يعتبر جاك بيرك من بين المفكرين البارزين في مجال العلوم الإجتماعية ، و لعل أساس التفكير في الإهتمام بأعماله راجع إلى أهمية هذا الإنتاج نظريا و منهجا . تجاوزت أعماله المئات من الكتب و المقالات و الحوارات : بدءا بالمونوغرافيات ، مرورا بالعمل الإثنولوجي المتميز حول سكساوة بالأطلس الكبير ، و صولا إلى ترجمة القرآن الكريم و الأحاديث النبوية ، و خلال ما يزيد على خمسين سنة عايش السلوكات العربية ، و إحتك بها ، و تفاعل معها من أجل فهمها في ماضيها و حاضرها و كيفية توجهها نحو المستقبل . فجاك بيرك ما فتئ خلال مشروعه الفكري برمته ، يبلور إشكاليات و مقاربات و مفاهيم بعيدا عن الطرق المعبدة و عن حدود التخصصات و تقسيم الأجناس ، مازجا بين النظري و العملي في سعيه للإلمام بالواقع العربي في غناه و تعدديته ، وفي أبعاده المحلية و الكونية ، و مهما تعددت و تنوعت موضوعات هذه الإشكاليات يبقى مركزها الإنسان العربي في تعابيره ، في نجاحاته و إخفاقاته ، في عنفه و ليونته ، في إقدامه و تردده ، و في سعيه إلى إثبات وجوده مع الأخر و بالرغم منه " حسن المجاهيد .
لم يكن جاك بيرك رجلا عاديا البتة ، و لا مثقفا منمطا مبتذلا ، رخيص القيمة و لا المعنى ، تستطيع عجلة الزمن الجاحدة أن تلفه بسهولة دونما مقاومة أو إمتعاض ، كما لم يكن مفكرا مريدا لأمهات الأفكار العابثة التنقيصية ، أو تبعيا منساقا وراء موضة التحليلات المبتورة الرثة ، أسيرة الحكم المسبق و التنظير الفاجع المشوه ، و لم يكن متأثرا بنظريات جرداء يأكلها التقزيب و التقزيم ، كما لم يكن زائفا رخوا تسهل إمكانية طيه و تهميشه في مهملات التاريخ ، أو تقويضه في مزبلة المعرفة و التفكير ؛ كما لم يكن ضعيفا هشا يسهل على التاريخ نفسه ، عجنه و سحقه بآليات التجدد أو النسيان ، كما لم يكن أيضا باهتا هجينا ، تسهل على حتمية التاريخ الساحقة الإستغناء عنه ، لتلوكه و لتنثره وراءها غبارا زائفا زائدا يتلاشى في الفضاء ، لتضيع أثاره النيرة في الكون الفسيح ، و يخبوا صوته و صداه بين ركام الأفكار ، أو يتبدد بين طيات البحث و التحليل ، أو يتحلل نتيجة النقد و التفكيك ؛ بل هو قامة فكرية زاهرة من طراز راق و رفيع ، رصين و حكيم ، قوي و متماسك ، مشبع إلى حدود المنتهى بالثقة و الشموخ ، أصر على نحت إسمه بحزم و تفان في سجل الفكر و السؤال ، و بعناد قاس عاكر لا يقبل أي نقاش أو جدال ، كاتب ملهوف بالحقيقة و تحليل التحليل ، و مشبع بالتقصي و الإكتشاف ، إلتمع ضيائه المبهور بعد ما إندلق من مضمارات مختلفة للمعرفة و الأفكار ، فبإرادة فولاذية أقر بأن لا يربض إسمه القدير إلا في مدارات التأمل و التفكير ، و ضمن عوالم التحليل أقر الوفاء و رغب في الإنتماء ، و خارج الحكمة و نكهة المعنى يمتعض باحثا عن التسرب و الإرتحال ؛ هو باحث بمواصفات الكبار ، بشأو باذخ مرموق ، لا ينتصر لبراديغم خائر و وحيد ، و لا يجد لذة الحقيقة في قاموس واحد و يتيم ، بل يكتسي أردية مختلفة المعنى و المتون ؛ بلقب فاخر يتموج على سواحل الفكر و الإبداع بأقصى الحماسة و الفهم ، و برغبة في الحفر و الكشف عن الجذور لا تحدها مطبات و لا نوازع ، و لا يخالطها شيء من الزيف أو النفاق ؛ كاتب جليل بدون منازع ، إنزرع إسمه على صفحات التاريخ بكامل الأبهة و الإقتدار ، بعد ما زفرته بلدة فرندة الصغيرة ، الراقدة ببلد المليون شهيد ، ليبصم لقبه فيما بعد على شريط الشمال الإفريقي بعد طول تجشم و عناء ، منغمرا في تعاريج الحياة مكتدحا باحثا ، راحلا و مرتحلا أيضا على إمتداد المتوسطي بترتيب محكم لا يستند على الإعتباط . فجاك بيرك مفكر غير قابل للتصنيف و لا الإختزال ، و غير خاضع للتعليب الخابي المعنى و الفائدة ، فما فتئ الرجل يؤكد بثقله المعرفي و بزخمه الفكري إستحالة الإنتهاء ، و لا الإنمحاء لكل ما جادت به سلته الفكرية و وعائه المعرفي ، فقد خلف تراثا إبستمولوجيا هيهات أن يبلي ، و من المحال أن يفقد نكهة الصلاحية ، و لا روح الجدوى ، و ليس بالغريب ألا يتعرض للتلف مطلقا ، و لا للتجاهل أبدا ، أو حتى للتبخيس بطرقة فجة ماقتة ، مبتذلة و جذماء ، أو أخرى ساخرة هرمة و بتراء ؛ فبيرك علامة عليمة نادرة ، قلما جد بها التاريخ الحديث ، شخصية موسوعية فذة مائزة ، أحبت بهمة العرب و المسلمين ، و عشقت بتصوف ثقافة المغارب و أرض كمونهم ، فكانت من المخلصين لصداقتهم و أصالتهم ، و تفننت بألق في وصف قصة عشقها لهم ؛ فلطالما طرح هذا الرجل المتوسطي نفسه كصديق للعرب بتفان ذاهل ، و بوفاء منقطع النظير ، عاضدا قضاياهم بإلتزام دائم و بقناعة لا تخبوا أو تهتز ، دون أن يجاملهم أو يمارس خطاب الديماغوجية عليهم ، و إذا ما حصل أنه يجامل ، فإن المجاملة يعقبها صدق يبدو قاسيا جافا ، و مؤلما جدا ، ليس بهدف التحقير أو الإبتزاز ، بل من منطلق الملاحظة الشفافة و التنبيه الصارم ، لا لشيء سوى لتخرج بلدان الإسلام من قوقعة الجمود و التخلف ، لتأخذ بأسباب التطور و الرقي . ففي هذه النقطة ينحصر مشروع بيرك الفكري ، فهو الكاتب الزاخر ، لا يستغرقه التنظير بتاتا ، فليس بالمستشرق المغلق في عتمة برجه العاجي ، دون إبداء أدنى إهتمام بمشكلات حفدة لغة الضاد ، فلطالما سلخ من حياته السنين فداءا لأبناء أخر الديانات ، فلم يتحفظ يوما ما في إقتراح حلول تخص أتباع أخر المرسلين ، لبناء غد عربي مشرق و غناء ، يهفو نحو التقدم و الإزدهار ، خاصة و أن الإسلام يحمل في أحشائه نكهات العقلانية الآمرة بإحقاق التطور و النماء ، فرغم صعوبة المهمة و تعقد مسار قاطرتها ، فلم يكل بتاتا ، و لم يمل مطلقا ، في تقديم إقتراحات قيمة نيرة ، حاولت مساعدة العرب قدر المستطاع لإثبات ذواتهم في معارك الركب الحضاري ، مبرزا حقهم في التنازع حول عالم المستقبل الذي ليس ملكا لأي كان . فالرجل ليس إذن بالإبستمولوجي فقط ، بل رجل موقف و مبادئ تتوكأ على الأمانة و الإخلاص في كل أسسها و قواعدها ، فلطالما إنحاز لصوت العرب بصفة المستشرق الصادق النبيل ، و لطالما إنتصر لقضايا المسلمين ، بصبغة الأخ و الجار القريب ؛ فبيرك مدرسة قائمة بذاتها ، نذرت نفسها و قضت عمرها في تدارس الإسلام و ثقافة المسلمين ؛ تحملت عناء البحث و التنقيب ، كما تجشمت ثقل دراسة الثقافة العربية و رموز حضارتها ، بل و أيضا العقلية العربية و ما يميزها ، ليس بهدف تغييرها و تشويهها ، أو النيل منها بتحذلق و صلافة ، بل لفهمها من الداخل و الإستفادة منها ، و محاورتها مع باقي ديانات السماء ، من أجل بناء بحيرة للمعنى ، تجمع ضفتي المتوسطي ؛ و بغية إحقاق أسطورة العالم الأندلسي من جديد ، حيث أرض التسامح و السلام ، و التعايش الهادئ بين الأديان الإبراهيمية ، تفاديا لأنواع شتى من التطاحنات و التناحرات ؛ فبهكذا نوايا إستقامت أراءه و إكتسبت كامل المشروعية و المصداقية ؛ كيف لا و ما يميزه كمستشرق صدوق إعتنائه الخاص باللغة العربية و إتقانه الرشيق لها ، فمحاولته لترجمة القرآن إلى اللغة الفرنسة تتويجا لإهتمامه الدفين ، و دليل جاد على نية التحاور بين العرب و الشرق من أجل متوسطي يسوده التفاهم و أيضا السلام ؛ فبيرك لم يكن بالباحث الإسترسالي فقط ، بل كان رجل مبادئ تسطع مواقفه بتلألؤ أخاذ ، فهو من القلائل الذين كانوا ، و إستمروا يحلمون نظرة إيجابية عن العرب رغم كل النكبات و الإخفقات ، و بعيدا كل البعد عن النوايا المغرضة الشائهة للتغليط و التجريح ، فلطالما دعانا بكل إخلاص إلى التشبث بالأصالة ، و تدعيمها بنفحات المعاصرة لمواجهة تحديات المستقبل ، مؤكدا إمتلاك الإسلام لكامل الصلاحية الذاتية للتقدم و التجدد ، و دخول العصر دونما الحاجة إلى تسول نماذج التقدم من موائد الآخرين الشوهاء ، فقد تمكن من البرهنة على هذا الإتجاه بعد سبره أغوار تخص قافلة العرب و المسلمين ، لم يجرأ أحد من الباحثين على الذهاب نحوها قبله ، و إستشفاف ما يعتمل في مغاراتها . كيف لا و هو شيخ المستشرقين بفكر مطاطي يعتمر عدة قبعات علمية ، و يغترف من عدة توجهات معرفية ، كما يتمتع بقدر كبير من المرونة الزئبقية ، و قوة الإنتقال و التبضع من حقل معرفي إلى أخر ، و بكامل السلاسة و السهولة ، كما يتميز بإكتنازه لقدرة النهل من مختلف مصادر المعرفة الإنسانية على مختلف مشاربها و تلويناتها ، ليتمكن من تطويعها بحرية بيضاء ، نقية و صافية ، و صبها في قوالب أسلوبية خاصة به ، زاخرة بالمعنى و التفرد . فهذا إذن هو بيرك ، شخصية علمية مدهشة ، تتمتع بإحساس حاد يبهر العقول ، و بقدرة ذاهلة على إدراك أخف النبضات و التحركات ؛ كاتب ليس في متناول الجميع أبدا ، بأسلوب زاخر بالحكمة و مفتوح جدا على كل التحليلات و التأويلات ، فبلغته يفضل أحيانا التلميح و الإشارة ، و أحيانا أخرى يترك المعاني معلقة تائهة ؛ فالحديث عن المتن البيركي ، يفترض في الدارس القدرة و التمرس على التعيين و التمييز ، ضمن إنتاج مركب متشابك و كامل التداخل ، متضمن لجملة مستويات تتفاوت في أهميتها ، فلذا لا يفتأ ينبه هذا المنجز الكبير القارئ ، بأن على العبارة أن تجهد نفسها بأقصى ما تستطيع لتعكس الواقع ، لأن الواقع ليس بمستو حتى تكون العبارة مستوية ، فمع الواقع يتعامل و ضمنه أسس منهجه ، رافضا بصرامة و إقتناع مفرط كل أشكال توزيع الأدوار المتعجرفة السافرة ، سواء من تصنيف منهجي صلد أو حتى نظري قميء ، فمن المعيش اليومي يستقي الأفكار ، و من خلال الميدان يصر دائما على التبرم و الإبتعاد ما أمكن عن النصوص الميتة الجاهزة ، فيرفض التعليل الميكانيكي الفظ ، و يتحفظ من التحليل التبسيطي البليد ، و يفرض على نفسه مسافة أمن مهمة ، بينه و بين العقليات الإختزالية المتسلطة ، فبيرك ظل و فيا للفكرة التي ترتكز على المعطى المادي ذو الأساس الميداني ، فخلاصاته تعتمد على ما كان يلاحظه بأم عينيه ، و ما يتلمسه براحة يديه ؛ فمنذ إنطلاقته البحثية في تربة المغارب و على إمتداد المتوسطي ، و هو يقدم النموذج المثال للباحث الإجتماعي المغوار ، المتعطش لقطف الأفكار و تجميعها ، و المؤمن بمبدأ التريث و الحياد الدائم على طول الخط ، كفريضة مقدسة لا تقبل النقاش و لا الجدال أثناء التعبد داخل محراب علم الإجتماع ؛ فهو المفكر الشامخ الأخاذ ، القاطع بإجحاف مع أفكار التلاعب المسبوقة الدفع ، و الحازم أيضا مع أشكال التأثر الإعتباطي الساذج و العبودي ؛ فبيرك مفكر مسكون بالبحث و التحليل لأشد الرموز تعقيدا ، و لأبرز الظواهر إرباكا و تصلبا ، فلم يكن يوما ما ممارسا للراحة و الإرتياح الفكري ، و لم يكن في وقت من الأوقات مرتهنا على الجاهز للتشفير و التنظير بطرق فجة ساذجة ، بل كان مهووسا بالإجتماعي إلى حد التخمة و الإمتلاء ، بل أكثر من ذلك ، فهو مريض بلوثة البحث السوسيولوجي التي لا تجد دواءها إلا في الميداني ، و لا تنتصر إلا لما يعتمل فقط في حقول هذا الميداني ، و ذلك حتى تستطيع تقويض أسسها النظرية ، و حتى تتمكن من إستقاء توجهاتها من التفاصيل الجزئية و الدقيقة لتضاريس المشهد المجتمعي ، لتكتسب نوعا من الشرعية و المصداقية لخطابها ؛ فتمفصلات الواقع الإجتماعي الحي هدفها و غايتها ، و الإحتكاك بتذبذبات الميدان نهجها ، و سر بريقها و لمعانها ، فشريط المغارب رقعة ساحرة داهشة ، غنية أيضا و دسمة ، شكلت مختبرا لأبحاثه العديدة و المتنوعة ، أما الملاحظة الميدانية الدائمة فقد كانت الأساس العلمي لإلتقاط تفاصيل المشهد العام لهذه التجمعات ، و إعادة صوغها و تركيبها و أيضا بنائها ، داخل قداسة العيادة السوسيولوجية ، بكامل الموضوعية الحارقة ، و دون تفريط في الحياد الصارم ؛ فالنظرية عند بيرك تولد من رحم الميدان ، و أن أي مشروع نظري لا يستقيم إنكتابه و لا إنوجاده ، دون الإرتهان قصدا لخفقان الميدان ، فالدرس عنده لا يأتي من بوابة الأبراج العاجية العاتية ، و لا من التنظير المتعجرف ، بل ينكتب في الميدان و يتأسس على التنزيل الواقعي لمعنى الممارسة و المفهوم . فالمتن البيركي مجهد شاق ، يستلزم نفسا عميق الأعماق ، و قبلا مزيدا من الصبر ، و وزنا كبيرا من الأناة ، كما يتطلب حدة عالية من التبصر ، و قوة رفيعة و سامية من التمعن ، و الكثير أيضا من الثبات ، فالفكرة فيه أولا ، لا تأتي منسابة ببسالة ، إلا بتوفر قدر عال من الفهم المسبق و قليل من المراس ، و ثانيا ، لا تأتي منقادة مطواعة بذلالة ، فالمعلومة لا تنبرز إلا قطرة قطرة ، بعد أن تخضع لمصفاة التحليل و لآليات التشذيب ، فأسلوبه لا يقل عصيانا على الذهاب بعيدا في الحول حول العبارة و أحوازها قصد الإفادة ، لا الإسترسال أو الحشو ، فلغته صعبة و أسلوبه مانع ؛ يوصف تارة بالغموض ، و تارة أخرى بطابع الغرابة و الإلتباس ، و ليس هذا بالغريب مطلقا ، فشخصية بيرك هي نفسها جد معقدة و عامرة التركيب ، و جد متشعبة ، و كاملة الغنى ، نظرا لتشعب ، و تعقيد ، و غنى ليس فقط الأسس المرجعية التي إنبنت عليها طروحاته العامة و أفكاره ، بل و أيضا ، لتعقيد و غنى حياته ذاتها ، فقد كان يحيا متنوعا ، مهاجرا و متعددا في إنتماءاته و أبعاد هوياته ، و تنوع علاقاته و صداقاته الواسعة ، بدءا بإحتكاكه مع عموم الشعب ، مرورا بمصاحبته لكبار المثقفين و المناضلين السياسيين ، و إنتهاءا بملاقاته للرؤساء و الملوك ، فهو أيضا ملتبس في إنتساباته الحدودية ، و مبهم في إرتباطاته الأصولية . فإننا إذن أمام شخصية فريدة من نوعها ، تمتعض من أي إختزال عفن أو تصنيف جارح ؛ إنسان هو حقيقي ، ليس بسبب مواقفه النقدية الذي تبناها في بداية طروحاتها الفكرية ، إتجاه الفكر الغربي أو حتى العربي ، بل لإعتباره إنسانا أولا ، أقرب للعرب بالمقارنة مع أي مفكر غربي عامة ، فهناك ، في المغرب الأقصى كما في الجزائر ، داخل المغرب العربي و خارجه ، و منذ الأربعينيات من القرن الفائت ، و جاك بيرك يعطي للدرس الأنتروبولوجي و السوسيولوجي كامل معناه و مبناه ، الصادق المختلف بعيدا عن آليات التزوير و الضبابية ، و ذلك بإلتقاط أدق التفاصيل أولا ، و تفكيكها ثانيا ، ثم محاولة موضعتها و قراءتها أخيرا ؛ ففي هذا السياق سنجد بيرك سوسيولوجيا متعدد القراءات و الإنفتاحات ، غير مقتنع بتاتا بجدوى الحدود المعرفية الشائكة بين العلوم ؛ فقد كان يستثمر التاريخ و القانون ، و يغرف من الدين و اللسانيات ، و يرتهن على علم الأنتروبولوجيا و السيكولوجيا ، و غيرها من العلوم في قراءة الواقعة الإنسانية ، كما يسخر عدتها النظرية و المنهجية في تدبير أبحاثه ، و دراساته التي توزعت على تيمات شتى و عديدة تنضح بالموضعية الصارمة ، و تفوح منها رائحة الحيادية القاسية . فهذا هو جاك بيرك ، مفكر يعسر عن التحديد ، و يتعفف عن أي إختزال تافه مشوه ؛ فإن أي صفة أو أي نعت يمكن إطلاقه عليه سيكون بالضرورة غير واضح و ليس بالدقيق ؛ فهو المثقف الحاذق و الكبير ، عملاق الحوار الحضاري الديني ، إنحاز لصوت العرب على إمتداد خفقان قلبه ، و ساند قضايا المسلمين طيلة دوران رحى حياته ، فضلا عن مناصرته لحقهم في التحرر ، و ساند مطالبهم في الإستقلال ، إنعتاقا من قسوة الإستعمار و سياسة المستعمر . فبيرك باحث أيضا رفيع لا يداني و لا يقارع ، كان شغله الشاغل أن يقاسم الناس جل إكتشافاته و بحوثه ، و أن يقنع أهل الضفة الأخرى ، و آل العالم الغربي كله ، بواقع و حيوية عالم مجاور لهم يزخر بالمعنى ، يستحق كامل التقدير و كذلك الإحترام ، دون المماحكات الجدلية و محاولات التهجم عليهم ، تحت يافطة صراع الحضارات و التحضر ؛ فهذا هو جاك بيرك ، شيخ المستشرقين المنحاز لقضايا العرب و شؤون المسلمين ، حمل لسنوات وراء قلمه المتعطش ذات إنسانية نادرة الوجود ، نذرت حياتها من أجل أن تنهض مرة أخرى ، حضارة البحر الأبيض المتوسط من سباتها العميق ، لتقوم بدورها الإشعاعي و التنويري على ضفاف المتوسطي ؛ ففي سبيل أسطورة الأندلس ، بدل جهدا مضنيا ليقرب الإسلام للأوربيين ، في أنصع صورة له و أصدقها ، و أقربها أيضا إلى النفاذ للعقول ؛ خصوصا و أن بيرك فهم العرب و إستوعب ثقافة المسلمين ، فكان قريبا فكرا ، و أقرب وجدانا للعالم العربي ، و لحضارة الإسلام ، فقد جاب جل أقطارها ، دولها ، و عاش عن قرب بين أناسها و إحتك بأهلها ، فأنصب إهتمامه بدءا بعاداتها و عقلياتها و أيضا أنماط سلوكها ، و انتهى في الأخير ، بمعالجة مظاهر اليقظة فيها و سبل نهضتها ؛ مستخلصا ، بأن العرب اليوم يتموضعون في قلب إشكالية التاريخ المعاصر ، و يتوفرون على كل المؤهلات الأفيد و اللازمة ، ليساهموا كغيرهم من المتدخلين ، بإعتبارهم فاعلين في التاريخ و شركاء في بناء عالم مستقبلي ، الذي ليس في ملك و حساب أي كان ، و لعل ما يميز سلوكهم الثقافي ، و كذلك الإقتصادي و أيضا السياسي ، من إضطراب حاد ، و تناقض شرس و تذبذب و تطرف أحيانا ، ما هو إلا مؤشر صحي سليم ، على وعيهم بتاريخهم الحافل و بأهميتهم الوازنة ، و وعيهم بالموازاة بمقتضيات المستقبل ، لأنهم لا يرغبون في الذوبان في خليط ما ، أو الإرتماء في حضن ثقافة ما ؛ فهذه هي خلاصة المتن البريكي ، الذي لازالت شمسه مشرقة على المتوسطي ، بإنتاج فكري صادق صدوق ، نابض بكل عناصر الحياة المتفائلة بغد غناء ، حيث يسود التلاحم ، و يشيح لينة و تجانسا بين مختلف أديان السماء .