في ذاك العصر، دون صحافة. فكيف تحولت وسائل الإعلام اليوم إلى أداة تغيب المثقف وزواله؟
إن الإجابة عن هذا السؤال تختلف باختلاف الرؤية للمثقف من جهة، وإلى تطور وسائل الإعلام وأشكال تدخلها في النقاش العام، ومساهمتها في تشكيل الفضاء العمومي؟
الصورة ورهانات التفكير:
يتطرق الناقد السعودي عبد الله الغذامي إلى المثقف ضمن رؤية شاملة للنخبة. يربط بين ما يصفه بسقوطها وتراجعها، وتواربها وابتعادها عن الواجهة وصعود الصورة التلفزيونية[5].وبهذا يرى أن الصورة التلفزيونية حلت محل النخبة الثقافية التقليدية ويستبدل، بسهولة، الصورة بالنخبة! ويحرّر هذه الأخيرة من كل شرط اجتماعي أو تاريخي أو ثقافي يرهن وجودها. بل يمنح للصورة القدرة على دفع ما يسميه "الشعبي" إلى الواجهة فتتوارى خلفها النخب. هذه الفكرة نجدها أكثر وضوحا ونضجا لدى الكاتب وعضو الأكاديمية الفرنسية، فيليب سوليرPhilippe Sollers ، الذي رأى أن تطور التلفزيون، وليس الصورة التلفزيونية، هو الذي عجل في توار المثقف. ويستشهد في ذلك بالأرشيف المرئي الخاص بالمثقف والوزير السابق وعضو الأكاديمية الفرنسية، "إيدغار فور" Edgar Faure،[6] الذي يحتفظ به المعهد الوطني للسمعي-البصري بفرنسا. إذ ذكر أن هذا المثقف كان يملأ الشاشة في بداية البث التلفزيوني وهو يتحدث للصحافي، الذي يجلس بجانبه بعيدا عن المجال المرئي، ليسأله أسئلة عادية. وبعد سنتين، قل حديثه لأن الصحافي أصبح موجودا بجانبه ومرئيا في الشاشة، ولم يحظ الوزير سوى بنصف الوقت المخصص للبرنامج التلفزيوني! وبعد سنتين تحول البرنامج إلى "حديث استعراضي" Talk show" يشارك فيه ستة ضيوف بجانب الصحافي. فلم يعد لهذا المثقف أي حضور أو دور في البرنامج سوى سحب الدخان من غليونه.
التلفزيون: يستحضر المثقف بتغييبه
يعتقد عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو أن التلفزيون أصبح يحتل مكانة مهيمنة في منظومة وسائل الإعلام. ولا يشكل خطرا على المثقف فحسب، بل على مختلف فضاءات الإنتاج الثقافي والفكري، أيضا. فظهور المثقف في التلفزيون يعني ضياع استقلاليته نتيجة خضوعه لشروط الاتصال المتلفز التي تفلت من سيطرته سواء لجهله بها أو لعجزه عن مقاومتها في الأسوتوديو. فتدخله المتلفز بتعرض للرقابة الظاهرة والمبطنة التي تصنعها جملة من العوامل الموضوعية والذاتية، منها ما حرفي/ مهني، ومنها ما هو سياسي واقتصادي. ويعد هذا العامل الأخير الأخطر لأنه يفرض شروط المنافسة بين القنوات التلفزيونية. ويدفع التلفزيون، بالتالي، إلى اللهث للحصول على أكبر عدد من المشاهدين من أجل رفع عائده من الإعلانات والإشهار.
ويرى بيار بورديو أن مشاركة المثقف في البرامج التلفزيونية وهو لا يسيطر على شروط الاتصال يعني عزمه على عدم قول أي شيء في استوديو التلفزيون سوى أن يظهر و يٌرى.[7] ولتوضيح هذه الفكرة أكثر يمكن القول أنه من المطلوب من المثقف أن يفكر والتفكير عبارة عن جهد يتطلب التأني. والتأني يحتاج إلى التريث. وهذا الأخير يتحقق عبر الوقت. والتلفزيون لا يملك هذا الوقت لأنها يشتغل تحت ضغط المنافسة وفي ظل التسابق. لذا يطلب التلفزيون من المثقفين التفكير " بطريقة أسرع من ظلهم" على حد تعبير الباحث الفرنسي بيار بورديو أو عدم التفكير أصلا. والاكتفاء باجترار الأفكار السائدة أو الشائعة، وذلك لأن مفهوم التفكير، حسب الباحث ذاته، هو " تفكيك أو الشروع في تدمير الأفكار الشائعة أو الجاهزة"، هذا بصرف النظر عن محتوى هذه الأفكار وطبيعتها ومدى ابتعادها عن المواقف الرسمية المعلنة أو المتسترة.[8] لذا تفضل القنوات التلفزيونية دعوة صنف معين من المثقفين الذين يتدخلون في كل البرامج التي تبثها مختلف القنوات التلفزيون. مثقفون جاهزون للخدمة أسماهم البعض "مثقفو وسائل الإعلام"، ونعتهم عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو " fast-thinkers"،[9] أي الذين يقدمون وجبات " الأكل السريع الثقافي" fast-food Cultural". وهؤلاء هم الذين تنطبق عليهم مقولة الإمتاع والمؤانسة، ليس بالمفهوم الذي تحدث عنه أبو حيان التوحيدي في كتابه الذي حمل العنوان ذاته. فالإمتاع عن الشيء من منظور لسان العرب هو الاستغناء عنه. والإمتاع عن المثقف هو عدم الاحتياج إليه كدور ووظيفة ومكانة في المجتمع. والحاجة إلى حضوره كصوت وصورة تعززوحدة لحن الجوق الذي يعزف على الخطاب الامتثالي. والمؤانسة تعني الألفة. وهذه الأخيرة تحمل طبقتين من المعاني. الطبقة الأولى ويقصد بها ألفة المثقف مع الأستديو والبلاطو والجمهور والأسئلة بحكم تواتر مشاركته في البرامج التلفزيونية المختلفة. والطبقة الثانية تدل على إعادة إنتاج أو اجترار الخطاب المهيمن الذي يلد الامتثال والباعث على الطُّمأنينة. فالناس يطمئنون، في الغالب، إلى المألوف من الأفكار حتى وإن كانت في غير صالحهم. ويقلقون من جديدها وحتى وإن لم يصدمهم ويدافع عن مصالحهم. لقد انتبه الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز إلى هذا الدور قبل 38 سنة ووصفه بعملية تدجين المثقف.[10] فمكانة هذا الأخير أصبحت مشروطة بمدى مرؤيته الإعلامية. وأضحت شهرته مرهونة بوسائل الإعلام. فهي التي تصنعها، وهي لتي تمنح الشرعية لما يقوله.
رهانات
أما رهانات هذا الضرب من الإمتاع والموانسة فإنها فمتعددة. ويمكن الاقتراب منها عبر العديد من المستويات. وأول مستوى تتجلى فيه أكثر هو المنافسة الحادة بين القنوات التلفزيونية والتي تؤدي إلى التقارب حتى التطابق بين القنوات التلفزيونية التجارية والقنوات التلفزيونية العمومية. فهذه الأخيرة انجرّت إلى التدافع والتسابق في تقديم كل ما هو لهوي وتسلوي من أجل تحقيق التوافق والتوائم بين المشاهدين الذين يقود إلى زيادة عددهم. وأصبحت تتجنب البرامج الجدالية والتي تفرق بين المشاهدين. وهذا يفسر توجهها القوي نحو زيادة برامج الألعاب والمنافسات والرياضة والمنوعات و" التوك شو" حول القضايا الغريبة والطريفة في المجتمع. بل أضحت القنوات التلفزيونية تشترط من كل راغب في المشاركة في برامج المنافسات والألعاب أن يسرد قصة طريفة جرت له أو وضع في موقف ساخر. فالطرافة والمزاح والسخرية لم تعد الغلاف الذي تغلف به السلعة التلفزيونية، بل أصبح من مكونات المواد التي ينتجها التلفزيون أو يبثها في انتقاله من مرحلة التعليم إلى مرحلة الاستعراض والفرجة والتمشهد[11]، في نهاية الثمانينات من القرن الماضي. وبهذا بدأ عدد البرامج الثقافية في القنوات التلفزيونية يتقلص، حتى الفرنسية منها رغم ما يشاع عن تمسكها بالتقاليد الفكرية والأدبية والفنية التي يتميز بها المجتمع الفرنسي.
قد يعترض البعض على سبق ذكره بالقول أن البرامج النقاشية والجدالية لم تختف نهائيا في القنوات التلفزيونية بل تزايدت، خاصة في التجارية منها، وحمَّى وطيسها. وقد يستشهدون بطول عمر برامج " الحديث الاستعراضي الساخن" Hard Tolk Show" التي رسخت في شبكة برامج بعض القنوات التلفزيونية والتي تُعد القاطرة التي تجر عربة البرمجة التلفزيونية. وقد استنسخت بعض القنوات مثل هذه البرامج ذات الإيقاع السريع والمواجهة الساخنة. إن الغاية من بث هذه البرامج ليس تبصير المشاهد برهانات موضوع النقاش ولا بأطروحته، بل يكمن هدفها في دفع المشاهدة لبلوغ أعلى ذروتها عبر الاستعراض والفرجة، وبهذا فإنها لا تختلف في الجوهر عن برامج الألعاب والمنافسات التلفزيونية ونقل مباريات كرة القدم لما تثيره من حماس واستعراض وفُرْجَة.
ومن التداعيات المباشرة لانتقال التلفزيون من التعليم والتربية إلى الاستعراض والتمشهد أن التعريف الذي قدمه جون بول سارتر للمثقف، والذي يقول عنه أنه ذاك الذي يتدخل فيما لا يعنيه[12] طُبق بشكل سيء وعلى أوسع نطاق. فأصبح منبرا لكل متدخل في أمور لا يعنيه مباشرة أو بعيدة عن انشغالاته. فما الغاية من دعوة الرياضي ومصممة الأزياء والطباخ لإبداء الرأي في قضايا تتعلق بدول لا يعرف حتى موقعها في الخريطة الجغرافية أو في مسائل فكرية وسياسية آنية لا يملك معظمهم أي سلطة معرفية لخوضها؟ إذا المطلوب منهم أن يقدموا انطباعات أو قول أي كلام يُعيد إنتاج الصور النمطية والكليشيهات التي تبثها القنوات التلفزيونية حول المواضيع التي يسألون عنها؟ وإذا رفض مثقف ما مجاراة هذا التوجه فيُتهم بأنه ليس مشهورا أو معروفا بالقدر الذي يسمح لوسائل الإعلام بالإهتمام به![13]
التطبيق المعمم.
إن العلاقة التي كانت تشد المثقفين بالصحافة المكتوبة في أواخر القرن 19، وبداية القرن العشرين غير تلك العلاقة التي أصبحت تربطهم بالتلفزيون المعاصر.[14] لأن مكانة الثقافة فيه تراجعت أو فرغت من بعدها النقدي. فالروائي غارسيا ماركيز له مواقف واضحة في مجال السياسة والصراع الدولي، وقد عبر عنها بصراحة أكثر من مرة ، بيد أنه لم يخف حرجه عندما يُجَرّ إلى الحديث عن السياسة والاقتصاد في القنوات التلفزيونية. وقد عبر عن هذا الحرج بالقول: إنني روائي. ونحن الروائيين لسنا مثقفين. إننا عاطفيين وحساسين. إننا نعيش ، نحن اللاتنيين، محنة كبرى. لقد أصبحنا في بلداننا ضمير المجتمع، بهذا القدر أو ذاك. ويا لحجم الكارثة التي نتسبب فيها. هذا لا يحدث أبدا، ويا للحظ، في الولايات المتحدة الأمريكية. إنني لا أتخيل أبدا الأديب الإيطالي دانتي يتحدث عن اقتصاد السوق في أي لقاء إعلامي. [15]
إن هذا التطبيق المعمم لتعريف المثقف وفق ما ذهب إليه جون بول سارتر جاء ضمن السياق الذي احدثته " تلفزيونات التبلويد" Tabloid television التي ساهمت بفاعلية في تدويل العاطفة وليس العقل وتوحيدها. ولعل مصرع الأميرة ديانا وما رافق مراسيم دفنها من طقوس وشهادات مؤثرة خير مثال على ذلك. فالاهتمام المفرط بالعاطفة يضيق مجال التفكير والتأمل.
لقد بيّن المؤرخ الفرنسي Gérard Noiriel, , في كتابه الموسوم بـ "أبناء الجمهورية الملعونين" أن المثقفين أنقسموا ، في المنتصف الثاني من القرن العشرين، إلى ثلاثة أنواع تتصارع في الحقل الثقافي والنقدي، وهي: المثقفون الثوريون وهم في الغالب مفكرون وفلاسفة. ومثقفو الحكومات وهم في الغالب ليبراليون دعاة الإصلاحات المعتدلة. ومثقفون خصوصيون منشغلون بالقضايا المخصوصة Spécifiques من طراز المفكر ميشال فوكو الذي دافع عن المساجين، وعالم الاجتماع بيار بورديو الذي دافع عن العاطلين عن العمل.[16] ويُعرف المثقف الخصوصي بأنه في الغالب شخص جامعي، يتدخل في الشأن العام مستمدا سلطته من علمه ومعرفته.
إن سهولة الوصول إلى وسائل الإعلام، والرغبة الجامحة في كسب شعبية واسعة قد أدى إلى الزج بجيش عرمرم من الأشخاص للخوض في غمار النقاش في قضايا لا تقع في دائرة اختصاصهم أو اهتماماتهم أو تندرج في حقل نشاطاتهم المهنية، ولا يملكون المعرفة الضرورية غير مؤهلين معرفيا لتناولها في الفضاء العام عبر بلاتوهات القنوات التلفزيونية. وهكذا نجد الأستاذ الجامعي أو الأديب أو المخرج السينمائي بجانب لاعب كرة القدم والمغني ومصففة الشعر والطباخ في بلاطو تلفزيوني يقفزون في حديثهم من موضوع إلى أخر في جو من السخرية " يعوم المثقف الخاص" و يميّعه من خلال تحويل " كفاءته" إلى مادة للدعابة والمزاح تنتج الكليشهات والصور النمطية التي تساهم في بناء صرح الامتثال. وبهذا توارت صورة المثقف اللامعة التي ظلت ردحا من الزمن مرتبطة بدوره الاجتماعي: توجيه النقاش العام وإنارته، ومساعدة الجمهور على استبصار رهانات الموضوع المطروح للنقاش. لقد بل زج بالمثقف للمشاركة في مسح كل موضوع نقاشي من أي رهان.
التوارى
يبدو أنه من الإجحاف ربط توار دور المثقف بالمجتمع بالتلفزيون وحده. لقد ساهمت وسائل الإعلام الأخرى، خاصة الصحافة المكتوبة في هذه العملية بكل نشاط. فالنقد شكل المحرك الفكري للصحافة الدورية منذ القرن السابع عشر. لقد مارسه ممتهنو الثقافة والجامعيون ومنتجو الثقافة العالمة Culture savante وطوروه ليصبح تخصصا قائما بذاته في الصحافة منذ المنتصف الثاني من القرن التاسع عشر. ففتح المجال للاهتمام بالقضايا الكبرى في المجتمع عبر التفكير في الإنتاج الأدبي والنشاط المسرحي والموسيقي والفني. ولكن يا للمفارقة فمع توجه الصحافة نحو المزيد من الجماهيرية في ظل انتشار صحافة الاثارة بدأت صحافة الرأي في التراجع، وتقلص دور الصحافة النقدي. وتراجعت المساحات التحريرية الخاصة بالثقافة في الصحافة لصالح الإشهار. أصبح هذا الأخير هو المتحكم في المادة التحريرية في صحافة المشاهير People press التي نأت عن الفكر وهمومه واتجهت إلى الاهتمام بحياة نجوم الفن والطرب والغناء الحميمية. فمفهوم النجم السينمائي يختلف نهائيا عن مفهوم المثقف. فهذا الأخير تشكل في الممارسة النقدية وصقلته الصراعات السياسية والفكرية. أما النجم فقد نحته كارل ليمل، مؤسس أستوديو ''يونفرسال'' بالولايات المتحدة الأمريكية، وتم توظيفه في النظام التلفزيوني ليجسد تقنية تسويق بعض البرامج التلفزيونية والسلع، عبر الترويج لصورة متخيلة تلصق بشخص ما فيبرز كشخصية تامة و مكتملة وكاملة ومربحة.[17]
المثقف وتلعيب الثقافة :
إذا، إن تراجع دور المثقف في العديد من دول العالم كان نتيجة خضوع وسائل الإعلام لإرادة السوق. فاقتصاد السوق هو الذي أصبح يمنح الشرعية لبعض الأنشطة الثقافية والفكرية ويؤطر نشاط المؤسسات المنتجة للثقافة فأدى إلى التغير في محتوى المادة الثقافية وشكلها. فمن الاجماع على فكرة أن كل شيء سياسي، التي برزت في الحرب الباردة ،إلى العمل بفكرة أن كل شيء ترفيهي، منذ التسعينيات من القرن الماضي. فضمن هذا المسار سقطت الثقافة في التلعيب Gamification . وقرائن هذا السقوط تتعدى ما أشرنا إليه أعلاه من هيمنة الترفيه على برامج التلفزيون، وتشمل مستقبل الإنتاج الثقافي الذي أصبح مرهونا بالشاشات، سواء الشاشة الكبرى ( السينما) أو الصغيرة ( التلفزيون، الكمبيوتر) أو الأصغر ( الأيباد، الهاتف الذكي، أكس بوكسXbox أو غيرها من شاشة الألعاب الإلكترونية). فهذه الحوامل التكنولوجية الجديدة ليست محايدة، بل تفرض منطقها التقني والتواصلي والجمالي على المادة التي تحملها. وقد ترتب عن هذا المنطق تداخل بين الاتصال والثقافة والتربية واللعب. فبرامج التلفزيون أصبحت تحاكي الفيديو كليب بإيقاعها المتسارع وصورها المتشذرة. والإنتاج الثقافي السمعي البصري أضحى يتماهى مع ألعاب الفيديو. لقد كانت ألعاب الفيديو تحاول، ففي العقود السابقة، استنساخ بعض الأفلام السينمائية أما اليوم فقد أضحى إنتاج الأفلام السينمائية يحاول استساخ ألعاب الفيديو، وخير مثال على ذلك الجزء الثاني من فيلم بـــــــ"أنتر ذو متريس" Enter the Matrix.
وهكذا يتضح أن الثقافة التي كانت تشكل خندقا للمقاومة وتجسيد الخصوصية والاستثناء والاختلاف سقطت في التنميط الدولي اللذي شمل العديد من المجالات المختلفة: والاقتصاد، والتشريعات القانونية والتنظيم السياسي. التنميط الذي أخذ صيغة وصفة جاهزة تطبق في هذه المجالات وفي مختلف الدول.
إعادة النظر في تصورنا للمثقف؟
هل يمكن الاتفاق مع ما ذهب إليه المؤرخ الفرنسي كرستوف بروشسن بأن مفهوم المثقف قديم جدا ويجب تحديثه؟[18] وهل يمكن تحديثه دون التأثر بفلسفة النهايات التي طغت على حديث المثقفين في نهاية القرن الماضي، مثل: نهاية التاريخ، نهاية الايديولوجيا، نهاية الأدب؟
أعتقد أن تحديث تمثُّلنا للمثقف تتطلب مراجعة السياقات الوطنية والتاريخية لنشأته، والانعتاق من هيمنة الرؤية اللاتينية للمثقف. فالمؤرخ الإيطالي Traverso يؤكد أن المثقف في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية لم يحظ بالسلطة التي تمتع بها المثقفون في فرنسا وإيطاليا، ولم تطلب وسائل الإعلام رأيهم، بشكل منتظم في أي شيء و لا شيء.[19] بل أن العداء للمثققفين يبدو إحدى خصائص الديمقراطية الأمريكية. [20]
إن الوسائط التي تبرز فكر المثقف وآرائه تعددت اليوم وتنوعت واختلفت كثيرا عن تلك التي سادت في أواخر القرن الثامن عشر. فقد كان لتصريح فولتير ، على سبيل المثال، قوة مؤثرة في المجتمع حسب عالم الاجتماع الفرنسي لورن بونلي لأن عدد المنتديات الفكرية كان محدودا، وكان مجال حرية الصحافة ضيقا، ولم يكن الاقتراع العام موجودا.[21] أما اليوم فقد تعددت أطر الحديث، وتكاثرت المنابر الرقمية ) المدونات الإلكترونية، مواقع الشبكات الاجتماعية، المنتديات الإلكترونية( فاختلطت الأصوات وأصبح المثقف لا يتحدث للجميع، بل لجماعات مختلفة Communautés تشكلت ضمن روابط رخوة ، لأن الجميع تشتت وتشذر. ففي هذه الأصوات المتعددة والمختلطة تحول كل شيء إلى رأي، حسب ما ذهب إليه الفيلسوف والعالم النفساني ميغال بنسياغ [22] الذي رأى أن الكلمة فقدت قيمتها في ظل ما يسمى ما بعد الحداثة حيث أصبح لكل فرد حقيقته. فتساوت الأفكار: فكر من قضى عشرين سنة من البحث في موضوع معين وما يقوله شخص نكرة في مقهى شعبي عن الموضوع ذاته. ليس هذا فحسب، ففي ظل تضعضع المرجعيات ونهاية السرديات الكبرى فأصبحت المجتمعات المتقدمة تعيش أزمة معنى. هذه الأزمة التي اقترنت بنهاية الطوبويات. هذا الأمر دفع ببعض المؤرخين، أمثال الإيطالي أنزو ترافرسو، إلى التأكيد على أن المثقف الذي كان يناضل من أجل تحقيق تصوره لمجتمع المستقبل أصبح منذ الثمانيات من القرن الماضي يحتفى بشكل يكاد يكون دينيا بالماضي. وانصرف إلى إعادة بناء الذاكرة ، خاصة بعد أن تحولت هذه الأخيرة إلى هاجس ثقافي.[23]
إذا اتفقنا مع ما ذهب إليه المؤرخ الإيطالي من توجه المثقف إلى الذاكرة فهل يمكن الاستنتاج بأنه أصبح ماضويا وغير مبال بالمستقبل الذي تلبدت أفقه أم يجب أن نتحرر من النظرة المثالية للمثقف التي اسرت التفكير ردحا من الزمن، والتي تؤمن إيمانا مطلقا بأنه الأقدر دون غيره على إحترام مٌثله وقيمه التي يعلن عنها في العديد من المناسبات، وعلى الاستماتة في الدفاع عن الحقيقة، واستقلالية الفكر وصلابة المبادئ كما يؤكد ذلك الفيلسوف جاك بوفراس.[24]
يجب الإقرار بأن تصورنا للمثقف ارتبط بسياق تاريخي محدد أطرته فلسفة الأنوار التي عمت أوربا وفرنسا على وجه التحديد، في القرن الثامن عشر. الفلسفة التي تدعو إلى انتصار العلم ضد الجهل، وحرية الفكر ضد الاستبداد، والعقل ضد الغيبيات. لكن هل يمكن التمسك بتصورنا هذا رغم زوال السياق التاريخي الذي تشكل فيه المثقف، واتهام فلسفة الأنوار بالخيانة[25] نتيجة سطوة رأسمال، وتزايد التفاوت الاجتماعي، واستفحال الحروب التدميرية.
لذا يمكن القول أن دور المثقف تراجع أمام تقدم الصناعات الثقافية وتسيلع منتجاتها، وسطوة وسائل الإعلام وبحثها الواسع عن النجاعة الاقتصادية. وتراجعت الأطر التي كان يتشكل فيها خاصة الجامعة. فهذه الأخيرة لم تعد تنتج المثقف، لأنها أصبحت تنتج الخبير[26] نتيجة ارتباط مخرجاتها بالسوق، وبحثها المستميت عن الجدوى الاقتصادية. بالطبع أن هذا الخبير ليس ذاته التي صنعته القنوات الفضائية العربية. فالمؤسسات المختلفة في الدول العربية لا تنتظر من الجامعة أن تنتج من يعوض الخبير الأجنبي الذي تستورده لإيجاد حلول لمعضلات تطورها، خاصة بعد أن طلقت هذه الجامعة العقل وتحولت إلى مرتع للغيبيات. فساهمت في محو الفرق بين المثقف العضوي و"التقليدي". فهذا الأخير تحول إلى مثقف عضوي يمارس الفقه الفضائي عبر قنوات التلفزيوني على حد تعبير عبد الله الغذامي.[27]
المراجع والهوامش:
[1] - أنظر على سبيل المثال:
Assouline Pierre ( 1993): Les intellectuels anéantis par la puissance des médias ? consulté le 3 mars 2015 dans http://larepubliquedeslivres.com/mais-ou-sont-passes-les-intellectuels/
Assouline Pierre ( 2013): Où sont passés les intellectuels ? consulté le 3 mars 2015 URL http:// http://www.lesgrandsdebats.fr/Debats/Ou-sont-passes-les-intellectuels/Comment-expliquer-l-eclipse-des-intellectuels-444
Bolter David ( 2013) : The Role of the Intellectual in the Era of Digital Plenitude, consulté le 10 mars 2015.URL: http://www.viveredicultura.it/digital_plenitude
Traverso, Enzo ( 2013): Où sont passés les intellectuels ?
Paris, Éd. Textuel, coll. Conversations pour demain, , 108 pages
Ory Pascal ( 2013): Dés-enchantons les intellectuels; consulté le 3 mars 2015 URL http:// http://www.lesgrandsdebats.fr/Debats/Ou-sont-passes-les-intellectuels/Comment-expliquer-l-eclipse-des-intellectuels-444
Winock Michel: La société du spectacle a tué l'intellectuel traditionnel
consulté le 3 mars 2015 URL http://www.lesgrandsdebats.fr/Debats/Ou-sont-passes-les-intellectuels/La-societe-du-spectacle-a-tue-l-intellectuel-traditionnel-445
[2] - Voir : ): Le Journal (1892-1944 - L’Aurore -( 1987-1914) L'Écho de Paris ( 1884-1944),
[3] - نسبة إلى الضابط الفرنسي اليهودي ألفرد درفيس ) 1859- 1935 ( التي حكمت عليه المحكمة بالسجن مدى الحياة والنفي إلى جيزيرة كيان Cayenne بتهمة التخابر مع الألمان. لقد فجرت قضية هذا الضابط التيارات السياسية والفكرية في فرنسا بين مؤيد ومعارض بعد أن نشر الروائي الفرنسي أميل زولا رسالته الشهيرة المعنونة: أتهم في صحيفة لورو يوم 13 جانفي 1898
[4] - Ben Larbi Sara ( 2013): « Enzo Traverso, Où sont passés les intellectuels ? », Questions de communication, 24 | , 291-294
[5] - عبد الله الغذامي 2005: ''الثقافة التلفزيونية.. سقوط النخبة وبروز الشعبي''، المركز الثقافي العربي، ص 26
[6] - Philippe Sollers : « L’écrit est insubmersible », Entretien réalisé par Yves Harté et Pierre Veilletet , from http://www.revue-medias.com/article.php3?id_article=298, retrieved Janvier 9/2008
[7] - Bourdieu Pierre (1996), Sur la télévision suivi de L'emprise du journalisme, par Pierre Bourdieu, Paris, Liber Editions, p 11
[8] - نصر الدين لعياضي 2003: وسائل الإعلام والمجتمع، ظلال وأضواء، دار الكتاب الجامعي، الإمارات ، ص 171
[9] -Bourdieu Pierre; op cité p 30
[10] - Deleuze Gilles ( 1997): À propos des nouveaux philosophes et d’un problème plus général », supplément au n°24, mai , de la revue bimestrielle Minuit.
[11]- أنظر على سبيل المثال:
Francesco Casetti Roger Odin ( 1990): De la paléo- à la néo-télévision .Revue Communications, 51, Télévisions / mutations. pp. 9-26.
[12] - Sartre Jean Paul ( 1966) : Plaidoyer pour les intellectuels, France, Puf, p 34
[13] - Bouveresse Jacques, (2009 ): « Le philosophe, les médias et les intellectuels », revue Agone, 41-42 | , [En ligne], mis en ligne le 13 octobre 2011. URL : http://revueagone.revues.org/758. Consulté le 13 février 2015. DOI : 10.4000/revueagone.758
[14] - نصر الدين لعياضي 2003 ، المرجع ذاته
[15]- Ramon Chao, Florence Noiville et Marie Delcas ( 2014): l'écrivain-gabriel-garcia-marquez-est-mort, légende de la littérature, le Monde du 17/04/
[16] - Cité par Eveline Pinto ( 2005): « Jacques Bouveresse, Bourdieu, savant & politique », Questions de communication, 7 | PP 470-473.
[17] - نصر الدين لعياضي 2013، عتبات الكلام: الصورة والنخبة والغذامي، صحيفة الخبر، الجزائر ، 15/04
[18] - Prochasson Christophe (2013): Les intellectuels sont toujours là mais… ils parlent dans le vide ; consulté le 5 mars 2015; URL: http://www.lesgrandsdebats.fr/Contributeurs/Prochasson-Christophe
[19] -Tom Bishop 2013 Sartre est mort, pas les intellectuels; http://www.lesgrandsdebats.fr/Debats/Ou-sont-passes-les-intellectuels/Comment-expliquer-l-eclipse-des-intellectuels-444
[20] - أنظر على سبيل المثال القراءة التي قدمتها Marianne Debouzy للكتاب الذي ألفه Richard Hofstadter حول النزعة المعادية للمثقفين في الولايات المتحدة الأمريكية-
Marianne Debouzy ( 1966): L'anti-intellectualisme dans la vie américaine [Richard Hofstadter, Anti-Intellectualism in American Life ] in Annales. Économies, Sociétés, Civilisations. 20e année, N. 4,. pp. 760-768
[21]- Bonelli Laurent ( 2006) : Quand Pierre Rosanvallon fustige un « déficit de compréhension » LE MONDE DIPLOMATIQUE | MAI
-
[22] - ميغال بنسياغ 2014: لا أخ أكبر في الإعلام، ترجمة نصر الدين لعياضي، مجلة الرافد الإماراتية، عدد ديسمبر
[23]- Traverso, Enzo Op cité p 72
[24] - Discepolo Thierry ( 2009):Le philosophe, les médias et les intellectuels, Entretien avec Jacques Bouveresse, revue Agone 41-42 / p. 225-243
[25]- Jean-Claude Guillebaud (1995): La trahison des Lumières, enquête sur le désarroi contemporain; ed seuil; 248 p
[26] - Prochasson, op cité
[27] - أنظر: عبد الله الغذامي) 2011 (: الفقيه الفضائي، تحول الخطاب الديني من المنبر إلى الشاشة، المركز الثقافي العربي