محاور العرض:
- تقديم.
- ما هو التواصل وكيف يتم؟
- نظريات حول التواصل.
- مقاربات متعددة للظاهرة التواصلية.
تقديم:
يعد موضوع التواصل أحد أبرز الموضوعات التي استأثرت باهتمام الباحثين والدارسين على مر العصور. وقد تجاذبت قضاياه حقول متعددة مثل نظرية الإعلام والسوسيولوجيا واللسانيات والفلسفة والهندسة إلخ.. وقد أدى هذا التنوع في الدراسات حول التواصل إلى بروز مفاهيم مختلفة بعض الشيء حوله، كما فتح المجال لتطوير نظريات متعددة له باعتباره ظاهرة قائمة الذات. في هذا العمل سنحاول إلقاء بعض الضوء على مفهوم التواصل وبعض نظرياته ومختلف المقاربات التي عولجت من خلالها الظاهرة التواصلية.
إن الإحاطة بكل الذي أشرنا إليه هو عمل يبقى دونه تأليف كتاب؛ لذلك فإننا لا ندعى الإحاطة بكل جوانب الموضوع بل إن كل ما سعينا إليه هو تقديم نظرة موجزة عن الموضوع كمدخل من شأنه أن يساعد الطالب على استكشاف الموضوع.
هذا، وقد قسمنا عرضنا هذا إلى ثلاثة محاور أساسية؛ خصصنا الأول لمفهوم التواصل وبعض الشروط العامة لنجاحه في الحياة اليومية؛ في حين خصصنا الثاني لعرض ثلاث من نظرياته؛ بينما حاولنا في المحور الأخير أن نتوقف عند بعض المقاربات الرئيسية للظاهرة التواصلية.
أملنا أن يساهم هذا المجهود في تقريب الصورة وأن يكون دافعا يجعل الطالب يقبل على التوسع فيه أكثر بالرجوع إلى المراجع المعتمدة في ذلك والتي اعتمدنا بعضها في هذا العرض.المحور الأول: ما هو التواصل وكيف يتم؟
1. مفهوم التواصل:
في اللغة التواصل والاتصال كلاهما من مادة وصل يصل وصلا وصلة الشيء بالشيء:لأمه وجمعه. واتصل بالشيء التأم به. واتصل بي خبر فلان أي علمته؛ واتصل فلان بالوزير: صار في خدمته؛ وتواصل الرجلان: ضد تهاجرا"
وفي الاصطلاح، يستعمل مصطلح "الاتصال" عادة للدلالة على مختلف أنشطة نشر المعلومات؛ أي نقل الإشارات من مرسل إلى متلق. و"هنا تظهر سيطرة الرسالة وهيمنة المبلغ ودونية المتلقي". أما التواصل فهو" العملية التي بها يتفاعل المرسلون والمستقبلون للرسائل في سياقات اجتماعية معينة". وهذا ما جعلنا نفضل استعمال لفظة "التواصل" بدل لفظة "الاتصال" ذلك أن اللفظة الأولى (التواصل) تحيل على عملية تقاسم المعرفة بين المتواصلين. فالتواصل في الحقيقة فهم وتفهم وتفاهم؛ و"تفجير" للمواقف وإغناء لها وهو ما يفتح الآفاق على الأفكار المبدعة.
وبالرجوع إلى اللغات اللاتينية، فإننا نجد أن الأصل الاشتقاقي لفعل التواصل في اللغة الفرنسية (communiquer) ، يعني كما أشار جان كازنوف " جعل الشيء مشتركا (commun)"،
من خلال ما سبق، يتبين أن التوصل هو عملية انتقال من وضع فردي يكون فيه الشخص منطويا على ذاته وفي عالمه الخاص إلى وضع اجتماعي يتبادل فيه الرسائل مع الأغيار. وهذا ما يفيده فعل اتصل الذي يتضمن الإخبار والإبلاغ والتخاطب، ويتعلق بنقل الرسائل أو الرموز الحاملة للدلالات. إنه يعني ببساطة، الاشتراك مع الآخرين في عملية تبادل الرموز وانتقال المعلومات بين الأنا والآخر، مما يسمح بخلق وحدة انتماء إلى عالم الرموز.
2. شروط تحقيق التواصل الناجح:
إذا كان التواصل، وفق الأبسط التعريفات، يعني عملية تبادل الرسائل والرموز بين ذات مرسلة وأخرى مستقبلة فإن تحقيقه يستلزم توفر مجموعة من الشروط على مستوى الرسالة، والمتلقي والقناة التي يتم من خلالها التبادل وإلا وقعت اختلالات قد تعصف بالعملية كلها وتجعلها غير ذات مضمون ولا معنى.
وإذا كان الوضوح والانتباه هما أهم شرطين يجب توفرهما فيما يتعلق بالرسالة والمتلقي على هذا الترتيب، فإن مجموعة من الدراسات التي تركزت على دراسة الشروط المتعلقة بالمصفاة، أي القناة التي يتم من خلالها التواصل، باعتبارها عنصرا أساسيا في عملية التواصل، أشارت إلى أربعة أشكال لهذه المصفاة هي:
v المصفاة الفيزيائية التي تتعلق بكل الظروف المادية، المتمثلة في القدرة على النطق والحركة والاستماع و المشاهدة.
v المصفاة الثقافية المرتبطة بالعادات والتقاليد وبالقيم الروحية التي تتبلور كنقاعات، تساهم إما في الفهم الجيد أو الخاطئ للرسالة.
v المصفاة الذهنية المتعلقة بقدرتنا الفكرية على إنتاج واستيعاب بعض الرسائل من خلال مستوانا الثقافي وتجربتنا اليومية.
v المصفاة النفسية المرتبطة بمدى تعاطفنا مع محتوى الرسالة أو مع مرسلها أو مستقبلها؛ فعملية الإسقاط النفسي والثقافي ذات تأثير كبير على الرسالة الفعلية.
إن هذه الأهمية التي يكتسيها التواصل في الحياة اليومية وهذا التعقد الذي لازم الظاهرة التواصلية جعلا مجموعة من العلماء من تخصصات متعددة يقدمون نظريات يوضحون من خلالها كيف تتم عملية التواصل.
المحور الثاني: نظريات حول التواصل
1. مفهوم نظرية التواصل:
يعود الأصل الاشتقاقي لكلمة "نظرية" في اللغة العربية إلى مادة "نظر". وفي المنجد في اللغة والأعلام نجد أن: "نظره نظرا ومنظرا ومنظرة وتنظارا ونظرانا وإليه بمعنى أبصره وتأمله بعينه. ونظر نظرا في الأمر: تدبره وفكر فيه يقدره ويقيسه. والنظري: المنسوب إلى النظر؛ ويطلق في تقسيم العلوم على ما كان غير متعلق بكيفية العمل، ويقابله العملي وهو ما كان متعلقا بها. والنظرية: قضية محتاجة إلى برهان لإثبات صحتها."
ويفرق O’Connor, O. j. بين معان مختلفة لكلمة "نظرية"؛ فهي تستخدم في الفلسفة للدلالة على كل متكامل من المشكلات المترابطة (نظرية المعرفة، نظرية القيم...)، وتستخدم - كما هو الشأن عند الرياضيين- للدلالة على منظم وموحد من المفاهيم النظرية التي لا صلة لها بأي نشاط عملي (نظرية الأعداد، نظرية المجموعات...)، كما تستخدم في الحياة العامة للتفريق بين ما هو نظري وما هو عملي، لتدل بذلك على نظام من القواعد أو مجموعة من المبادئ التي ترشد أعمالنا في شتى الميادين وتوجهها وتضبطها.
عموما، وبعيدا عن كل التفصيلات، يكاد يكون هناك اتفاق في الأوساط العلمية على أن النظرية هي: "نسق فكري استنباطي متسق حول ظاهرة أو مجموعة من الظاهرات المتجانسة يحوي إطارا تصوريا ومفهومات وقضايا نظرية توضح العلاقات بين الوقائع وتنظمها بطريقة دالة وذات معنى، كما أنها ذات بعد أمبيريقي، وذات توجه تنبؤي." فالنظرية العلمية تتميز بثلاثة خصائص أساسية هي :
أ- إنها تمثيلات رمزية عامة.
ب- إنها نسق من المفاهيم والقوانين المترابطة بالظواهر، ومن وظائفها أنها:
· تشكل إطارا تفسيريا لمعطيات الواقع،
· تمكن من وصف ما يحدث من ظواهر متنوعة.
· تستعمل لتوجيه المعلومات العلمية.
· تشكل قاعدة أو أساسا للتحليل.
ت- تمكن من صياغة القوانين العلمية بطريقة مختزلة.
بناء على ما سبق وتأسيسا عليه، يمكن أن نقدم تعريفين لما يسمى نظرية التواصل كما يلي:
الصورة النظرية للمسلسل العام الذي يقوم فيه نسق –مصدر التأثير في نسق- هدف، وذلك باستعمال مؤشرات تمر عبر قنوات منظمة ومرتبة وفق تصور محدد.
مجموع الأنساق الواصفة لسيرورة التبليغ والتلقي عبر قناة بين جهاز وآخر، وفي الغالب بين الكائن الإنساني وغيره.
يتعلق الأمر إذن بتمثيل يصف أو يفسر عمليات التواصل ووضعياته انطلاقا من نظرية أو حقل دراسي معين، مثل الهندسة وعلم النفس وعلم اللغة... فالمهندس يبني تصوراته النظرية حول الظاهرة التواصلية من خلال اهتمامه بالجانب الكمي في نقل المعلومات والقناة المستعملة في هذا النقل، بينما يقوم بذلك عالم النفس والاجتماع من خلال الاشتغال على الآثار المتبادلة بين المرسل والمستقبل وبالعلاقة مع المحيط وهكذا...
2. نماذج من نظريات التواصل:
شهدت نظريات التواصل تطورا هاما منذ عشرينيات القرن الماضي، وتعمقت أشكال البحث والتحليل في هذا الإطار. ولأن المجال لا يسمح بالإحاطة بكل هذه النظريات بتفصيلاتها فإننا سوف نقتصر في هذا العمل على ثلاثة نماذج فقط هي: نموذج هارولد لاسفيل (Lasswell,1948)، ونموذج شانون وويفر (Shannon , 1949)، ونموذج جاكوبسون (Jakobson , 1964).
أ. نموذج هارولد لاسفيل Lasswell, 1948.
لقد تطور لفظ "تواصل" انطلاقا من القرن 16 تقريبا نحو دلالة التبليغ التي تطابق اليوم المعنى الأكثر عمومية للفظ الذي يحيل على التبليغ المادي وعلى النقل أو التبليغ غير المادي. فلم يعد التواصل يعني مجرد التحكم في الرسالة بل أصبح يعني أيضا التحكم في الإرسال وذلك حتى يتوصل المتلقي بمحتوى الرسالة.
ويرى هارولد لاسفيل أنه لتبليغ الرسالة بشكل جيد، "يمكن اعتماد طرح الأسئلة التالية: من يقول ماذا؟ بأية قناة؟ لمن؟ بأية آثار؟ وتسمح هذه الأسئلة، حسب هارولد بالعثور على خطوات سيرورة التواصل وتحليله؛ بحيث أن (من يقول ماذا؟) تثير المرسل ومحتوى الرسالة؛ و(بأية قناة؟) تقترح قياس أهمية وجدوى الوسائط المستعملة في التواصل؛بينما (لمن؟) تجعلنا بإزاء المتلقي في حين أن (بأية آثار؟) تسمح بالتساؤل حول أبعاد التواصل والأهداف المتعبة"
يعد هارولد لاسفيل من أوائل المختصين بالعلوم السياسية الذين اهتموا بالتواصل الجماهيري، وفي هذا الإطار يتعين فهم نموذجه التحليلي الذي قدمناه والمرتكز على الأسئلة الخمسة بحيث إن كل سؤال منها يستدعي تحليله كعنصر متداخل مع باقي العناصر ضمن مسلسل تواصلي ديناميكي كما يلي:
إصدار الرسالة، وهذا العنصر يشير إليه السؤال: (من يقول؟). وهنا يتعين التركيز على المرسل والأهداف والدوافع التي جعلته يتجه إلى الجماهير ويخاطبها. فالسياسي الذي يتوجه إلى الجماهير في مهرجان خطابي مثلا إنما يفعل ذلك بدافع استمالتهم من أجل التصويت عليه أو مساندته في خطوة سياسية يريد الإقبال عليها...
محتوى الرسالة والذي يجد تعبيره في سؤال: ( يقول ماذا؟). وفي هذا الإطار ينبغي أن ينصب التحليل على محتوى الخطاب وطريقة صياغته وتقديمه وذلك من أجل استنباط مختلف الرسائل و"الإشارات" التي يتضمنها.
تحليل القناة من خلال السؤال (بأية قناة؟). ويتناول هذا التحليل كل الجوانب التي تتعلق بجدوى القناة المستعملة وإلى أي مدى ستمكن من إيصال الرسائل التي يستهدف المرسل إرسالها بحيث تحدث التأثير المبتغى.
تحليل المستقبل أو المتلقي وهو ما يستدعيه سؤال: (لمن؟). إن هذا السؤال يستلزم في حالة الخطاب السياسي ضرورة تحليل المستهدفين به من حيث الجنس، السن، المستوى الاجتماعي والثقافي وكذلك الانتماء السياسي... فكل فئة من الفئات يصلح لها خطاب سياسي معين بمواصفات معينة بحيث إن عدم احترام هذه المعطيات قد يعرض الأهداف المرجوة من التواصل للخطر والضياع.
تحليل الآثار المتوقعة من عملية التواصل مع الجمهور (سؤال بأية آثار؟). وهنا يتعين دراسة التأثير المراد إحداثه أو الذي تم إحداثه فعلا من خلال التواصل على مستوى تجاوب الجماهير عبر قياس مدى انخراطهم في العمل المراد أو اتخاذهم المواقف المرجوة من طرف المخاطب. وهذا التحليل لا يقتصر على وصف هذه الآثار بل يمكن أن يتعداه ليشمل مختلف الأسباب والعوائق التي حالت دون التوصل إلى النتائج المرجوة أو تلك التي ساعدت في تحقيق أكبر قدر منها.