تعتبر أطروحة عبد الله حمودي المتضمنة في كتابه الشيخ والمريد، من أهم الأطروحات التي درست النظام السياسي المغربي، والتي أثارت نقاشات بين الباحثين سواء المغاربة أو الأجانب . فما هي أهم مضامين هذه الأطروحة ؟ وما هي أبرز النقاشات التي أثيرت حولها؟
إن أطروحة عبد الله حمودي تنطلق من فرضية أساسية مفادها تسرب خطاطة ثقافية من مجال الصوفية والولاية إلى المجال السياسي، هذه الخطاطة التي استندت عليها علاقات السلطة واستمدت منها ديناميتها هي في نظره علاقة الشيخ بالمريد [1]. وهدفه من خلال هذه الأطروحة تفسير أسباب استمرار النظام المغربي بعد الاستقلال بعيد عن العوامل الاقتصادية التي تبدو له غير كافية لوحدها .
اقتصر حمودي على ذكر سيرة رجل واحد، تلك التي جاء بها المختار السوسي عن أبيه الشيخ علي الدرقاوي، أحد شيوخ الزاوية الدرقاوية ، هذه الزاوية التي هيمنت على السجال الديني والسياسي خلال القرن التاسع عشر ، وتميزت بدفاعها المستمر ضد الاستعمار [2].
فحسب هذه الترجمة ( سيرة علي الدرقاوي )، تبدأ مرحلة الزهد في البداية بالتخلي عن كل مظاهر الحياة المادية، حتى يصير المريد زاهدا ثم وليا. ولحصول ذلك لابد له من المرور بمرحلة المجاهدة النفسية والتربوية. وتنقسم مرحلة التربية بواسطة الشيخ إلى مرحلتين:
ـ مرحلة التأهيل: تبدأ بقطع الصلة بالوالدين، ويترجم ذلك عمليا بالتخلي عن كل القيم الدنيوية[3].
ـ مرحلة التلقين: إذا كانت مرحلة التأهيل بمثابة عملية نفي للفضاءات والأمكنة والأزمنة الدنيوية فإن مرحلة التلقين يتم عبرها تخريب كل قوى النفس والشهوات الغرائزية؛ فتسهل السيطرة والتحكم في الذات، ويجب على المريد في هذه المرحلة خدمة شيخه تبعا لمجموعة من القواعد تعتبر مفتاح النجاح والإشراقة [4]، حيث يلتزمون بمجموعة من الأمور في حضرة الشيخ كالإطراق والصمت ، ويقومون بكل الأعمال المنزلية التي تمس ذكورتهم من قبيل غسل ملابس الشيخ وإعداد فراش نومه والطبخ له [5] .
إن المرور من مرحلة التأهيل إلى مرحلة التلقين بمثابة محطة أساسية في أدبيات الزوايا. فعبر هذا المرور يسلم المريد إرادته لشيخه لكي يرث سره. وهكذا يرث المريد سر شيخه، فيبدأ في إعادة تكرار نموذج هذا الشيخ: سلوكه، سلطته..المهم أنه شيخ جديد يعيد نفس الدور القديم. وهكذا تعمل ثنائية الشيخ والمريد على تكريس السلطوية، والحفاظ على نسقها عبر عملية إعادة إنتاج نفس الدور، إنه نوع من الهابيتوس حسب تعبير بورديو يجعل المريد يقبل كل ما يطلب منه بأريحية صدر وصبر كبير .
بعد صدور الكتاب تصدى له كثير من الباحثين بالنقد لكن حمودي رد فقط على بعضهم ، وناء بنفسه عن الرد عن الآخرين لأن انتقاداتهم انتقادات سطحية لا تستحق الرد ، وإن كان في حقيقة الأمر قد رد عليهم بطريقة غير مباشرة ، ما يهمنا هنا بالخصوص هو رده على ثلاثة باحثين هم : الجيلالي العدناني، آلان ماهي، نور الدين الزاهي. فما هي انتقادات هؤلاء لأطروحة حمودي ؟
في معرض رده على حمودي يوضح الأستاذ العدناني الاختلاف في نوع المقاربة التي ينوي نهجها فهو لن يدرس خضوع الشيخ للمريد، بل خضوع الولي وقبيلته للقبائل المجاورة ، وكيف أن البنيات الاجتماعية تؤثر على تكون الكاريزما [6] ، ذلك أن القبيلة التي ينتمي لها الإلغي هي قبيلة مرابطية ظلت خاضعة، إلى حدود سنة 1933، إلى وصاية وحماية القبائل المحاربة، وخاصة قبيلتي مجاط وآيت حربيل، وهو ما جعل أعداء الإلغي ينعتونه باليهودي و المرأة اللذان يحتلان موقعا دونيا في الثقافة الشعبية، لكون اليهودي لا يملك الأرض وهو نعث أطلق على علي بن أحمد الإلغي عندما خرج من القرية، أما نعت المرأة فيدل على الموقف المسالم للشيخ وليس لتلك المكانة الدونية للشيخ حسب النظرية الانقسامية ، إن العدناني يريد أن يدرس المفارقة العجيبة التي تتلخص في كون قبيلة نافذة على المستوى الروحي تكون خاضعة اجتماعيا [7] ، وفي سبيل ذلك رد على مجموعة من " الأخطاء " التي وقع فيها حمودي حسب رأيه فهو لا يتفق مع السلطة المقدسة للولي كما صبغها عليه حمودي، وذلك لكون هذه السلطة لا تحترم دائما من طرف المريدين المباشرين، ولا حتى من بعض الأشخاص داخل محيط الولي، حيث أن هناك دائما أخد ورد بين زعماء القبيلة و الأولياء، فالزعماء القبليون يحاولون حصر وظيفة الولي في ما هو روحي ، في حين يعمل الولي على استقطاب الزعماء السياسيين وإقناعهم بالقيم المرابطية التي يحملها [8]، أي كانت هناك علاقات قوة حاضرة دائما بحيث أن الولي لم تكن له تلك الهيبة الكبيرة التي نظر لها حمودي، فسلطة الولي كانت دائما تحث سلطة رؤساء القبائل والزعماء السياسيين المفروضة عليه [9].
أما آلان ماهي فقد أخد على حمودي ثلاثة أمور : إعطاء صورة سلبية عن المرأة ، عدم تطوير أطروحة مارسيل موص حول العطاء و الأخذ ، وعدم الاعتماد على نظرية الحكم عند ماكس فيبر [10].
من جهته أيضا حاول نور الدين الزاهي مسآلة حمودي من خلال الربط بين كتابيه الشيخ والمريد و الأضحية وأقنعتها، ويرى أن خطاطة الشيخ والمريد تنبني على نواتين الأولى تخلي المريد عن رجولته والثانية تتمثل في الهبة داخل المجال السياسي، النواة الأولى اختبرها حمودي حسب رأيه من خلال طقس بولجلود والثانية من خلال شعيرة عيد الأضحى ، إذن فبين بولجلود والعيد مشترك هو الأضحية، فهذه الأخيرة تحضر في طقس بولجلود كي تشخصن في شخصية بولجلود الذي يرتدي جلدها، ويفقد إثرها هويته الذكورية، " إن وضع الأضحية هو المبدأ الذي يدخل في البداية والنهاية الهوية الذكورية والأنثوية في الملتبس . يرجع سبب ذلك إلى كون الأضحية ذاتها تعيش هذا الالتباس لحظة انتقائها واصطفائها كي يكون مبدأ الذكورة مفضلا أو إجباريا ( العيد الأكبر نموذجا ) ، لكن ما يلبث هذا المبدأ يفقد هويته حين تهييئها لفعل النحر. إنها تتزين بالحناء والملح وتدخل عالم الحريم الذي يتكلف بذلك وكان الأمر يتعلق بعروس ( ذكر / أنثى ) ليلة دخلتها ( نحرها ) [11] ، إن المريد يشغل حسب الزاهي وضعية أضحوية، مثله في ذلك مثل الخدم داخل المجال السياسي، ولأن المسافة بين المضحي بالذات والمضحي بالغير أو باسمه ليست قارة وثابتة ، فإن مؤسسة المضحي والتي تجد تشريعها الثقافي والرمزي في المتخيل الديني باستحضار قصة النبي إبراهيم مع ابنه إسماعيل ، هي ما يحتاج إلى إظهار أكبر عدد من الإشارات والملامسات العابرة [12]، إن حمودي حسب الزاهي يعتبر الأضحية والتضحية قتل وإماتة للضحية وبيس تزكية ونحرا طقوسيا، عكس ما ذهب إليه دوركايم وجورج باطاي، بل إنه يفسر من خلالها كل أشكال العنف داخل المجتمعات "العربية الإسلامية" [13]، وآخد الزاهي على حمودي تلك الأوصاف التي أطلقها في كتابه الآخر حول رحلته إلى مكة حيث وصف تسابق الحجاج لرجم الشيطان بالتسابق الوحشي، كما شبه حجز حيوانات الأضحية بمخيمات الحجز والاعتقال، مما يجعل السؤال حول قدرة الأنثربولوجي أن يكون أنثربولوجي قبيلته محط تساؤل ؟[14].
على العموم هذه هي أهم انتقادات هؤلاء الباحثين لأطروحة حمودي، هذا الأخير سيرد على كل واحد على حدا مستشهدا بأقوالهم ومنتقدا لها في نفس الوقت .
فبالنسبة للرد على العدناني فأول انتقاد وجهه عبد الله حمودي للجيلالي العدناني يتمثل في كون هذا الأخير يقدم نقدا يدل عن سوء الفهم و التفاهم، سببه هو عدم التمكن من المنهجية الانثروبولوجية و كذا مفاهيمها، بالإضافة إلى رصيدها المعرفي الخاص بالمجتمع المغربي و العربي [15]، فحمودي يقر بدور البنيات الاجتماعية في تكون الكاريزما، لكن هذا الأمر ليس بجديد، وأما ما جاء به بخصوص وصف أعداء الإليغي له باليهودي والمرأة لكونه لايحمل السلاح، فيظهر أن العدناني ربما لم يسبق له أن قرأ ما كتبه كَلنر لذا حمله ما يلم يقله، وفي ما يخص حماية القبيلة للولي، فيجب التمييز بين ضعف القبيلة من جهة، وضعف الولي، من جهة أخرى، لأن الولي المعترف به – في مرحلة ما – هو نفسه يكون قبل ذلك اعتنق طريقة وترك السلاح والحياة العادية للسواد الأعظم في القبيلة وخضع للتربية ونجح في ذلك قبل الاعتراف به من طرف السلطة الدنيوية [16].
إن خضوع الولي و قبيلته إذا كان صحيحا فانه لا ينفي حسب حمودي مسلسل تربية المريد وخضوعه إبان تلك التربية، لسبب واضح هو أن خضوع القبيلة لا يفسر ولوج طريق التصوف وخضوع المريد خلال مرحلة التربية. وقد لا ينفي شيئا آخر، وهو أن أغلبية أبناء القبيلة الخاضعة لم تلج طريق الولاية [17] .
أما بخصوص انتقادات آلان ماهي فحمودي يقر بالملاحظة الأول المتعلقة بموقع المرأة، أما الملاحظة المتعلقة بنظرية الأخذ والعطاء فهو يتفق مع موص في اعتبار العطاء يحد من العنف، لكن نظرية حمودي تدور حول السلطوية وليس حول العطاء والأخذ، أما بخصوص الملاحظة الثالثة فهي ملاحظة تنم عن خطأ منهجي حيث يقترح كتابا حول نظرية الحكم عند ماكس فيبر ، في حين أن الأطروحة الحمودية تبتعد عن البتريمونيالية الفيبرية ، ففيبر ليس بمرجع في ما يخص المجتمعات الاسلامية ، وحتى المقاربة النفسية التي يقترحها آلان ماهي ليس لديها ما تضيف بهذا الشأن لأن علاقة الشيخ بالمريد ليست كعلاقة الأب بالإبن الموجودة في علم النفس [18] .
أما بخصوص انتقادات الزاهي فحمودي يعترف بكون قرأته تميزت بتلخيصات واضحة ومنتظمة استوعبت الخطوط العريضة للمشروع، لكنه وقع في بعض الأخطاء مثل كتابته لبولجلود و الأضحية على عكس ما ينطقها الناس ( بوجلود ، الضحية ) وهذا له أهميته في حقل الأنتربولوجيا [19]، كما لم يستعب أولية الأضحية وطقوسها، فبلماون يقام بعد العيد، ويربط به، وبعاشوراء خلال الأربعينية المحدودة في كل حول لإقامة تلك الشعائر والاحتفاليات [20].
أما ما قاله الزاهي بخصوص اعتماد حمودي على الأضحية لتفسير العنف في المجتمعات "العربية الإسلامية" فهو مجرد اختراع محض يدوس الأعراف و الأخلاق العلمية حسب حمودي، وهذا راجع إلى تأثر الزاهب بروني جيرار الذي يتحامل كثيرا على الإسلام ويعتبره ديانة مؤسسة على العنف على عكس المسيحية [21]، واعتباره وضعية الشيخ والمريد لها علاقة بالقصة الابراهيمية، فذا خطأ لأن إسماعيل ليس بمريد ولم يسبق له أن أونت رمزيا على غرار ما يقع للمريد، وابراهيم ليس بشيخ فلا تربية على النبوة [22]، إن العلاقة هنا علاقة من نوع آخر .
على سبيل الختم :
إن الحوار الأساسي حول الكتاب كان بين التاريخ والأنتربولوجيا ، لذا لم يكن مستغربا ذلك النقاش الحاد بين حمودي والعدناني، وذلك راجع لاختلاف منطق اشتغال كل واحد منهما، فالمؤرخ يعتمد على التحقيب، والسند التاريخي، والتعامل مع الوثيقة، والواقعة التاريخية حسب المؤرخ واقعة متفردة في زمان ومكان معينين، موردا في ذلك تفاصيل دقيقة للأحداث، ولا يقترح نماذج تفسيرية إلا في بعض الحالات، في حين أن الأنتربولوجي يعتمد على الميدان ومن بعد يدخل إلى معركة التفسير بواسطة نموذج نظري، هذا النموذج يستلزم نوعا من التعميم ، والمقارنة بين الحالات رغم أنها قد تكون متباعدة في الزمان والمكان، والتفاصيل عند الأنتربولوجي لا تمس الإطار النظري خاصة إذا كان التفصيل صغيرا ومنحصرا في الزمان والمكان على غرار التفاصيل التي جاء بها العدناني فيما يخص الإلغي. وعلى كل حال يبقى الحوار بين التاريخ والأنتربولوجيا حوارا ملحا شريطة فهم كل واحد لمنطق اشتغال الآخر .
[1] عبد الله حمودي ، الشيخ والمريد النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة ، ترجمة عبد المجيد جحفة ، دار طوبقال للنشر ، ط 4 ، 2004 ، ص 27 .
[2] حمودي ، م ن ، ص 114
[3] م ن ، ص 118
[4] م ن ، ص 121
[5] م ن ، ص 125
[6] Jillali El Adnani , les saints a l’éprouve du pouvoir : histoire d’une sainteté et anthropologie d’une culture , hesperis-tamuda , vol . XLIII, 2008 , p 62.
[7] Ibid.p 66
[8]Ibid. p 89
[9] Jillali El Adnani , op cit , p 94
[10] Alain mahé , Abdellah Hammoudi , master and disciple . the cultural foundations of Moroccan authoritarianism , in : l’Homme , 1999 , tome 39 , n 149 , pp 245-246.
[11] نور الدين الزاهي ، في الأسس الثقافية للسلطة ، مجلة المغربية ، العدد التاسع عشر مارس 2002 ، ص 29
[12] نور الدين الزاهي ، م ن ، ص 30 .
[13] نور الدين الزاهي ، المدخل إلى علم الاجتماع المغربي ، دفاتر وجهة نظر (20) ، ط1 ، 2011 ، ص 104 .
[14] نفسه ، المدخل ، ص 105 .
[15] عبد الله حمودي ، الشيخ والمريد ، ص 270
[16] نفسه ، ص 274
[17] نفسه ، ص 277 .
[18] حمودي، الشيخ والمريد ، ص ص 281 282 .
[19] نفسه ، ص 288 .
[20] نفسه ، ص 289.
[21] نفسه ، ص 293 .
[22] نفسه ، ص 294 .