أحد الإبتكارات الأصيلة عند ميشال دو سارتو (مفكر ومؤرّخ فرنسي 1925-1986) هو بلورته المفهومية لثنائية «الإستراتيجية» و«التكتيكية» في قراءة المجتمع المعاصر. هذه الثنائية ليست جديدة لأنّها تركّب المعجم التقني للعمليات الحربية والمناورات العسكرية. لكن الأصالة المفهومية التي تحلّى بها دو سارتو هي إزاحة المصطلح من نظرة «حربية» إلى نظرية «إجتماعية» و«سياسية» دون التخلّي عن الدلالة الصراعية التي تنطوي عليها.
تتضمّن الإستراتيجية في بعدها الاشتقاقي ما يسمّيه الإغريق «بوليموس» (polemos) بمعنى الصراع والذي كان يرى فيه هيرقليطس «أب الأشياء جميعاً» (polemos pantôn mèn pater) ومنه انحدر مصطلح السجال أو الجدال (polémique) لما يحتمله من أخذ وردّ، الفعل وردّ الفعل، المناظرة، إلخ. فهو لا ينفكّ عن نمط صراعي في التعامل أو التداول.
الرصيد والصفقات: بين النسق واستعمالاته.
يشتمل البعد الصراعي على الإستراتيجية والتكتيكية، الأولى تنتظم وُفق مخطّطات أو بيانات أو قرارات هي نتاج التخمين أو التدبير أو المداولة بين أصحاب القرار ؛ والثانية تتدخّل في الميدان حسب الفرص المتاحة والعمليات المعقّدة التي يتمّ إدارتها. فالإستراتيجية هي نوعاً ما «نخبوية» لأنها تتطلّب المشاورة والتفكير الدقيق والمداولة وغيرها من الممارسات الفكرية التي تدوم في الزمن وتتطلّب الرؤية المعمّقة ومعالجة كل السيناريوهات الممكنة. بينما التكتيكية هي «آنية» أو عابرة لأنّها مجرّد تدابير ينبغي أخذها في الميدان، خصوصاً في اللحظات المعقّدة وغير المتوقّعة مثل المعارك. لا شكّ أنّ غاستون بوثول عالج بشكل دقيق ومفصّل كل هذه العمليات في كتابه رسالة في الدراسات الحربية(1) وهو أوّل كتاب يعالج الحرب كظاهرة معرفية تُدرَس بأدوات علمية. فهو يعتبر الدراسات الحربية كعلم في الصراع قصد تحديد الآليات والعمليات والمقاصد والنتائج والآثار، أي سيرورة متماسكة ومنطقية بمعزل عن القراءات الأخلاقية أو السياسية التي ترى في الحروب أو العداءات ظواهر غير إنسانية وغير أخلاقية. لا شكّ أنّ الأمر هو كذلك، خصوصا في النتائج المروّعة التي تعود بالوبال على الأفراد أو الجماعات أو الممتلكات. لكن مسوّغ الدراسات الحربية التي عمل غاستون بوثول على بلورتها وتنظيرها ليس هو نتائج الصراع وإنّما مقدّماته بمعنى دوافعه أو حيثياته أو سلوكاته الواعية أو غير الواعية، إلخ.
ينطلق دو سارتو بلا شكّ من هذه الفكرة في إثراء هذه الثنائية وقراءة المجتمع بموجبها. والملاحظ أنّ السوسيولوجي والفيلسوف هنري لوفيفر كان قد استثمر هذه الثنائية في مشروعه الضخم، ذي التوجّه الماركسي، نقد الحياة اليومية(2) وكان دو سارتو قد استفاد من أفكار لوفيفر. فهذا الأخير يعتبر أنّ الأفراد في المجتمع يواجهون صعوبات أو عوائق وأنّ مصيرهم أو مستقبلهم غير محدّد المعالم. فيتّخذون التدابير أو الإجراءات المواتية قصد تجنّب هذه المعضلات أو التقلّبات. فهم يختارون أفضل الوسائل من أجل أحسن النتائج، وفي الاختيار تكمن حصافتهم أو براعتهم في تفادي العوائق والظفر بالنجاحات. فهم يملكون الرصيد (الطابع الإستراتيجي)، أيّاً كانت طبيعته، فكري أو يدوي أو جمالي، ويملكون الصفقات (الطابع التكتيكي) وهي العمليات التي يقودونها ببراعتهم الخاصّة. بهذا المعنى يختزل لوفيفر الفعل البشري إلى هذه الثنائية، بين رصيد وصفقات، أو بين رأسمال ومعاملات، أو بين إرث واستعمالات، أي بين إستراتيجيات وتكتيكات. فهو يضع الإستراتيجية إلى جانب التقدّم أو التحضّر أو العقلانية أو الثورة، بينما يعزو التكتيكية إلى الانعزال أو التقهقر أو الأفول أو الإغتراب :
«إنّ اللحظات التي تسود فيها الإستراتيجية هي اللحظات التاريخية الكبرى ولحظات الفوران. تضفي الإستراتيجية المعنى على الجماعات وعلى حياتهم. المعنى هو توجّه أو إرشاد أو تعبير أو هدف وليس تكهّناً هادئاً ينبغي الحصول عليه فلسفياً بفضل المتخصّص أو الفيلسوف. المعنى هو دراما تؤسّسه إستراتيجية الجماعات أو تبتكره »(3).
والتكتيكية من هذا المنظور هي انغماس الأفراد أو الجماعات في ما يسمّيه «تفاهات الحياة اليومية». لا شكّ أنّ أطياف ماركس توجّه بشكل لا شعوري أفكار لوفيفر عندما يجعل من الإستراتيجية لحظة الدراما أو الاحتدام أي اللحظات الثورية، بينما التكتيكية هي اللحظات الروتينية والابتذالية حيث يمثّل المجتمع الإستهلاكي إحدى تجليّاتها. لكن لا يعزل لوفيفر الإستراتيجية عن التكتيكية لأنّ الوعي الفردي أو الجماعي لا ينفكّ عن التحوّل والارتقاء كما تؤمن به المادية الجدلية والمادية التاريخية في الخطاب الماركسي. غير أنّ لوفيفر يشكّ في الغايات السرمدية كما تبديها كلّ فلسفة جدلية بنفي النقيض. فهو يتحدّث عن تحوّلات رجعية (أو «رجئية» إذا استعملنا مصطلحاً تفكيكياً) لا تنفكّ عن العَوَد والارتقاء دون إلغاء التناقضات. بين الإستراتيجية والتكتيكية هناك تناوب: بين ضرورة وإمكان، بين صرامة وهشاشة، بين جدّ وهزل، بين دراما وكوميديا، إلخ.
يستثمر ميشال دو سارتو بذكاء هذه الثنائية كما عالجها لوفيفر في نطاق توجّهه الماركسي. فهو يضفي دلالة أخرى مغايرة تماماً عن التصوّر الماركسي للوفيفر. ليست الإستراتيجية عنده جملة الأحداث الثورية اللامعة ولكن تجسيداتها المؤسّساتية في السياسة والدين والمعرفة العلمية. بتعبير آخر، الإستراتيجية هي «الجسد» المؤسّساتي (منظومة، نسق، قالب) لسياسة أو إيديولوجيا أو مختبر علمي لما ينطوي عليه من علاقات في القوّة وتعابير في التصنيف والتقييد وتدابير في العزل والإقصاء. وليست التكتيكية اللحظات الهزلية أو الاستهلاكية أو الإبتذالية وإنّما القوى المبعثرة لأفراد أو جماعات وهي قوى تجوب حقل الإستراتيجية لانتهاز الفرص بحِيَل أو براعات قصد تحقيق هدف أو مرمى.
«أسمّي إستراتيجية حساب العلاقات في القوّة الذي يصبح ممكناً عندما تُعْزَل «ذات لها إرادة» عن بيئتها (مهما كان شكل هذه الذات: شركة أو حاضرة أو مؤسّسة علمية). نحصل إذن على محلّ خاصّ تتّصل من خلاله القوى المحسوبة بالخارج: يتعلّق الأمر بالموديل المكيافيلي الذي يميّز المكان عن الفعل. بناءً على هذا النمط الإستراتيجي شُيِّدت العقلانية الرسمية، السياسية والعلمية والاقتصادية»(4).
يتطلّب هذا التعريف بعض الإيضاحات والتفكيرات:
أوّلاً، في الإستراتيجية يؤكّد دو سارتو على أهمّية «الحساب» لأنّ العقل هو أساسا الحساب كما يوحيه أحد اشتقاقاته، أي قدرته على إدارة العمليات المعقّدة أو استنباط النتائج من المقدّمات ؛ وهو أيضاً عقل تصنيفي بإنشاء الجداول والمراتب والشبكات. هذه التقنيات (الحساب والتصنيف) هي إرادة في القوّة أو سلطة، تتسلّح بها الذات قصد عزل أو ترتيب مواضيعها. والذات هنا هي «ذات جمعية» بمعنى مؤسّسة أو منظومة. يتعلّق الأمر بشركة أو جيش أو مُختبر.
ثانياً، يراهن دو سارتو على أهميّة «المحل الخاصّ» أو المكان الخصوصي الذي يجعل بينه وبين موضوعه الخارجي مسافة ضرورية لكلّ تعقّل أوفهم أو عزل: مثلاً الجيش تجاه العدوّ، الحاضرة أمام البادية، المؤسسة العلمية مقارنةً مع مواضيعها المستعصية (كما عالج ذلك ميشال فوكو: الجنون، الموت، الآخر، إلخ). يتعلّق الأمر إذاً بهويّة أمام غيرية ينبغي تطويعها أو قهرها قصد التحكّم فيها أو دراسة أغوارها ومكامنها. فالمحلّ الخاصّ هو المكان الذي تتضافر فيه القوى وتتوزّع المهامّ و تنشأ التداولات قصد بناء خطاب “حقيقي” (عقلاني أو علمي أو سياسي أو إيديولوجي) حول مواضيع التي هي عرضة للإقصاء أو الحجز. إنّه محلّ التداول و صناعة القرارات.
ثالثاً، بالإشارة إلى المكان الخاصّ كمحلّ للعقلانية والقرار العلمي أو السياسي، يعتبر دو سارتو أنّ الإستراتيجية هي انتصار المكان على الزمان. لأنّ في المكان أي في المؤسّسة الانضباطية، السياسية منها والإقتصادية والعلمية، يمكن توزيع القوى والحفاظ عليها. ويمكن أيضاً، كما ذهب إلى ذلك فوكو في قراءته لجيريمي بنثام، إنشاء «البانوبتيكون» (أو «العين الحلولية»، أو المراقبة المعمّمة) قصد العزل أو الرقابة. يتعلّق الأمر إذاً بمعرفة (منظومة سياسية أو علمية أو اقتصادية) ذات غاية سلطوية.
هذا بشكل موجز الخاصيّات الأساسية للإستراتيجية، فماذا عن التكتيكية؟
«أسمّي بالمقابل تكتيكية حساب القوى التي تفتقر إلى محلّ خاصّ وإلى حدّ يميّز الآخر ككليّة مرئية أو جليّة. فليس للتكتيكية من مكان سوى مكان الآخر. فهي تؤدّي أدوارها داخل نص أو نسق الآخر. فهي تتسلّل فيه بشكل متشظّ دون أن تقبض عليه تماماً، بمعنى دون أن تستبعده. فليس لها قواعد يمكن من خلالها أن تموّل فوائدها. فهي تنحصر في اللحظة، بينما الإستراتيجية هي دوماً انتصار المكان على الزمان »(5).
أولاً، نفهم من هذا التحديد أنّ التكتيكية تفتقر إلى مكان خاصّ، فليس لها موضوع معزول يمكنها الإحاطة به بأدوات معرفية ذات غايات سلطوية. فالتكتيكية تخضع إلى القانون الذي يحكم الإستراتيجية. هي بمثابة «الدخيل» أو «المتطفّل» الذي يحلّ في مكان ليس مكانه، ولكن يستملكه أو يجوبه على سبيل التجوُّل دون الإقامة فيه.
ثانياً، في التكتيكية تنعدم الرؤية البانوبتيكية ذات الأبعاد الرقابية والسلطوية. فهي حركة دؤوبة وخفيّة. تشتغل في مواقع الظلّ أو الغياب. تجوب الأمكنة والأروقة.
ثالثاً، خلافاً للإستراتيجية التي تنبني على المكان، تتحفّز التكتيكية بالزمان، الزمان الهيرقليطي الذي هو سيلان دائم أو حركة متموّجة. فهي تربط علاقة وثيقة بالفرصة، أو «الكايْروس» (kaïros) كما يسمّيها الإغريق. التكتيكية هي انتهاز الفرص المتاحة في اللحظات الملائمة.
النسق اللغوي كمَثَل إستراتيجي و تكتيكي
من الملاحظ أنّ هذه الثنائية لها علاقة وطيدة بثنائيات لعبت أدوارا هامّة على صعيد العلوم الإنسانية، وخصوصاً في الألسنية، مثل المنطوق/فعل التعبير (énoncé/énonciation)، اللغة/الكلام (langue/parole). مثلما أنّ المنطوق هو نسق من العبارات، فإنّ فعل التعبير (أو ما يسمّيه التداوليون في اللغة speech act) هو ممارسة فعلية للمنطوق. أيضاً اللغة هي نسق من العلامات، والكلام هو استعمال فعلي أو ممارسة فعّالة للغة كما ذهب إلى ذلك إميل بنفونيست (E. Benveniste) على خطى دو سوسير (F. De Saussure). بالقياس، الإستراتيجية هي أيضاً نسق من الأعراف أو القواعد والتكتيكية هي استعمال فعلي من شأنه أن يزيح هذا النسق عن مرماه الأصلي. اللغة مثلاً هي قواعد صورية أو منظومة من التشكيلات الخطابية تتّخذ دلالتها الحقيقية عندما تُستعمَل أي عندما يتدخّل المتكلّم (أو الذات الناطقة) في التعبير عن شيء ما. فلا تصبح اللغة فعلية سوى عندما يستعملها الفرد في مبادلاته اليومية من أقوال أو أفعال أو إجراءات أو أداءات.
لكن من الملاحظ أنّ نسق اللغة هو نسق افتراضي أو اعتباري (virtuel) ولا يصبح فعلياً سوى عندما يُمارَس. بينما الإستراتيجية هي نسق واقعي لأنّها جسد مؤسّساتي هو جملة القوانين والعلاقات في القوّة التي تمنح لهذا الجسد تماسكه العضوي وبنيته السلطوية. لكن دو سارتو يقوم بمقاربة صورية بين نسق اللغة ونسق الإستراتيجية ليبيّن كيف أنّ اللغة هي فضاء من العلامات ترتدّ إلى خطاب بوجود عوامل موضوعية مثل المتكلّم (locuteur) والسياق (contexte) والإستعمال (usage)، والإستراتيجية هي أيضاً هيكل من القوانين والقواعد مخصّصة للاستعمال والتداول. ففي الإستعمال (usage, use) يكمن الوجه العملي للغة، والبعد التكتيكي للإستراتيجية. لأنّ الإستعمال هو استعمال فردي في سياق معيّن، بمعنى سلوك فرداني منعزل عن غيره من السلوكات. وجملة السلوكات داخل مؤسّسة معيّنة وموجَّهة نحو أغراض أو أهداف تؤسّس الإستراتيجية في بعدها المعرفي والسلطوي. ولكن إذا كانت التكتيكية تشتغل خُفيةً في المكان المربَّع والمراقَب للإستراتيجية، كيف يمكن التفريق بين ما هو «إستراتيجي» ونتاج سلطة أو علاقات في القوّة، وبين ما هو «تكتيكي» حصيلة أفعال فردية ببراعاتها الذاتية واشتغالاتها الآنية؟
إذا كان دو سارتو لا يعزل الإستراتيجية عن التكتيكية، لأنّ هذه الأخيرة ليس لها من محلّ خاصّ سوى المكان الإستراتيجي، فهو يعتبر أنّ الأفراد الذين يَنْضمّون إلى مؤسّسة معيّنة (سياسية، علمية، اقتصادية، أو المجتمع باختصار) لا يخضعون بالضرورة إلى القوانين القهرية لهذه المؤسّسة سوى على سبيل الإلتزام الظاهر. فهم يشتغلون في الخفاء لصناعة أنماط في السلوك مرنة ومفتوحة، أو لإزاحة هيكل الأعراف باستعمالاتهم الذاتية. لأنّ الإستعمال في سياق مؤسّسة أو مجتمع هو على غرار التأويل لنصّ معيّن (فلسفي أو ديني أو أدبي)، بمعنى «دلالة» فردية بمعزل عن «المعنى» المفترض للنصّ. للنصّ معنى ثابت تدلّ عليه ماديّته اللغوية أو «شيئيته النصيّة» كما يسمّيها بول ريكور، والدلالات المتعدّدة أو المتضاربة أو المتناقضة هي نتاج تأويلات فردية أو رؤى ذاتية مرتبطة بكل فرد على حِده، أي بتاريخه الشخصي وبسياقه التاريخي والثقافي وبحدوسه أو إدراكاته. فلا يخضع القارئ للنصّ، أو ما أسمّيه «الفاعل التأويلي»، وإنّما يزيحه تبعاً للسياق والغرض والظرف. فلا تتطابق دلالاته مع «المراد الدلالي» للنص، لاختلاف المعطيات والسياقات والأزمنة والإرادات.
يتعامل دو سارتو مع المؤسّسات المعرفية والسلطوية بالمنطق نفسه. التكتيكية هي إرادات الأفراد داخل الإستراتيجية وهي، بلا شكّ، إرادات متعدّدة ومتناقضة، لها سلوكات تختلف حسب الظروف أو المعطيات أو القرائن. وعلى غرار «التأويل» في اللغة، يصبح «الإستعمال» هو المعيار الأساسي في الأفعال أو الأداءات الفردية. لكن إذا كانت التكتيكية هي الإرادات أو الرغبات الفردية، فإنّ دو سارتو لا يختزل المجتمع إلى جملة هذه الإرادات، لأنّه يَعْتَبِر، على غرار الدراسات الإجتماعية التي تعطي الأولوية للكلّ على الجزء أو الفرد (holisme)، أنّ العلاقات هي في جوهرها علاقات «إجتماعية»، فلا يمكن الإعتداد بما يُسمّى «بالذريّة الإجتماعية» (atomisme social). فالعلاقات الإجتماعية تحدّد الأفراد، وفي كلّ فرد هناك علاقات أو تعدّديات تميّزه والتي تربطه بهذه العلاقات الإجتماعية. فليست المسألة قضيّة «ذات» منعزلة أو شظيّة فردانية، وإنّما أنماط الفعل أو أشكال الأداء التي تحدّدها. ولا ريب أنّ هذه التحديدات تعكس المجتمع بوصفه حقلاً للصراع أو حلبة للنزاع، وفي هذه الخاصيّة «البوليموسية» تكمن هوية كلّ مجتمع، بمعزل عن هويّاته الثقافية أو التاريخية. فالأفراد في صراع دائم ليس فقط ضدّ بعضهم البعض تبعاً للخيارات أو الفوائد التي يسعى كل فرد للذود عنها، وإنّما أيضاً ضدّ النسق الإستراتيجي الذي يشتغل أو يتحرّك فيه هؤلاء الأفراد. حركتهم هي بمثابة السلوك التكتيكي، الخفي أو المتواري، داخل التربيع الرقابي للإستراتيجية.
أولوية الصراع: هذا «الذكاء» الذي «يذكي» الممارسات.
إذا كان دو سارتو يوافق فوكو على الطابع «الجَبَروتي» لتقنيات الانضباط والمعاقبة في كلّ مجتمع تسوده المؤسّسات البيروقراطية المعقّدة، فإنّه لا يوافقه على اختزال المجتمع في رمّته إلى «سجن» مُغلَق ومراقَب. لأنّ هناك مداخل أو مخارج أو معارج يمكن للأفراد (البُعد التكتيكي) اتّخاذها أو العبور بها دون مغادرة حقل الإنضباط أو الاستحكام (البُعد الإستراتيجي). وتتبدّى هذه التجاويف أو الترشّحات أو التسرّبات التكتيكية في طريقة «الإستعمال»، أي في أنماط التعبير أو أشكال التدبير التي هي ليست «تطبيقات» لقواعد وإنّما «إستعمالات» وجيهة وموجَّهة، نتاج مراس ذكيّ أو عمل نبيه. فالأمر إذاً هو صراع بين الإستراتيجيات المقنَّنة والمُمَأْسسة والتي تتبدّى في العقلانيات المعاصرة، السياسية منها والعلمية والإيديولوجية، وبين التكتيكات المتوارية والشبيهة بدبيب النمل، والتي تتراءى في الاستعمالات اليومية ذات البعد الجمالي أو الخلاّق كسلاح للمقاومة. فلا شكّ أنّ الصراع، في المعادلة الإجتماعية «الإستراتيجية-التكتيكية»، هو القالب الجوهري لكلّ مجتمع معقّد تسوده مؤسّسات معقّدة وعلاقات مركّبة ومرتبكة. هذا ما يؤكّد عليه دو سارتو في جوابه على أسئلة لوي كيري:
« ينبغي علينا أن نعيد الإعتبار للمظهر «الصراعي» في كلّ تحليل ثقافي. عندما نعرض مسألة الممارسة – بمعنى العمليات – فإنّنا نسلّط الضوء على مشكل الصراع. هذا ما تبيّنه مثلا الإبستمولوجيا في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين مع ماركس وفرويْد. فلا يمكن إقامة أيّ تحليل (علمي أو نقدي) بغضّ النظر عن الصراع. فالصراع هو أمر أساسي مثل البُعد الإقتصادي والأخلاقي والجمالي للممارسات اليومية »(6).
طبعاً لا يفهم دو سارتو «الصراع» في دلالته الضيّقة ذات الحكم الأخلاقي والتي ترى فيه الشرّ أو الشكل اللاإنساني للنزاع والنبذ. هذه الدلالة هي مجرّد صنف محصور من نوع أكثر شمولية أو كونية، وهو صنف ركّز عليه توماس هوبس في التنّين عندما قرّر «بحرب الكلّ ضدّ الكلّ» (Bellum omnium contra omnes). الصراع الذي يعنيه دو سارتو هو ما أشارت إليه الفلسفات السابقة على سقراط، أي الصراع كإرادة أو نار حيّة تنساب في كلّ كائن أو تتسلّل في كلّ حقيقة كونية: فالصراع، أب الأشياء كلّها، يميّز أيضاً العالم الحيواني والمعدني والنباتي، وأيضاً عالم الأفكار والتصوّرات والتمثّلات. يذهب الخطاب العرفاني إلى أبعد من ذلك عندما يعمّم الصراع أيضاً على عالم الألوهية، عندما يتحدّث ابن عربي عن «اختصام الملأ الأعلى»، وعندما قال سعيد الخرّاز بأنّه عرف الحقّ بجمعه بين الضدّين عندما تلا الآية «هو الأوّل والآخر، والظاهر والباطن» (الحديد، الآية 3)، وهو ما قاله أيضاً القديس يوحنّا الصليبي (Saint Jean de la Croix). فالصراع هو أصل الأشياء أو البحر الجامع الذي تسبح فيه الحقائق مهما تعدّدت أو اختلفت أو تخالفت.
ولكن دو سارتو لا يبقى على صعيد التصوّر الميتافيزيقي للصراع، ولكن يتفحّص تجليّاته الإجتماعية كما تعبّر عنه الثنائية «الإستراتيجية-التفكيكية»، ويبحث عن آثاره أو بصماته في الابتكارات اليومية أو الإبداعات الجمالية، مثلما تقصّاه فرويْد في الأغوار اللاشعورية: الرغبات والهواجس والضغائن والأحلام والأوهام. بهذا المعنى عمل دو سارتو على استقصاء أوجه الصراع في الحقل الإجتماعي بناءً على هذه الثنائية ويرى أنّ هذه الأوجه تتجلّى في طرائق العيش التي تفلت من التنميطات الإشهارية أو في الأذواق الجمالية التي تفرّ من الزواجر الإيديولوجية. فالممارسات اليومية تنطوي على طاقة فاعلة سمّاها الإغريق «الميتيس» (mètis) أو الحيلة الخلاّقة والدفينة(7)، وهي نار فنيّة (pûr teknikon)، ذهنية، أو ذكاء، «يذكيها» الفاعل الإجتماعي ليرى بها ويتفحّص بفضلها، على غرار المصباح في العتمة الحالكة. وهذه النار الفنيّة والذكيّة التي نذكيها في معاملاتنا وسلوكاتنا هي ذات بعد تكتيكي في مواجهة العقلانيات المركّبة والبيروقراطية ذات محتوى إستراتيجي.
إذا كان دو سارتو يعمّم الصراع ليجعل منه حقيقة كونية قبل أن يكون ظاهرة إنسانية، فلا شكّ أنّ الإستراتيجيات العقلانية تصبح بدورها تكتيكات ذكيّة في مواجهة أعراض الطبيعة أو مخاطر الوجود مثل الأمراض والأوبئة والفقر والتصحّر والعوامل المناخية وغيرها من الظواهر التي لا نتحكّم فيها ولكن نتوقّى منها بتقنيات أو ابتكارات أو سلوكات. فلا بدّ إذاً من طوارئ أو عوارض قصوى، مستقلّة عن الإرادة الإنسانية، لكي تتحوّل الإستراتيجية إلى تكتيكية، أو لنقل أنّ الممارسات المعرفية أو السلطوية في الأمكنة الإستراتيجية تصبح ذات نزوع تكتيكي. يذهب دو سارتو إلى أبعد من ذلك عندما يجعل من التكتيكية القبلي الصوري للإستراتيجية، مع أنّ هذه الأخيرة هي القبلي الواقعي أو التاريخي للتكتيكية. لأنّ الحِيَل الخلاّقة أو الذكاءات أو المهارات التي تتسلّح بها الإستراتيجيات هي عريقة وكونية، توجد في كلّ كائن تدفعه الحاجة إلى الدفاع عن وجوده أو الذود عن حياته. فهي تكتيكات دفينة في كيفية تفادي المخاطر أو الوقوع في الأفخاخ.
هذه التكتيكات لها خاصيّة الحيلة (ruse) في إحباط مخاطر الوجود أو الخروج من عتمته بمصابيح الذكاء. لأنّ التكتيكية هي في جوهرها حيلة أو خديعة ليس بالمعنى الأخلاقي (لأنّ هذا المعنى يحجب الدلالة الإبستمولوجية والنقدية) ولكن بالمعنى الوجودي في تفادي المخاطر أو الأهوال، أو التفاني في الابتكارات الجمالية أو الصناعات الفنيّة. فالحيلة تلبّي حاجيات الكائن في الضرورات القصوى التي تتطلّب القرار العاجل والانتباه الفوري، خلافاً للتعقّل الإستراتيجي الذي يتطلّب التمعّن الهادئ أو التدبّر الدقيق. لأنّ هذا التعقّل يشتغل في الفترات الساكنة أو الهادئة، بينما الحيلة التكتيكية تمارَس في اللحظات المضطربة أو الهائجة. لا شكّ أنّ هذه الثنائية التي عمل دو سارتو على تطويرها وإعادة فهمها تتطلّب قراءات معمّقة وتفكيرات متعدّدة، لأنّها ترتبط بالمفاهيم الكبرى التي تشكّل اليوم لُحمة التفكير الغربي سواء تعلّق الأمر باللسانيات (اللغة-الخطاب) أو الأنثروبولوجيا (الطبيعة-الثقافة) أو الفلسفة (العقل-الهوى) أو النفسانيات (الشعور-اللاشعور) وغيرها من المعارف أو الفنون.
الهوامش
1- Gaston Bouthoul, Traité de polémologie, Payot, 1972.
2- Henri Lefebvre, Critique de la vie quotidienne, 1947 : Critique de la vie quotidienne, II- Fondements d›une sociologie de la quotidienneté, 1961. Critique de la vie quotidienne, III- De la modernité au modernisme, 1981.
3- هنري لوفيفر، نقد الحياة اليومية، 2- أسس في سوسيولوجيا اليَوْمانية، ص.138
4- ميشال دو سارتو، «ممارسات يومية»، الثقافات الشعبية، تحت إشراف ج. بوجول و ر. لابوري، تولوز، 1979، ص. 13 ؛ إبتكار الحياة اليومية، 1- فنون الأداء، باريس، غاليمار، ص.59
5- المرجع نفسه، ص. 60
6- لوي كيري، «العلوم الإجتماعية أمام عقلانية الممارسات اليومية: أسئلة إلى ميشال دو سارتو»، المشكلات الإبستمولوجية للعلوم الإجتماعية، باريس، منشورات المركز الوطني للبحث العلمي، 1983، ص. 86
7- أنظر المقدّمات من كتابنا: الإزاحة والإحتمال، الجزائر-بيروت، منشورات الإختلاف والدار العربية للعلوم، 2008.