ستكون استفهاماتنا التساؤلية ها هنا بهذا الشكل : ما هذا الذي نسميه ثقافة ؟ وما هي الزاوية التي بوسعنا النظر من خلالها إلى الثقافات الإنسانية؟ وإذا سلمنا بوجود اختلافات وتباينات بين الثقافات ؛ أيقذف بنا هذا إلى تفضيل ثقافة عن أخرى، وبالتالي مجتمع عن غيره من المجتمعات؟ وبصيغة أخرى بأي معنى يصح الحديث عن تراتبية على صعيد الثقافات ؟
فـي الثقافــة :
كان مفهوم " ثقافة " خلال القرون الوسطى يشير إلى العبادات الدينية cultes، ثم صار في القرن السابع عشر يشير إلى حرث الأرض. أما المؤرخون الألمان، خلال القرن الثامن عشر ، الذين كانوا يميلون إلى إعادة تأسيس مراحل التطور الإنساني، فقد استعملوا المفهوم للإشارة إلى الصيرورة التي تحققها الجماعات .
بيد أنه في القرن التاسع عشر استخدم الأنتروبولوجيون ،والبريطانيون تخصيصا، لفظ " ثقافة " ليعنوا به كل ما يتعلق بطرق وأنماط التفكير ، والفعل ، وأنظمة القيم ، والرموز . ① وضمن هذا المساق كتب ( تايلور) تعريفا شاملا، ومتكاملا للثقافة جاء فيه : " الثقافة بالمعنى الإثنوغرافي الواسع هي هذه المجموعة المعقدة التي تشمل المعارف والمعتقدات، والفن ، والقانون ، والأخلاق ، والتقاليد ، وكل القابليات والتطبيقات الأخرى التي يكتسبها الإنسان بصفته عضوا في مجتمع ما ." . ② وفي السياق ذاته كتب أوكبورن Ogburn ③ بأن الثقافة هي ذلك النتاج المتراكم الذي يمكن تقسيمه قسمين : الإنتاج المادي من جهة ؛ والإنتاج الروحي – المعنوي من جهة ثانية . ④
يتبـين انطلاقا من هذه التحديدات أن الثقافة مفهوم شمولي كلي لا تختص به جهة دون أخرى ؛ أو طائفة دون سواها ، بحيث أن لكل تجمع بشري طرقه ، وأساليبه فضلا عن أنماطه في التفكير وتصوراته الخاصة به كما تعابـيره الفنية ، ومعتقداته التي تجعله متميزا عن غيره . وهذا يسمح لنا بالقول بأن لكل مجتمع إنساني ثقافته التي تشكل هويته في نهاية المطاف . يقول دوركايم : " إن الثقافة هي كل متناسق من طرق التفكير والشعور المشكلة للأدوار التي تعرف بالسلوكيات المنتظرة من مجموعة من الأشخاص . " ⑤
فــي التاريخانية واختــلاف الثقافات :
إن الاختلاف الموجود بين المجتمعات البشرية هو اختلاف ثقافي أساسا. كل مجتمع ، مثلما أسلفنا ، يبدع ثقافته الخاصة به التي تشكل روحه وتمثل هويته ؛ وتحافظ على توازنه واستقراره . ومن ثمة على تكامله . وعليه فالمجتمعات / الشعوب التي ينظر إليها عادة ، وحسب ما هو شائع ، بأنها شعوب متخلفة ، وهشة ، أوبدون ثقافة هي في الواقع شعوب ثقافية ما دام أنها تمتلك من الخصائص ما يجعلها متميزة عن غيرها من حيث نمط التفكير؛ وأسلوب العيش والحياة اليومية ، والأدوات والتقنيات المستعملة ... وبالتأسيس على هذا لن يكون بالمقدور الزعم بأفضلية ثقافة على أخرى ولا بناء حكم على مجتمع انطلاقا من غيره الشيء الذي يجر إلى القول بأن المجتمعات " البدائية " ليست تشكل طفولة المجتمعات الراهنة ؛وليست أقل نضجا أو أقل عمقا في التاريخ أو شعوبا تطبعها الغرائبية ...
ذلك أنه لا وجود لما يمكن عبره تقييم تلك الشعوب والنظر إليها من منظور الشعوب العاجزة عن فعل التفكير ،والإبداع ،وصياغة الحلول للمشاكل التي تعترضها اعتمادا على تجربتها الخاصة . إن الزعم بهشاشة هذه المجتمعات المغايرة للنمط الغربي لهو زعم يفتقر لأبسط مقومات النظرة العلمية على اعتبار أنه يتحرك بناء على قناعات،وتحيزات،وقبليات لا تصمد كثيرا أمام عناصر وأدوات التحليل الأنثروبولوجي التي تكشف باستمرار عن مدى تعقد وغنى تلك المجتمعات؛ ولربما أبرز مثال على ذلك إسهامات مارسيل موص بصدد " الهبة " .
لقد درس (موص) أنماط التبادل الطقوسية في التراث الأنثروبولوجي فتبين له أن ثمة التزاما بين مانح الهبة ومستقبلها (= بكسر الباء ) . إن الهبات ، في جوهرها ، رموز تتغيا تحقيق تكامل القبيلة وتدعيم نظام القرابة أيضا. كما أن لها طابعا قانونيا، واقتصاديا ،ودينيا، وجماليا، وسياسيا. فهي قانونية لأنها مرتبطة بالالتزامات والحقوق الجمعية وتنظيم الأخلاقيات ، وهي سياسة لأنها موصولة بالتقسيم القبلي والعشائري؛ وهي دينية لأنها محاطة بالسحر، والشعائر والطقوس؛ وهي اقتصادية لأنها متضمنة لمفاهيم القيمة ،والمنفعة، والثورة، والاستهلاك ،والتراكم . ⑥ وهو ما يحصل معه أنه لا يمكن عد هذه المجتمعات المغايرة للنموذج الغربي خاملة أو باردة مثلما يدعي ليڤي برول أو رينال ، أو مجتمعات لا تاريخية ؛ لأن هكذا قول يكون منطلقه شمولية النموذج الأروبي كحكم مطلق؛ وسيادة فكرة المركزية الأوروبية التي ترى إلى الشعوب المغايرة كشعوب متوحشة وما قبل منطقية.إنه تصور ينطلق من مفاهيم بعينها نحتها الغرب الاستعماري ذاته كتبرير علمي لأجل استغلال هذه الشعوب،وفرض الوصاية عليها، واحتقارها واستهجانها . ⑦ يكتب ليڤي ستروس مفسرا ذلك : " إن التعارض بـين حضارات تقدمية وأخرى خاملة ينتج قبل كل شيء عن اختلاف في محور المركز " . ⑧
واستنادا على هذه المعطيات غير مُنْبَعٍ اعتبار هذه الشعوب شعوبا لا تاريخية تعيش في أدنى سلم التطور الحضاري " إن هذه المجتمعات ليست إذن مجتمعات بلا تاريخ ، ذلك أن التعارض الأكثر وضوحا بين الحضارات الهامشية وحضارات الغابة هو على مستوى التنظيم السياسي أكثر مما هو على مستوى البيئة ." ⑨
فـــي التجـــاوز :
يرى ليڤي ستروس بأنه يلزم التعامل مع الثقافات الإنسانية ،والمجتمعات المتعددة تعاملا نسبيا . ففي تقديره لا وجود لمجتمع صالح بطبيعته ، ومجتمع سيء بصورة مطلقة ؛ لأن المجتمعات تخدم مصالح أفرادها مثلما تخدم بعضها البعض .
وباعتبار الأمر كذلك يمكننا القول : لا وجود لتراتبية فيما يتعلق بالتقنيات . فليست ثمة تقنيات عليا وأخرى دنيا مادام أن قياس جهاز تقني بعينه يكون من خلال قدرة هذا الجهاز على إشباع حاجيات المجتمع الذي عمل على ابتكاره ⑩.
إن العقل البشري يعمل في كل مكان وفق قواعد يكون مصدرها الحياة الاجتماعية التي تشكل البيئة والواقع الحي الذي يتحرك داخله الكائن الإنساني ويعيش بين أحضانه . كما أن هذه الحياة الاجتماعية لا تستقيم سوى بقواعد التعامل . والإنسان نفسه يخضع لتلك الضوابط. ونظرا لأن الحياة الاجتماعية ليست على نمط واحد، فمن البديهي أن تتعدد تلك القواعد وأنماط التفكير وأنواع المنطق ؛ وبذا فإن الشعوب التي تنعت " بالبدائية " هي شعوب لها أسلــــــوب تفكيرها، وتـــاريخيها، ومنطقها الخـــاص ؛ وللشـــعوب الزراعية منهجها ونظـــامها؛ وللشعوب التـــجارية ( = وكذا الصناعية ) منطقها. وللسبب عينه كان لكل مرحلة تاريخية نظامها وتفكيرها ...
إحــــــــــــالات -
① دوفيرجيه (موريس): 1991 ، علم اجتماع السياسة ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر ، الطبعة الأولى ، بيروت ، لبنان ، ص ص : 77 – 79 .
- Taylor (E.B) :1871,Primitive culture ,London ,pp : 4 – 5②
-③ غيث ( محمد عاطف ): 1975 ، دراسات في تاريخ التفكير واتجاهات النظرية في علم الاجتماع ، دار النهضة العربية ، بيروت ، لبنان ، ص : 94 .
④- Duvignaud (Jean ) : 1966 , Introduction à la sociologie , idées- gallimard , p.p : 122 -123 .
⑤- Durkheim ( Emile) : 1895 ,Les règles de la méthode sociologique ,Paris .
⑥- Mauss ( Marcel ) : 1995 ,Sociologie et
⑦-Duvignaud (J) : po. cit pp : 133 – 134 .
⑧- Strauss ( C . L) : 1952 , Race et Histoire ,U .N . E . S . C .O ,Ganthier ,Paris, P : 25
⑨ - كلاستر ( بيار ) : 1982 ، مجتمع اللادولة ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ، بيروت ، لبنان ، ص : 79
⑩- Strauss ( C . L) : 1955 , Tristes tropiques , Plon , Paris,( terre humaine)