هل تميتُ الصورة الذات الحية وتجمدها في إطارها الزمني وبعدها المكاني كموضوع كما يقول الفيلسوف الفرنسي رولان بارت ( أن الصورة تجربة مصغرة للموت ، تكمن في تحويل ذات حية إلى موضوع ميت في جمود أبدي) وإذا كانت كذلك فماذا تبعث رؤية هذا الميت في المشاهد عبر اتصاله البصري باللحظة الجديدة ؟ هل مجرد المرور عبر هذه الصورة سيحرك شيء ما في داخل حس بشري ليقوم الدماغ بوظيفته العضوية في خزنها الايقوني في داخل العصب تمهيداً لاستعادتها اللاحقة في زمن مقبل .
تظل الصورة في دلالتها المؤثرة محط جدل قدر ما هي محط تسليم يقيني كونها ترتبط بالحقيقة الأكثر وضوحاً انطلاقاً من اختصارها أزمنة التشكل الأولى والمخيال الروائي لها عبر تقنيات السرد المعتادة ودفعها للأسطورة كأسلوب تشكيل بدائي لتصورات لم يطلع عليها الإنسان بعد ، وبذا فان هذا العصر الذي نعيشه ألان هو عصر الصورة بامتياز كما بشر ابيل غانس.
الصورة التي تلعب دورها الفتاك منذُ إن ظهرت كنتاج حقيقي لظاهرتي الظل والضوء التي أرقت العلماء أزمان طويلة ، وخرجت من معطف الرسامين الذين أوجدوها على ارض الواقع حيثُ ارتبط فنهم بالصورة وحركتها وتمثلتها وفضاءاتها المليئة بالتعبير وهذا أغوى شهيتهم الى إن يفتحوا على الأقل نافذة للتوصل الى اختراع الصورة الفوتوغرافية لتقود الأخرى الى ظهور تمظهر أخر من إشكالها لتظهر الصورة المتحركة ، الى اليوم الذي بات فيه نقل ملايين الصور أسهل من شرب قدح من الماء كما يقال بفضل ثورة التكنولوجيا الحديثة والاتصالات التي حولت العالم الى قرية مترابطة .
لكن لكل تقدم وتطور ثمن يجب إن تدفعه البشرية لان جني الثمار لابد إن ترافقه عملية وخز مستمرة ، ولذا فان ثورة الاتصالات العارمة رافقتها ثورة أخرى في إطارها الكولنيالي العولمي الذي مافتئ في تسليع كل شيء ليدخله في صراع سوقه العالمية المحمومة الباحثة عن الربح السريع ، حتى غدا الجسد واحدة من أكثر صور العولمة بإبعادها الاقتصادية (التجارية ) وضوحاً كظاهرة تختزل كينونة هذه العملية المنفلتة من مقاييس النظم الإنسانية بداعي انسلاخ الإنسانية عن ماضيها وارتباطها بالحداثة والتحرر ..! .
لتكون الصورة هي الوسيلة لصناعة جديدة اسمها صناعة الجنس مستخدمة الجسد كموضوع .لتدخل عمليات صناعة الجنس من أوسع الأبواب بعدما كانت تمر من الأبواب الخلفية مستمدة شرعيتها من كونها عملية اقتصادية متحررة مرتبطة بقيم العالم الحديث الساعي وراء فك ارتباطاته التي تعيق حركته الكونية .
نجحت هذه الصناعة من إيجاد مبررات ظهورها العلني رغم عدم الإنكار لوجودها البدائي كشكل أولي لعمليات التجارة البدائية القائمة على المقايضة ، ولكن ما يلفت إن تتحول الى صيغ تأخذ طابعها الدولي مع أنها تتصادم مع شعارات مرفوعة سبقتها بالظهور إلا إن النتيجة كانت كارثية بالنسبة لمن يمكن إن نسميهم أنصار القيم القديمة ( دعاة الفضيلة الإنسانية ) وتحولت موضوعة تحرير المرأة بهذا الشكل الى عملية سمجة ومنقوصة في ظل امتهان الجسد وخصوصاً الأنثوي وتحويله الى موديل جامد معروض للاستخدام في أي لحظة ولقاء ثمن في خروج صريح على مبدأ تحرير المرأة الذي تنادي به تيارات العلمنة والتحديث في مجتمعات الشرق الدينية وهي تواجه ردات فعل عنيفة قد تكون مبررة لانسجام و تماهي تلك الطروحات مع مبدأ رأسمالية العالم وتقويض أسس المختلف في عملية أشبه ما تكون بالخدعة كما يصفها منظرو الحركات الدينية في عالمنا الشرقي .
إن علماء مختصين في علم الصناعات الحديثة يؤكدون إن ثمة منفعة متبادلة وعقد ابرم بين تجار صناعة الجنس من جهة وبين تجار الإعلام (الميديا) من جهة أخرى حيث قام هذان الطرفان باستثمار الحرية الواسعة في الغرب وتحت شعارات تحرير الإعلام وعدم خضوعه الى الرقابة الحكومية ،فالأخير استغل نفوذهِ وسطوتهِ على المتلقي لبث الصورة الجنسية في اكبر وأضخم عملية ترويجية للجنس يشهدها العالم عبر وسائل الإعلام المنتشرة والواسعة ابتدأ من المجلات الإباحية وصولاً الى المواقع الالكترونية والفضائيات وغيرها من الوسائل ، لتنشا مؤسسات بأموال هائلة تعتمد هذه الصناعة وتروجها عبر وسائل الإعلام حيث قدرت دراسة إن هناك مليارات الدولارات تمثل رأس مال لهذه الصناعة في الولايات المتحدة وحدها، وان هناك ألاف الإعداد من المجلات الإباحية توزع هناك وتصدر الى مناطق أخرى من العالم ، فضلاً عن الكتب وملايين الأشرطة الفديوية الموزعة في إنحاء العالم وتقول إحدى دور نشر للمجلات الإباحية أنها تتبنى إصدار 60 مجلة شهرياً تجني من ورائها أكثر من مليون دولار في المتوسط.
إن تحول الجنس الى قيمة اقتصادية ليس جديداً كما أسلفت إلا إن خروجه من نطاق الفردية والسرية الى نطاق المؤسسة والعلنية هو التساؤل حول مدى التناقض القائم بين النظم والمعايير الأخلاقية الملتزم بها وبين انفتاح التجارة وحرية الإعلام الذي بدا شعاراً براقاً في المظهر إلا انه يخفي في جوهره صورة معكوسة هدفها تحقيق اكبر قدر ممكن من المال عبر أبشع وأحط صناعة عرفها التاريخ الإنساني (صناعة الجنس ) .
تقتحم هذه الصناعة كل الأسوار وتجتاز كل المحددات لأنها لا تشعر بان أي حاجة قائمة سوى الحاجة الى المال ، مستمدة نظريتها التاريخية عبر مقولة الغاية تبرر الوسيلة ، فمن المجلات والكتب الإباحية الى السينما التي تحولت الى واحدة من أهم الصناعات العالمية وبأسواقها ومؤسساتها ، ولتكون هذه الصورة الجنسية حاضرة بقوة في المشهد السينمائي إن لم يكنُ قائماً على هذه الموضوعة بكل إبعاده ، وهذا ما يشير إليه باحث مختص في مجال السينما الى وجود أطنان من اللقطات السينمائية الجنسية التي تقحم في جسد الفيلم السينمائي دون إن يكون لها رابط مباشر مع إحداث الفيلم أو مجرياته الموضوعية ، وتبرر شركات الإنتاج السينمائي هذا الإقحام بدعوى إضافة المزيد من المتعة لدى المتلقي ، إلا إن تبريرها هذا وبحسب الباحث لا يرقى لان يكون سبباً في تجاوز الوحدة الموضوعية للفيلم .
إلا انه ُ يعزوها الى محاولة لجذب المراهقين لمشاهدة هذه الأفلام واقتنائها لتضمن الشركات المنتجة إرباحا وايردات عالية حتى وان كانت على حساب القيمة الفنية أو الأخلاقية .
وإذا كانت السينما العالمية قد بدأت بمغادرة هذه العقلية تصر السينما العربية وخصوصاً المصرية على اعتماد هذا الأسلوب الكلاسيكي في أفلام باتت تصنف في مراتب متدنية للغاية ، الأمر الذي دفع مختصون في السينما المصرية الى إطلاق حملة من اجل " سينما نظيفة " خصوصاً بعدما أصبح الفيلم السينمائي المصري يعاني من جراء ظاهرة غياب الموضوع الذي يناقش قضايا معينة أو يحاول إن يوصل رسالة ذات مغزى سياسي أو اجتماعي أو ثقافي ، فالأفلام المنتجة تعاني من افتقارها الشديد للموضوع أو وقوعها في فخ التكرار والاجترار ثم تأتي المشاهد الجنسية لترهق كاهل هذه الأفلام مما يجعل المشاهد في حيرة من أمره وهو يسال عند انتهاء العرض ، هل حقاً يمكن إن نسمي هذا فيلماً سينمائياً أو فيلم بورنو !!!
إن هذا السلخ المتعمد الذي بدأ مع ظهور أولى تشكلا ته في ولادة السينما في الوطن العربي يؤشر خللاً في المرجعية الفكرية العربية عموماً ، فهي ظلت تبحث عن مرجعيتها ، متقلبة ما بين رغبة محمومة في اللحاق بما تنتجه مدن الإنتاج العالمية وبين التمرد على قيم مجتمع محافظ يعيش في دوامة الحذر المستمر تجاه القادم من الغرب وبعقدة تاريخية خانقة .
إن دخول الصناعة الجنسية في مفاصل الحياة المختلفة يؤشر الى إن ثمة مغادرة أو قطيعة وقعت في المؤسسات الرأسمالية العالمية وبين النظم الأخلاقية التي تحكم المجتمعات الإنسانية وإلا بماذا يفسر هذه العودة إلى تجارة الرقيق الأبيض واستعباد المرأة وجعلها سلعة في سوق البورصات المتضاربة ، سوى تلك الرغبة الجامحة لتحقيق السيطرة على الثروات لان ثمة من يعتقد إن المال هو الإمبراطورية الأقدر التي يمكنها حكم هذا العالم والسيطرة عليه .
إن هذه الحقيقة لا ينبغي إن تظل غائبة عن أعين المفكرين والعلماء والمثقفين العرب فان التماهي الأعمى مع كل ما يطرح في الغرب هو مثله تماماً ما يفعلهُ البعض حينما يصم إذنيه ويغمض عينيهَ عن انجازات هذا الغرب العلمية العظيمة ، فكلا الحالتين خاطئة ، أليس كذلك؟.
* كاتب عراقي