في نظرية القيمة عند الدكتور هشام شرابي(1) ـ د.عبد الله موسى*

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse22013يقدم الدكتور هـ.شرابي أطروحته الموسومة : "مشكلة القيم في فلسفة هارتمان* ولويس كلرنس*" لينال بها شهادة الماجستير سنة 1948 بجامعة شيكاغو. وهي الرسالة الأولى فيما اعتقد ...نظرا للاهتمام القليل بنظرية القيمة في فكرنا العربي المعاصر ، اللهم إلا ما يعد اليوم على الأصابع ...فهي تعد إضافة علمية للمكتبة العربية في هذا المجال.
ولاعتبار ثان ، كون الفلسفة التقليدية لم تهتم بالقيم إلا من خلال نظرية المعرفة التي تعالج مشكل الحقيقة وعلم الجمال الذي يعالج مشكل الجمال والأخلاق التي تعالج مشكل الخير . كما كانت تهتم بها لا لمعرفة بنيتها ، بل لمعرفة الكيفية والشروط التي تُوصلنا إليها .ـ لكن الفلسفة المعاصرة ( فلسفة القيم المعاصرة) أضحت تبحث عن القيمة في الموضوع الذي يجسمها أكثر مما تبحث عنها في الشخص الذي يقدرها وعن الكيفية التي تصير القيمة بها حاضرة في الموضوع، أو عن الكيفية التي يكتسبها الموضوع بها .
وعليه، لقد كان اختيار المؤلف لهذه المشكلة، ناتج عن تأثره بالفيلسوف " هارتمان " الذي يقول عنه، أنه كان في أسلوبه مثاليا بالرغم من كونه من أتباع " هوسرل " كما كان له تأثير كبير في الفلسفة الوجودية المعاصرة. إذ يعتبر القيم الأخلاقية كالعدالة والشجاعة والمحبة والصداقة ( مثلا موضوعية ) لا تتغير بتغير المكان والزمان ، وتتمتع بوجود أبدي كالمثل الأفلاطونية . بالإضافة إلى ما يتميز به في الكتابة التي كانت غاية في الدقة والأناقة والجمال... مما جذبه أكثر نحو " هارتمان .

في مقابل " لويس " الذي كان يعبر عن روح الفلسفة الذرائعية . ومن ثم مشكلة القيم في نظر المؤلف كانت نقطة الخلاف بين " لويس " و " هارتمان " قائمة على تصورين متقابلين . فالقيمة في نظر " لويس " نسبية تقرّرها خبرة الفرد ، فالجيّد أو الحسن ( أو المرغوب فيه ) لا معنى له خارج التجربة المباشرة . بالرغم من محاولة " لويس " للحفاظ على موضوعية القيم بإصراره على أنها ليست مجرد أحكام ذاتية ، فإنه انتزعها من الأرضية الفلسفية التي ارتكزت عليها عند " هارتمان" وأخضعها لمنطق تجريبي لا يقبل الموضوعات أو المثل خارج التجربة الحسية المباشرة .[2]
* * *
والغاية من هذه الأطروحة كما ورد في مقدمة المؤلف ، تكمن في محاولته البرهنة على صدق " هارتمان " في تأكيده على أن القيم مطلقة وليست نسبية . ويعود ذلك إلى عامل تأثر المؤلف العميق بالمثالية التي تلقاها في صباه  حينما كان يؤمن بأن ( الحقيقة في ماهيتها مطلقة ، ولا شك في ذلك ). وكذا تأثره  بتوجيه "تشارلز موريس " فجاء موقف المؤلف القبول المسبق لـ " هارتمان " بينما كان بالنسبة إلى" لويس " هو الرفض المسبق .[3] الشيء الذي يعكس منهجه في الدراسة والذي يغلب عليه الطابع الوصفي الاستقصائي عموما ، مع الحرص على استخدام كل منهما ( لويس وهارتمان ) لدحض الآخر. فجاءت خطة البحث على شكل قضايا مركزية من خلال فصولها الثلاث، تعكس تصور كل من " هارتمان ولويس " للقيمة .
هذا وتوخيا لموضوعية البحث، فإن المؤلف ينبّه إلى الصعوبات الناتجة عن التباين في الاتجاهات لكل من " لويس وهارتمان«. وكذا الاتجاه العام للمناقشة والحجة التي ينهض بها البحث . على اعتبار أن " هارتمان" يتناول القيمة في معناها الخلقي الدقيق ـ أما " لويس " فإنه يحدد وبوضوح مناقشة مجال القيمة غير الخلقية . بالإضافة إلى أن مشكلة القيمة قد اكتسبت الآن فقط مكانة مرموقة في الفلسفة الحالية ، مما يجعل موضوع القيمة موضوعا مثيرا للجدل والغموض والتكرار .... الناتج عن قصور في السيطرة على اللغة والاستحواذ عليها ..كما يقر بذلك المترجم .[4]

فمن السؤال الكلاسيكي عن ما هو الشيء ذو القيمة ؟ ( وهو تلخيص للفلسفات القديمة ـ السفسطائيين ، أفلاطون ، أرسطو ..) إلى السؤال النيتشوي ـ عن ما هو الشيء النبيل ؟. ظلت مسألة القيم لمدة طويلة مصادرة من علوم قيمية، أقامت تصنيفات ولوائح وترتيبات للقيم اشتركت في معارضة النبيل بالمبتذل / السوقي بالفيلسوف / اللذة بالخير... قيم تعبر عن ذلك التماسك الملتصق والعيني ، المعيوش والتجريبي الامبيريقي ) ، فحتى كتبنا المدرسية تحتوي على ذات المفاهيم الطيبة والشهمة مثل : المنفعة ، السعادة ، الفعالية .. إنها علوم مسكينة ( على حدّ تعبير " كريستيان ديكام " في كتابة إيديولوجيا التحرير[5] ) .

في هذا الإطار العام لعالم الاهتمام بعالم القيم.. جاء تصنيف المؤلف لقضاياه الثلاث على النحو التالي:

* * *
ـ في الفصل الأول والذي يتناول فيه « طبيعة القيمة الأصلية " من خلال التساؤلات التالية : هل التقويم ذو طابع معرفي ؟ ماذا نعني ؟ وكيف نعرف ؟ . يعتقد المؤلف أن التساؤل في حد ذاته يعد نتاجا لحالة الفلسفة المعاصرة اليوم . بحيث أن المشكلتين الملحتين والتي ينبغي لنظرية القيمة مواجهتهما هما المشكلتان اللتان ترتبطان ارتباطا مباشرا بمشكلات ( المعنى) و ( المعرفة ) فماذا نعني ؟ وكيف نعرف ؟..
ففي مسألة القيمة الأصيلة ، يدور الجدل حول نظرية القيمة من خلال الحقيقة الأولى : وهي السؤال المتعلق بطبيعة القيمة النهائية ، يفرض نفسه دوما ، فليس من الممكن تناول القيمة أو تناول أية مشكلة تتعلق بالقيمة دون افتراض ضمني أو صريح يتعلق بالطبيعة النهائية للقيمة. والحقيقة الثانية : وهي أن أي افتراض يتم تبنيه ، يحدد سمة وطابع الطبيعة المتميزة للمعالجة التي قد تأسس عليها الافتراض . وعلى ضوء هاتين الحقيقتين يمكن التمييز من أن نظرية " لويس " نظرية طبيعية تجريبية . ونظرية "هارتمان" نظرية واقعية متعالية ترنسند نتالية.                                                                                                 
وعليه ، فالتمييز بين القيمة الأصيلة والقيمة الخارجية " البرانية " إنما يوجد وعلى وجه التحديد في التمييز المتعلق بالدور الذي يلعبه المعنى التعبيري في الأحكام الموضوعية في مجال " القيمة " والأحكام الموضوعية في مجال " الواقعة "[6] .فنجد تصور لويس " للقيمة الأصيلة " مرتبط بأحكام القيمة ومكانتها في التحقق التجريبي ( أي فيما هو قيّم على نحو مباشر.) بتوافق مع نفس الموقف الذي أخذه " ديوي " في القيمة من أن كل أحكام القيمة تقبل التحقق التجريبي  . إذ هي أحكام تتعلق بالوسائل في علاقتها بالغايات المستهدفة .
(( فالخير)) في نظر النفعيين هو الحل الموفق لكل ما يعوق اضطراد التقدم الاجتماعي ، وهو الذي يسهم في حل مشكلة ما تواجه الإنسان . والقيم بمختلف صورها خلقية أو جمالية أو منطقية أو اقتصادية .. تعد في نظر النفعيين نسبية تتوقف على الأغراض التي تستهدفها ، فهي مجرد وسائل لتحقيق غايات تصب في الخير بوجه عام .

وإذن ، نظََر " لويس " من موقفه التجريبي البراغماتي إلى القيمة الأصيلة على أنها ذاتية أي تعرف بواسطة " المعطى " الذي يقدمه لنا الموضوع المعروض علينا عرضا مباشرا .[7]  في حين يصيغ " هارتمان " مفهوم القيمة الأصيلة انطلاقا من السؤال التالي : ما هي خبرة الشيء الذي نقدره تقديرا مباشرا ؟ أي الشيء الذي نعتبره قيّما على نحو مباشر ؟ . فهو يرى أن الأشياء تكون قيّمة ليس لأننا نختبر ونعاني كيفية قيمية عندما تعرض هذه الأشياء علينا وإنما لأن لدينا سلفا معيارا قيميا نعتبر بمقتضاه هذه الأشياء ذات قيمة . وهذا المعيار هو " الخير الأصيل "[8] فالقيم موضوعات مثالية موجودة في ذاتها مستقلة عن كل تفكير ورغبة، قابلة لإدراك الذات ، لها إدراكا حدسيا وقبليا لا علاقة له بالتجربة بتاتا . مما يعني أنها تكوّن في نظره عالما كعالم المثل الأفلاطونية .
ومن ثم ، القيم لا تتعلق أو ترتبط بشخص ما بحسب رأيه فمثلا: القيمة الأخلاقية للثقة ، ليست هي الثقة نفسها ، فالثقة في حدّ ذاتها " ليست إلا مادة أو نسبة نوعين بين شخصين . " وهي بهذه الصفة لا تتطابق قيمتها معها ، لا في واقعها ، ولا في فكرتها إذ أنها كائن وجودي ، وليست كائنا قيميا . ـ أي ظاهراتي ـ هي بنية أساسية مثالية لبنية خاصة من الوجود، بينما قيمتها شيء آخر . غير قابل للتحويل ، وشيء يعطي لنا حالة شعورنا بها. وبذلك ، فالقيمة جد مرتبطة بمادتها. رغم هذا ، فهي تخالفها ، وتقيم فوقها لتمنحها " بصيص معنى وأهمية نظام يمتاز بكونه أسمى ، وبكونه يضعها في علاقة مع نظام القيم المعقول ." وبالتالي ، فالقيم في نظر "هارتمان" أولانية Apriori بالرغم من أن كل تقدير للقيم هو بالضرورة ، تقدير نسبي خالص وتعسفي على نحو تام ..[9] .

* * *
ـ ويتعرض في الفصل الثاني إلى مسألة " القيمة والواقع"، فيعرض لموقف " هارتمان" من الوجود (نوع الوجود) المثالي الخاص بالقيم باعتبارها(ماهيات) من أنه وجود مكافئ ومطابق لنوع الوجود الذي كان للأفكار في الفلسفة الأفلاطونية . إذ تعد القيم أنماط أو نماذج لعالم مثالي ، وهو عالم بأبنيته الخاصة وقوانينه الخاصة ونظامه الخاص.[10] هذا العالم المثالي الذي له صفة الوجود الذاتي المثالي يصدق في الآن نفسه على عالم القيم ، باعتبار القيم عندما يتعلق الأمر بالمعرفة تتساوى تماما مع كل صور المعرفة النظرية.  فمثلا : بإمكاننا أن نتحكم إلى حد بعيد في المواقف والمواد التي لها قيمة ، ولكننا لا نستطيع بحال أن نحدد ما هي القيمة التي سوف تكون لهذه المواد ولهذه المواقف.  إذ يرى " هارتمان " << أن القيمة هي التي تحدد الذات ، وأن الشيء الذي يبقى متعاليا بالنسبة للذات في ميدان المعرفة، هو الذي يحددها .>> [11] ومن ثم الوجود الذاتي للقيم ، هو وجود يتميز بأنه وجود مثالي ، أي أن القيم ليس لها وجودا ذاتيا يمكن أن يوصف بأنه وجود واقعي . ويمكن إدراك هذا الوجود المتميز لدى " هارتمان " من خلال مذهبه في الحدس العاطفي القائم على تصوره للإدراك الجواني للقيم ، الشيء الذي يظهر في أفعال الاستحسان والتفضيل والاقتناع ..وهو تعبير عن رؤية الإنسان ومعاينته للقيم في وجودها الذاتي المثالي المتميز ( رؤية ومعاينة أولانية خالصة ) وهي ليست أولانية ذهنية أو عقلية في طبيعتها وإنما أولانية عاطفية حدسية . [12] فالمعاينة الحدسية للقيم تماثل فقط هذه الرؤية الجوانية المباشرة المميزة لأفكار ومُثل أفلاطون . . وإذن ، القيم حسب "هارتمان " حقائق ثابتة ، وماهيات مستقلة تكوّن عالما خاصا بها ، موجودا في ذاته كمملكة أخلاقية مثالية لا صلة لها بالواقع ، ولا صلة لها بالشعور . وهي تمتاز بالوجوب ، وأن لها كيفية وجود ، هي وجوب الوجود المثالي أو المطلق ، الذي يتضمن الميل إلى الظهور في الواقع . ولهذا فهي تدعمه وتثبته إذا كانت قائمة به ، وتتطلع إلى الظهور فيه إذا كانت غائبة عنه[13]

في حين أن القيم / الواقع ، في نظر " لويس " كامنة في الموضوعات الحقيقية والواقعية .. ويمكن تحديدها على نحو تجريبي . بحيث ، ومن وجهة تجريبية تؤكد على أن الموضوعية تتعلق بأحكام قيمية معينة ، وذلك ما لهذه الأحكام من إشارة تقبل التحقق إلى خبرات معينة . [14] حتى وإن لم تتفق أحكام القيمة بالصفة العلمية الخالصة .. على أساس أن القيم لا يمكن بحال أن تكون موضوعات لمعرفة علمية مباشرة وأساسية .. إلا أن " هارتمان " يعترض على واقع القيمة التجريبي ويؤكد على أن الخبرة العاطفية بالقيم وليس التفكير أو الخبرة في صورها الصافية والخالصة بإمكانها تحقيق وعي أصيل بالقيم . لكن " لويس " لا يقف عند حدود موقفه التجريبي من القيمة ، بل يطوّر العلاقة الأساسية بين التقييم والمعرفة التجريبية على نحو اعتبار الإمكانية القيمية كائنة وموجودة في الأشياء .. فيرى أن علاقة القيمة بالأشياء إنما تتحدد بعملية تحقيق القيمة وتجسيدها في الخبرة المباشرة.[15] فالموضوعات التي تلازمها قيمة ما ..هي خبرة محتملة أو ممكنة بهذه القيم . فالقيمة في الموضوعات كـ ( الأشياء ، الحوادث ، الموجودات .. ) توجد باعتبارها إمكانية تقبل التحقق الفعلي والواقعي. أما القيمة باعتبارها خبرة فعلية فإنها تثوى وتحل في الذات التي تعيش الخبرة وتعانيها . [16] ولأن الحمل القيمي عند " لويس " يؤدي إلى نسبية القيم وهي نسبية محتملة .. فإن وضع الإمكانية القيمية وضع مشروط بعلاقة ( إذا ..إذن  ) فمثلا : المرء الذي يكتشف ذهبا .. سيكون راضيا وسعيدا وفق هذه الصيغة ، فتكون إمكانية القيمة ما يمكن أن يكون قيّما .. [17] لكنها إمكانية لا تتضمن أي خبرة قيمية ومن ثم هي إمكانية لا تتضمن أي خبرة قيمية ، ومن ثم هي إمكانية مآلها الحل والتلاشي . باعتبار القيمة الموضوعية للذهب هي قيمة مسلم بها ومعترف بوجودها سواء تم اكتشافها أم لم يتم . لكن " هارتمان " في ردّه على مسألة إمكانية الخبرة القيمية ، يعتبر أن الظروف والشروط الفعلية لتحقيق القيمة وتجسيدها موجودة في طبيعة الشخص أو الأشخاص المستهدفين أو في ظروفهم . ( وأن هذه الظروف لا تتم في إطار المتطلبات التجريبية التي قدمها " لويس ") [18].  إذ بقدر ما يكون اعتقادنا بالحدس العاطفي ومعه تصور القيمة على أنها أولا نية اعتقادا مقبولا ومعقولا ، فإن الماهيات المثالية تظهر دوما على أنها السياق الميتافيزيقي المقبول والمعقول للقيم.

* * *
ـ أما الفصل الثالث والذي يفرده لمسألة « القيمة والفعل " فلإدراك العناصر المكونة للعلاقة بين القيمة والفعل فإن المؤلف يعرض علينا التمييز التالي: القيمة باعتبارها كيفية  ـ والقيمة باعتبارها صفة موجهة أو أنها تمثل ما ينبغي أن يكون . ( فمنهج لويس التجريبي) يكون منصرفا إلى الكيفيات القيمية الخاصة بخبرة مباشرة . ويعني بها الحياة الخيرة والطيبة معا .  [19] في مقابل " موقف هارتمان " الذي يرى أن الصحة أو الينبغية المتضمنة في أحكام القيمة ، علاقة تتجه من كيفية القيمة إلى الإرادة . لأن المبدأ المعياري بالنسبة لـ " هارتمان "  هو الينبغية المطلقة . بحيث يلعب الشعور بالقيمة الدور الأساسي في معرفتنا لها. على اعتبار الشعور بالقيم شعور متحرك. وأما القيم في حدّ ذاتها فإنها ثابتة لا تتغير، لأن ماهيتها أبدية لا صلة لها بالزمان أو التاريخ. ولا نستطيع أن نطّلع على جملتها، دفعة واحدة، لأن عالمها واسع للغاية . ولكننا نقتطع منها الجانب الذي يكشفه لنا الحدس في كل مرة يقع فيها كشف لنا. فالجانب الذي يتجلى لحدسنا يتغير،  من حين لآخر ، والقيم التي نقيس بها الواقع تتغير مثله. وهي قيم يصعب الكشف عنها ، ولا يتوصل إليها إلا أشخاص قليلون ، أشخاص ممتازون يظهرون في البلدان والعصور المختلفة ليكونوا رواد أممهم وهداتها ، يحركون الجماعات التي ينتسبون إليها بالقيم الجديدة التي يكتشفونها ، ويدعون إليها ..  [20] وعليه ، فالمبدأ المعياري عنده يعبّر عنه بظاهرة الضمير ، ومن ثم ، الينبغية مرتبطة بمعنى القيمة وإدراكها.  أما الإرادة فهي الاستجابة الخلقية للينبغية أي " ما ينبغي أن يكون " وما الخيرية الخلقية إلا " الإنجاز " والتحقيق لمقتضيات ومطالب الينبغية . والفعل في صورة ما ينبغي أن يكون وهي المشكلة الخاصة بالعلاقة بين الواقعي من جهة والمثالي من جهة أخرى . باعتبار العقل عنده، لا يعني شيئا أكثر من معاينة القيم وإدراكها وتمييزها. في مقابل موقف " لويس " الذي يرى أن صحة الفعل إنما تستخلص من الضرورة العقلية أو مما يعنيه بمبدأ الاتساق.فالقيمة هي غاية كل فعل وهدفه ، كما أن ذات القيمة قد تم تقييمها وتقديرها في علاقتها بكلية الخبرة وشمولها . وبالتالي الفعل محتوم ومحكوم بالاتساق العقلي .
وإذن ما الواجب الذي ينبغي القيام به اتجاه الآخر ؟ يرد " لويس " الواجب إلى المجال الأخلاقي ، وهو الفعل الذي يوفر لي خبرة الخيرية، وهو في نفس الوقت الفعل المتسق ( مع تصور الحياة الخيرية الطيّبة على أنها كل ) ومع المطالب والحاجات الخلقية المفروضة من قبل الآخرين . [21]

       وعليه ، يمكن تصور " هارتمان ولويس " للقيمة الأصيلة في تحديد " لويس " للقيمة بالعالم الأنطولوجي حيث تكمن كيفيتها " البديهية " في نهائيتها . بينما " هارتمان " يميز بين العالم الأنطولوجي من جهة و عالم القيم من جهة أخرى .. مما يجعل من البديهية خاصية لإمكانية المعرفة المتعلقة بالقيم دون أن تمتد إلى نهائية هذه القيم. [22] ذلك ما نستشفه من الجدول التوضيحي التالي :

 

لويس :

هارتمان :

القيمة :

قيمة مباشرة

قيم خيرات

السلوك :

مبادئ عقلية

قيم خلقية

 

العلاقة التجريبية هي التي تدعم ( القيمة والفعل)

العلاقة المطلقة / المتعالية هي التي تدعم ( القيمة والفعل )

 

الضمير ليس أكثر من مبدأ عقلي.

الضمير كتصور محوري وأساسي متميز عن مبادئ التقييم المتضمنة في أولانية الضمير.

في الختام ، يخلص المؤلف من عرض بحثه في مشكلة القيم بين تصوري كل من " هارتمان ولويس " من خلال تأكيد موقف كل منهما ، فبالنسبة إلى " لويس " الذي يؤكد من أن في الأخلاق الطبيعية يتوجب تحديد الخير بأسبقيته على ما هو الصواب ، وأن الفعل يمكن تبريره ليس بالاعتماد على قانون خلقي وإنما يمكن تبريره في حدود إمكانية ارتغاب واشتهاء نتائجه المستهدفة والتي نفكر فيها .  (21)  لأن المعرفة التجريبية هي في الأساس معرفة نفعية براجماتية الطابع ، وأن الصحة والحقيقة الكائنة في الموقف النفعي .(+) ذاك ما حرصت عليه البراجماتية عموما في مجال القيم على معرفة الآثار التي تترتب في سلوكنا على المبدأ المثالي لمعرفة مدى صحته ، فالآثار الطيبة تساعد صاحبها على حل مشكلاته ، ما يمثل عندها معيار الحقائق ومقياس القيم جميعا . إذ تشبّه قيم الحق ، الخير ..كالسلعة المطروحة في السوق قيمتها لا تقوم في ذاتها ، بل في الثمن الذي يدفع فيها فعلا . فالحق كورقة النقد تظل صالحة للتعامل حتى يثبت زيفها.

أما بالنسبة لـ " هارتمان " الذي يؤكد على الخيرية الخلقية من أنها ليست كافية ، وأن الفضيلة هي الخير الأقصى . فإنه يعتبر أن الشخص الذي لا يتعرف على القيم وعلة ما هي عليه في مملكتها، هو ضحية " لخطأ قيمي " والشخص الذي لا يقدر على أن يتعرف عليها بالكلية هو ضحية " لعمى قيمي «. وبالتالي يقوم الخطأ والعمى في مجال القيمة في نظر " هارتمان " على عدم التطابق بين المعرفة والوجود في ذاته، الذي هو وجود القيمة وهو المستقل عن كل معرفة وخطأ . [23]

    وإذن ومن خلال المقارنة الاستقصائية التي أقامها المؤلف بين الموقفين ( التجريبي، الحسّي، المباشر، العقلي، النسبي..عند لويس ) و ( المتعالي، المطلق، الموضوعي، النهائي.. عند هارتمان ) نتساءل عن ما هو الشيء الذي يقوّم أو يروّض ؟ . إنه تساؤل طرحه " نيتشه " كما طرحه " أرسطو " ، وهو سؤال يطرحه كل تدوين ثقافي جديد . على اعتبار الفضيلة في نسبيتها أو في مطلقيتها ليست سابقة على تأسيس نظام الكون ، ولا يفيد البحث عنها في الأعماق الزائفة للذات والمعاني . فالقيم هي نتاجات مكوّنة ومكوَّنة، ولا تعود إلى لعبة المفاهيم. ومعتنقو هذه القيم لا يولدون أحرارا ولا غير أحرار ، ولا متساوين وغير متساوين  ـ حسب تعبير "ديكام" ـ وفي نفس الوقت لا أحد منا ينجو من مسألة القيم والرغبة ليست أكثر إنتاجا من عدم الرغبة . فلا وجود لوجود حيادي ( أي بمعزل عن القيم ) والنظرية وحدها لا تستطيع أن تجيب عن مسألة القيم .

فالأسئلة الكانطية عن ماذا أستطيع أن أعرف ؟ وماذا يجب علي أن أفعل ؟ أو حتى ما هو المسموح به من الأمل؟ إنها اليوم في مقابل أسئلة الإنسان المعاصر والتي تتمحور في ما قيمة ما نعرف ؟ وقيمة ما نفعل؟ وقيمة ما ستحققه ؟ أليست في النهاية القيمة سوى احتجاج على الوجود ؟ ألا تكمن استقلاليتها في كونها منفصلة عن ما يرضينا في وجودنا وإلا كيف نبرّر وجودها ، هل بتنازلنا عن عناصر الوجود ؟ . إن أساس القيمة لا يكمن فيما ذهب إليه " لويس وهارتمان " وحسب، بل في أساسها النقدي القائم على الاعتراض والاحتجاج الدّائمين ، مما يعطيها شكل التجاوز باستمرار من خلال إبداع الإنسان لغايات وقيم تبرر إنسانيته قبل وجوده .

    هذا حتى وإن كان د. هشام شرابي، إلى أن مجال القيم يجب التعامل معه برؤية منفتحة وأفق أرحب يفسح المجال لكل تنويعات وتفريعات ظاهرة التقييم.. فالتناول الفينومينولوجي لدى " هارتمان " قد تعامل به على نحو مستفيض ومستوعب.. وإن لم يتأسس على المعطى التجريبي باعتباره مبادئ.. وأن مذهب النتائج والتحقق التجريبي هو المذهب الكائن والمستقر في أساس تصور " لويس " للقيمة الأصيلة والفاعلية الخلقية، هو المذهب الذي يمثل الرفض لقبول دعوى مبنية على الظاهرة المثيرة للجدل والخلاف ويعني بها ظاهرة الضمير بالإضافة إلى الإحساس الأولي بالقيم الذي قدمه " هارتمان " . كما ينبّهنا إلى أن العرض الفلسفي الدقيق لهذه القضايا وهذه المشكلات لا يهدف إلى الوصول إلى حل وإنما يستهدف المضي بهذه القضايا إلى مستوى من الدقة والإحكام...الشيء الذي يعكس موقف المؤلف فيما تبناه من قيم سامية ومتعالية في أغلب ما أنتجه بعد هذه الأطروحة، مما يجعل الباب مفتوحا لدراسات أخرى في هذا المجال.

عبدالله موسى – عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

هوامش:
* - عبد الله موسى .استاذ التعليم العالي جامعة سعيدة . الجزائر.
1  _ قراءة في كتاب : مشكلة القيم في فلسفة " هارتمان ولويس "للدكتور هشام شرابي.
*  ـ نيكولاي هارتمان : فيلسوف ألماني ولد في 20 جويلية 1882في أريغا ، وتوفي في 09أكتوبر 1950 في غوتنغتن. من آثاره : كتاب الأخلاق 1926...
*  ـ Lewis Clarence Irving 1883/1964.
2 ـ هشام شرابي: مشكلة القيم في فلسفة " هارتمان ولويس " ترجمة وتقديم محمد محمد مدين. دار الثقافة العربية . 2001.001 . ص 30/31.
3 ـ نفسه . ص 31 /32.
4 ـ نفسه . ص 48/49.
5 ـ كريستيان ديكام ، مقال : فلسفة القيم ، مجلة العرب والفكر العالمي : العدد السابع صيف 1989 . تصدر عن مركز الإنماء القومي ، بيروت . ص 83 وما بعدها .
6 ـ نفسه . ص 67.
7 ـ هشام شرابي ،  المرجع السابق . ص 78
8  ـ نفسه ، ص 77
9 ـ نفسه . 84
10 ـ نفسه .ص98
11  ـ Nicolai Hartmann , Les Principes Dune Métaphysique de la connaissance , 2 V Aubier , Paris , 1957. P 131-134
12  ـ نفسه . ص . 103
13  ـ نفسه ، ص 253 .
14  ـ نفسه . ص. 109
15  ـ هشام شرابي ، المرجع السابق ص . 110
16  ـ نفسه ، ص .111.
17  ـ نفسه ، ص . 114
18  ـ  Ibid . P 136 .. Nicolai Hartmann
19  ـ هشام شرابي ، نفسه ، ص . 126
20  ـ الربيع ميمون : " نظرية القيم في الفكر المعاصر  بين النسبية والمطلقية " الشركة الوطنية للنشر والتوزيع . الجزائر 1980 . ص.264.
21  ـ هشام شرابي ، نفسه ص .134
22 ـ نفسه ص .141
23 ـ هشام شرابي ، المرجع السابق  . ص .153


تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟