I – حول الصور المتعددة للفكر التأويلي الرشدي.
لا ريب أن تقييم المتن الفلسفي الرشدي الشارح لأرسطو، والتأمل في أبعاده ودلالاته الفلسفية العامة من شأنه أن يفضي حتما إلى إدراك وجود مفارقة كبرى تفصل هذا المتن إلى نصين، أو بالأحرى إلى نظامين دلاليين يتولد فيهما اللاحق عن سابقه ويستنسخه في الوقت ذاته، إذ يتعلق الأمر في الممارسة الرشدية الشارحة لأرسطو بالوضع الإشكالي لقضية المعنى ولصيغ تداوله وتأويله، ذلك أن الشروحات الرشدية على أرسطو تضعنا في مواجهة بناء معرفي يتقابل فيه نظامان للحقيقة ولكيفية إنتاج الدلالة يمتلك كل منهما أفقه اللساني والثقافي الخاص به. ومن الأكيد أن القصد الرشدي المحرك لشروحاته الفلسفية يتجاوز ذلك الفهم الضيق للتأويل البرهاني كحصر لمنطق العلاقات بين العلامة والمعنى، ليصب في اتجاه البحث في المنظومات والقواعد التي حددت تحولات هذا المعنى، تلك التحولات التي أفضت إلى استيعابه في ممكنات تأويلية متعددة، مشائية متأخرة وإسلامية، قاسمها المشترك في الاعتبار الرشدي عكوفها على إنتاج وتوليد صور من المعاني والدلالات ليست بتلك "الدلالة الأولى" التي يؤشر عليها النص الأرسطي المؤسس، ولا يصلها به سند مرجعي محدد.
ومما لا شك فيه أن إصرار ابن رشد على ضرورة وفاء النظر الفلسفي بشروط اليقين التام والعلم المحقق، كشرط إبستيمولوجي يضمن إمكانية العلم بالعلة، لا يبرره إلا قلقه الصامت من تفكك أنساق الدلالة وتضارب أنظمة المعنى بفعل تصارع التأويلات المذهبية وانكسار الخطاب الفلسفي أمام المد الكلامي الأشعري نتيجة استبدال الركائز الثقافية والفكرية للعقلانية الفلسفية في الفترات الحالكة من سياسات الموحدين بمستويات فكرية جديدة ترتكس بالتعقل الفلسفي، وبشكل جذري، نحو الخيال الصوفي وصور اللامعقول. إذ يوحي الضروري في السياسة بمعالم هذا الوضع المضطرب، فإضافة إلى اعتراضات ابن رشد العديدة على مضامينه كنص أخلاقي وسياسي[1]، والتي تشهد على استحالة إمكانية تحول فكر أخلاقي يستند في بنيته العقلية ومرجعيته العملية، إلى مفاهيم كونية تتصل بالطبيعة الجوهرية للإنسان، إلى سلطة عملية لتدبير الواقعة الأخلاقية عن طريق السلوك المدني الفاضل، فإن الرشدية تأخذ على العقل العملي الأرسطي عجزه عن التقريب بين التصورات المختلفة عن طبيعة الإنسان في لغة أخلاقية موحدة ونظام مدني جامع[2].
فمع اشتراط ألا تكون المدينة حكيمة إلا بالجمع بين العلم النظري والعملي[3] وأمام اختلال أسس المشروعية السياسية في النظام الموحدي بفعل غياب شرط العدالة الذي يبقى في نظر ابن رشد "مجلبة للضرر الكبير"[4]، تكون نتيجة كل هذا عدم تبين الغايات الأخلاقية، أو بعبارة أوضح تحول القانون الأخلاقي إلى مجال صراع بين الذوات الفاعلة أخلاقيا، مما يعني فقدان قدرات العقل العملي الأرسطي على الضبط الأخلاقي[5] وتوقفه عن إنتاج غائية أخلاقية موحدة داخل المدينة. ويبدو أن مضمون النقد الرشدي للطوباوية السياسية الأفلاطونية ورديفتها الأرسطية والذي طوره فيما بعد عبد الرحمن بن خلدون في مقدمته[6]، هو التنبيه على محدوديتها وافتقادها إلى نظام أخلاقي مرجعي يلغي إشكالية التنازع السياسي والمذهبي وتصارع التأويلات، كذلك الذي عانت منه المدينة الموحدية زمن ابن رشد بفعل ما أحدثته الدعوة المهدية من تشوش وإزعاج للنخبة الأندلسية العالمة التي هالها أن ترى المجال السياسي الأندلسي محاصرا بالقوى البدوية الموتورة من جيوش الموحدين وطلبتهم وأشياخهم الحاقدين على المالكية السياسية وأعلامها، الأمر الذي يعني على مستوى التأويل الفلسفي والأخلاقي الرشدي تحول "المدينة الجماعية" إلى تسلط، وإلى مدينة الغلبة، أو بالأحرى الانتقال من السياسة الفاضلة إلى وحدانية التسلط الممارس على "مدن مستعبدة". وإذ يؤول أمر المدينة الأندلسية إلى مثل هذا النظام التسلطي، بما يلحقه بالناس من "ضرر وشر"[7]، فإنه من اليسير أن يقدر المرء مدى وعي ابن رشد في خطابه السياسي الأخلاقي باضطراب المرجعية الأخلاقية، وغياب قاعدة أخلاقية معيارية بإمكانها أن توجه السلوك المدني نحو أفق حضاري وقيمي متجانس، تتخذ فيه موجهات السلوك الأخلاقي والمدني صيغة عملية تترجم الفضيلة إلى استراتيجية لإنتاج الذات، من خلال آليات الضمير الوازع، الذي يأخذ مظهره الأساسي في اللغة الأخلاقية/العقائدية الرشدية صورة تمسك بالواجب الديني، تعكس احترام الجماعة للحدود الشرعية والتزامها بالآمر الخلقي المتولد عنها[8].
على أننا لا نلمس الشكل المباشر لهذا النقد إلا فيما كان يبديه فيلسوف قرطبة من توجه في كتاباته العقائدية المتقدمة زمنيا على إنتاجه الأخلاقي بمرجعيته التي تصوغ الوجدان العام وتؤطره أخلاقيا ضمن حدود الجماعة الدينية، محل متطلبات السياسة العقلية وما تقوم عليه من تدبير عادل لتراتب القوى النفسية المتناظرة مع تراتبات النظام المجتمعي. ومن البين هنا أن اعتماد الفيلسوف على سلطة الأمر الشرعي وحثه الجمهور على الالتزام بما تحته عمل، حيث يلتقي الكلام الشرعي "بمحاسن الأخلاق"[9] التي هي علة المقصد الشرعي والسبب الكامن وراء العبادات المفروضة.. يبقى في نهاية التحليل أداة لإنتاج خطاب أخلاقي متحرر يوظف بذكاء قصد الشرع إلى طلب الفضائل المدنية ويحولها إلى سلطة معنوية بيد الفيلسوف، تلزم الفرد كفاعل أخلاقي بالطريق المحدد للجمهور، وتخضعه لإلزامات العقل العملي، مفسحة باب النظر ومجال إدراك الحق وممارسة السلطة العلمية، أمام أهل النظر من الآخذين بالعلم البرهاني.
لهذا الأمر لم يكن للأخلاق الرشدية المؤسسة على السياسة العقلية لتنفي مرجعية أخلاقية أخرى سابقة عليها تستند إلى عقائد الملة ومقصود الشرع. ولهذا الأمر أيضا نستطيع القول بأن عدم الكفاية السياسية لنظرية الفضيلة وللسياسة الفاضلة اليونانية[10] وصعوبات تحويلها إلى قاعدة تداولية في الفضاء القائدي الإسلامي هو الذي يفسر مزاوجة فيلسوف قرطبة في فكره السياسي بين نمطين من الوعي الأخلاقي السياسي، أو بالأحرى بين عالمين متباينين أحدهما للجمهور والآخر للخاصة من العلماء القادرين على الوفاء بشرائط البرهان، وهي مزاوجة تخف حدتها إذا ما نحن راعينا أن المرادفة بين سلطتي العقل النظري والعملي لها ما يبررها في طبيعة الواقعة الأخلاقية نفسها، فنحن لا يمكننا تنزيل "الحكم الخلقي" إلا بما يوافق منظومة الاختلافات المجتمعية، إذ لا توجد معاني ودلالات المسلك العملية كأنظمة مستقلة ومكتفية بذاتها. وعلينا هنا أن لا نلتفت بالضرورة إلى ما تبديه الأرسطية من إلحاح على إلحاق العقل الأخلاقي بالنظام الطبيعي والكوني وكأنه ليس لها وجود مستقل عن السياقات المدنية والسياسية التي أنتجتها، بل إن هناك مؤشرات قوية في المتن الفلسفي الرشدي، دالة كلها على أن مورد حضورها كسلطة تضفي المعنى على الفعل لا يقتصر على ما صاغته السياسات الفاضلة من مماثلات بين القاعدة الأخلاقية وبين القانون الطبيعي، بل لا مفر من الانتباه إلى خصوصيات عالم الاعتقاد وتحريك قوته الوجدانية وآلياته الذهنية الخاصة لتثبيت شرعية التفلسف، وحق العقل في المواطنة داخل ثقافة تنازعه هذا الأمر.
ولعله من نافلة القول التأكيد على أن النص الديني المؤسس للحضارة الإسلامية ومثالها الخلقي يحمل أنساق دلالية تستوطن وعي الذات بالعالم وتسهم في نفس الوقت في تشكيل الضمير وبلورة سلطة مراقبة الذات المترافقة مع إحساس قوي بعلاقات الولاء التي تحكم المنظومة السياسية والكونية، مع ما يفرضه ذلك من انتقال بالعلاقة النصية للمعنى المطلق إلى مسلسل بناء وعي الفرد بالعالم وتشكيل وازعه الأخلاقي، حيث تنجلي بوضوح مظاهر الوعي بتداولية الخطاب القرآني باعتباره فسحة يتأسس فيها الكائن شرعا وقانونا، ليكون وجوده صورة لوجود الشريعة، ويكون خطابي خطابا لها[11]. وتبعا لخصوصية هذا المعطى الديني والثقافي الهام، لم يكن أمام العقل الأخلاقي الرشدي بد من تنويع مقامات الحقيقة، والنظر إلى مستوياتها المتعددة وصيغها التداولية التي تتقمص صورة سرد نصي تنكب عليه العملية التأويلية بهدف تقريب المتن الأرسطي من خصوصيات المتن العقائدي، وبذلك تصير فسحة الخطاب الديني معتمدة في الكشف عن بنيتها الأساسية على إمكانات التفسير واحتمالات التأويل، إذ من شأن تأويلات الخاصة من أهل النظر البرهاني أن تميز في كل هذا الخطاب منهجية متباينة تراعي الفارق العقلي والسوسيولوجي بين المتلقين كلما تعلق الأمر بالحسم في طبيعة العلاقة بين الكلام الشرعي والخطاب الفلسفي، غير أن هذا التنويع في مقامات المخاطبين يبقى من منظور معرفي خالص مدخلا أخلاقيا لبناء فلسفي متكامل بكل عدته الطبيعية والأنطولوجية والقيمية.
وعلى هذا النحو من النظر يستبين لكل فحص موضوعي لمسالك ودروب الرشدية المتعددة أن لا مجال للإلحاح على افتراض منحى تطوري غائي ومتصاعد سلكه المشروع الرشدي في طريقه إلى الاكتمال، إذ من خطأ الرأي الاقتصار على مركز نصي واحد وهو التهافت، حتى يقال إنه الحلقة الوسيطة الفاصلة بين الرشدية الناضجة وسابقاتها الواقعة في أسر نماذج مضادة لها، وكأنه "بيان" إعلان انفصال ابن رشد عن الغزالي بإشكاليته الخاصة، أو لكأن المسألة تتلخص في قرار شخصي بتغيير أنحاء النظر ووجهة التفكير. والحال أنه لا مفر من مراعاة الشروط البنيوية للذات المنتجة للخطاب ومستويات لا شعورها الفلسفي الذي من شأنه استعادة النصوص والمواقف "المكبوتة" رشديا في منظومات رمزية من شأنها أن ترتسم في الأفق النهائي للرشدية نفسها، وليس في مجرد مرحلة ما قبل الإعلان عن "المشروع الجديد" وحمل راية النقد في التهافت. وينبغي هنا أن نتجاوز التصور الوضعي الفيلولوجي للمسألة لندرك أن العقل الفلسفي ليس فضاء منسجما، بل إنه منسوج من اختلاف الخطابات، بحيث يتحول تاريخه إلى اختلاف في الأزمنة، وتتمظهر مدارك العقول عبر اختلاف الأقنعة، إذ أن الاختلاف ليس مجرد اختفاء في المعنى أو نسيان له، بل إنه بالذات تشتت القول الفلسفي الذي يكون تعبيرا عن أحوال ومعاني ومفارقات في قلب "الذات المفكرة" الباحثة عن هذا المعنى[12].
لنقل إذن إن تتالي أشكال وصيغ الكتابة الرشدية، ما بين جوامع وتلاخيص وشروحات كبرى، لا يعكس بالضرورة مسارا تطوريا غائيا يطوي فيه السابق اللاحق الذي سيأخذ مكانه في هيئة انتقال من أشكال من الغزالية أو الباجية القريبة من فلسفة الفارابي إلى "الأرسطية الصحيحة"، بل إن مثل هذه الظواهر الرشدية تكشف في نظرنا عن تضاد فكري مفتوح، وعن جدلية حية في الرشدية تجعل من الكتابة وإعادة الكتابة، ومن الشروح ومراجعاتها اللاحقة… أكبر من أن تنحصر دلالتها وقيمتها في كونها مجرد مؤشر على تطور مفترض لمتن تأويلي يشتغل على موروث فلسفي وعقائدي جاهز تتعدد مستويات إدراكه، بل إنها دعوة رشدية للإفلات من كل مشروع معرفي أو اعتقادي مقنن على أرضية مذهبية وسياسية جامدة، فكأن الأمر لا يتعلق مطلقا بتنوع في بنية الشكل، ما بين شروحات وجوامع وتلاخيص وكتابات عقائدية وفقهية…، بل بممارسة ذكية خفية المغزى، كثيرا ما عز دركها بين الدارسين، أو على الأصح بصورة جديدة للكتابة يتحرك صاحبها بين حدي الكشف والإخفاء، ومن خلال أوضاع متباينة، يشفع لها أن يرى الناظر بعيون رشدية كيف أن دعم النزوع الفلسفي البرهاني ليس يستقيم إلا بضرورة رهن الحقيقة بتاريخها الاجتماعي، وعدم الانحصار في مطالب المثال الفلسفي القائم على مرجعية كونية عامة تختص أنطولوجيا الفهم لدى الحكيم أو الفيلسوف بتحديد معناها. إذ لا منا ص من تنويع صور الحقيقة بحسب تدرج مقامات المخاطبين حفاظا على توازن محتمل بين العقل البرهاني والعقل التواصلي، ولهذا السبب كان الخطاب الرشدي أقوى وأمتن خطاب في تاريخ الفكر العربي، فهو خطاب للرجل العامي وللفقيه والمتكلم، بل وأحيانا لرجل السلطة أيضا. هذا إضافة إلى بعده السجالي النقدي المستفز للخاصة من الفلاسفة وأهل النظر على اختلاف طبقاتهم. إنه بكلمة وجيزة وجامعة مقاومة أكيدة "لمنطق الفكرة الواحدة"، واستنكار للطغيان اللازم عنها. ومما لا شك فيه أن دور التأويل البرهاني هو ضبط تغير المعاني بقواعد البرهنة المنطقية دفعا لكل تواريخ الوجود التي استعانت بها التأويلات الكلامية وغير الكلامية، بيد أن إحالة إشكالات النص وتعارضاته على النظرية الأرسطية في التعليل لا يعني هنا انخداعا بواحدية المعنى، إذ أن انفتاح التأويل البرهاني عند ابن رشد على صور الحقيقة المتعددة هو السبب في تبنيه منهجا تأويليا في التعاطي لإشكالية المعنى، وربما كان ذلك لتوفر قناعة رشدية راسخة بأن سلطة الدال ليس لها بالضرورة أن تحيل على حقيقة الوجود، بل ربما تحددت وظيفتها في نقض التأويلات اللاعقلانية السائدة عنها من غير أن تسقط في دغمائية الخطاب الواحد.
من الواضح إذن أن المشروع التأويلي الرشدي لم يكن قصده ترجيح نظام من القول على آخر، بل هناك اعتراف بالدور الوظيفي للطرق المقنعة في مخاطبة الجمهور. والحقيقة أن هذا البعد الهام في المتن الرشدي يكشف عن إرادة شجاعة لتغيير التراتبات الدلالية السائدة تريد أن تتوجه إلى مخاطبي ابن رشد تحت ستار ضرورة مراعاة مجانسة الخطاب لتنوع مقامات المخاطبين، لتصل بينهم وبين المنظورات المتعددة للحقيقة عبر صيغ واستراتيجيات معقدة للكتابة؛ تراوحت حركتها بين الخطاب التعليمي المتماهي مع الصورة الجماعية للذات كما يستبين ذلك من نصي فصل المقال والكشف عن مناهج الأدلة، وبين الخطاب السجالي المباشر كما هو الحال في تهافت التهافت، وأخيرا عبر الاستعانة بلغة التحاور بين النصوص الأرسطية والإسكندرانية والإسلامية على غرار ما تكشف عنه الشروحات الكبرى…
II – التأويل وسلطة الدال:
إن فرض وجود النظام على الصعيد الأنطولوجي يجعل منه "مؤسسة" كلية توجه معنى العالم نحو دلالته المرجعية الأولى، إذ من شأن كل أشكال الغائية، طبيعية كانت أم أخلاقية وسياسية، حين تشارف مرتبة الحكمة بإطلاق أن تتحول إلى نظر في السبب الغائي الأقصى لجميع الموجودات المحكومة بسلطة النظام الكوني. ومن نافلة القول أن يؤدي الاحتكام الرشدي إلى هذا النظام إلى التدليل على حتمية وجود ناظم كلي يشهد على تطابق الكينونة مع معناها المؤسس، كما أن من شأن هذه الصورة المرجعية المتحصلة عنه أن تمثل مستودعا لدلالات تنهض عليها تراتبية الوجود الاجتماعي الموصولة بسلسلة الوجود الكبرى التي تربط التجربة الإنسانية بعوالم الميتافيزيقا.
بيد أن أهم ما في هذا النظام الذي يكشف عنه خطاب التأويل الرشدي أنه يستوعب أيضا البعد الحيوي في الإنسان، فتصير البنية العضوية في وحدتها وتكاملها الوظيفي أيضا دالة عليه وكاشفة عن خلفيته النظرية، فالجسد في خطاب ابن رشد الشارح نظام من الأدلة ينفتح على الكوني، ويعكس في تنظيمه العضوي معطيات الحتمية الكونية. إلا أن مفارقة ابن رشد هاهنا تكمن في مدى مشروعية موضعة الإنسان كذات وكتفاعل اجتماعي ضمن مؤسسة النظام هاته، إذ من الأكيد أن هذه الإحالة التأويلية التي يشبه بها ابن رشد النظام الكوني بالتنظيم البيولوجي والمدني تدعو حقا إلى التساؤل عن حدود هذه الرغبة في تجدير كينونة الميتافيزيقا في قلب العالم، وعن قيمة هذا الجهد التأويلي الرشدي الذي يروم إسقاط كليات النظام الكوني على التنظيم الإنساني والاجتماعي وتطويق القرار البشري بحتمية داخلية يعكسها تصوره لكيفية الانفعال العقلي بالمعقولات، وبحتمية خارجية أخرى لا تقل سطوة عنها تسندها من خارج على غرار ما يكشف عنه النموذج السبينوزي، فهل من شرط الفردية إذن الذوبان في حاجات النوع…؟ ألا يؤدي تأسيس صورة النظام الكوني على دلالات المعطى الإنساني والاجتماعي، إما إلى انتفاء المفارقة والتعالي، أو إلى اختفاء الذات لصالح الكلي؟
إن هذا الوصل بين الشرط الأنطولوجي والشرط الإنساني الذي يخترق خطاب التأويل الرشدي من شأنه أن يحول النظام الكوني إلى نسق دال يؤسس معنى الأنظمة الفرعية الأخرى، الأمر الذي يجعل من القراءة الرشدية لأرسطو سبرا لبنيات الوجود العميقة القابعة وراء دلالاته التجريبية. ولا غرو أن الانشغال الرشدي بمثل هذه المقايسات إنما أتى في سياق معرفي يتمثل في إضاءة المتن الأرسطي والرغبة في كسر انغلاقه على ذاته وتمتين الصلة بينه وبين النشاط التأويلي لمتلقيه، ذلك أن اللجوء إلى آلية المقايسة بين الكيانات الوجودية المختلفة بما له من قدرة على دعم الوظائف الاستدلالية للخطاب الفلسفي، وعلى فتح حقوله الدلالية على عالم الخبرة التجريبية للإنسان، سوف يجد مبرر الارتكاز عليه –من حيث هو أداة للتمثل الذهني لبنية مفاهيمية معقدة ومتشابكة، كتلك التي يحملها متن ما بعد الطبيعة لأرسطو- من طرف القول الرشدي الشارح الذي يزاوج بين الدلالة المرجعية للنص المشروح وبين التأصيل العقلاني لمفاهيمه، بهدف ترسيخ قدمها في الواقع الثقافي الإسلامي. بيد أن خضوع ابن رشد في هذه الآليات التشبيهية للنظام المعرفي القديم كان خضوعا مطلقا، إذ يتأسس خطاب التأويل على مدخل نظري يفترض المماثلة بين محاور نسقية متعددة، تكون بنيات صغرى داخل نظام شمولي عام يجمع بين الأشباه والنظائر، ويوحد عناصرها المتصلة فيما بينها، يشمل السماء والأرض والأجرام السماوية وغيرها من النماذج، ضمن نسق شمولي للصلات والعلاقات، يصل بين المنظومات المختلفة[13].
إذا كان للمقايسة الرشدية بين النظام البيولوجي ونظام العالم، أن تسمح بإلغاء تعذر معرفة نظام الأشياء في طبيعتها الخاصة والمستقلة، عبر التدرج في استكشاف الطبائع البسيطة، والاقتراب من خلالها نحو تحليل خصائص الأنظمة المعقدة، حسب سلم قياسي دقيق يظهر الاختلافات كمجرد درجات في التعقيد، إذا كان لها ذلك، فإن توظيفها في مجال الفكر الإلهي قد يثير صعوبات عديدة، خاصة وأننا أمام مفكر يسعى إلى الحرص على الفصل الأنطولوجي والمعرفي بين النصاب الطبيعي والنصاب المفارق. وبين من هذا أن مشكلة هذه المقايسة الكبرى هي كونها تتم بغير رجوع إلى وحدة معيارية خارجة، قد تثبت معها المفارقة المطلقة للجوهر الأول. ويزداد هذا المعطى وضوحا إذا ما نحن راعينا أن الإله الرشدي، بما هو سبب للحركة الأولى ونقطة لبدايتها الكونية، لا بد له أن يلقي بظله على هذا العالم، وأن يتمظهر فيه عن طريق تشخيص ذاتيته المفارقة في النظام السماوي، ما دام ليس وراء عالمنا عالم آخر كما يؤكد ذلك ابن رشد. فمن المفترض على هذا النحو من النظر أن يستقر الوجود المفارق في حدود الصورة السماوية المنظمة، والمرتبة حسب نموذج صناعي وتقني. إذ في عرف فيلسوفنا أن كل ما في العالم، فهو الحكمة، وإن قصرت عن كثير منها عقولنا[14]، ولم تنتبه إلى الضرورة القائمة بين الصنعة المحكمة ووجود صانع حكيم لها، ما دام العالم، كمصنوع واحد يقتضي ضرورة وجود حكيم واحد[15].
ومن الثابت أن متن ما بعد الطبيعة لأرسطو يزاوج في إشكالياته الأنطولوجية بين المفارقة والمحايثة، أي بين تيارين من التفكير يجدان عنصر تعارضهما، وكذا وحدتهما في صلب الأرسطية نفسها[16]. ولا شك أن ابن رشد كان يواجه في المتن المشروح معان متضاربة دلاليا تفتح نشاطه التأويلي على ممكنات متعددة.فقد ساد الاعتقاد لدى الوسيطيين بميل ابن رشد إلى ترجيح اختيار المحايثة، حيث رأى فيه بعض الدارسين ميلا إلى ترجيح مقولة "ألوهية الكون"، وانتصارا للحلولية[17]. غير أن حكما مثل هذا يحتاج إلى حجة قاطعة، أو إلى مزيد بيان من نصوص ابن رشد نفسها، والتي يتأكد من خلالها وعيه العميق بوجود صيغ تساؤلية متباينة الأهداف في خطاب المعلم الأول. فهو يحدد مقاصد الثيولوجيا الأرسطية في متن التفسير الكبير لما بعد الطبيعة بما يلي: "قصده فيه أن يفحص هل الأشياء الموجودة بعضها من أجل بعض، وكلها من أجل الأول، كالحال في أعضاء الإنسان مع المبدإ الأول الذي به صار إنسانا ما، أو ليس بينهما ارتباط وإنما وجود بعضها مع بعض بالاتفاق، وهي كلها من أجل شيء خارج عنها"[18].
لا وسط هنا بين الثنائية والوحدة، ولا بين المفارقة والمحايثة. بيد أن تضارب هذين الموقفين الأنطولوجيين، بما يتضمنه كل منهما من معقولية خاصة به، قد يسمح بتشغيل آليات التمثيل والتخييل في نسيج النص الشارح، كمؤشرات تصورية تدل على اختيار نظري ما. والحال أن حضور "النموذج البيولوجي" كأداة للمماثلة في الكتابة الرشدية، يبقى مرتبطا بقصد تأويلي محتمل، يتمخض فيه التحليل الكوسمولوجي لنسق الحركات الكونية عن بنية كلية منظمة ومتماسكة، تكشف عن منطق داخلي يماثل في حدوده أوضاع الكائن الحي. فقد قام البرهان على أن في الحيوان قوة واحدة بها صار واحدا، وبها صارت جميع القوى تؤم فعلا واحدا هو سلامة الحيوان، وهذا يشبه، في جملته، ارتباط القوى الصادرة عن المبدإ الأول في العالم، ولولا ذلك لافترقت أجزاؤه ولم يبق طرفة عين[19]، كما أنه بهذه القوى الواحدة صار العالم بأسره واحدا، وبها ارتبطت جميع أجزائه حتى صار الكل يؤم كيانا وفعلا واحدا، وكذلك الحال في بدن الحيوان الواحد المختلف القوى والأعضاء والأفعال. فالعالم بهذا يشكل نسقا واحدا، وهو موجود بقوة واحدة متحررة عن المبدأ الأول، لأن السماء هي بمنزلة حيوان واحد، والحركة التي لجميعها هي كالحركة الكلية في المكان للحيوان. كما أن الحركات التي لأجزاء السماء، هي كالحركات الجزئية لأعضاء الإنسان[20].
تجد هذه المقارنة مسوغاتها فيما يذهب إليه ابن رشد من أن الأجرام السماوية هي كائنات متنفسة، عاقلة ومفكرة،تتبع في مداراتها مسارا منتظما. فكل كرة من الأكر السماوية، هي، بهذا المعنى، حية من قبل أنها ذوات أجسام محدودة الشكل والمقدار، وهي كالكائن الحي متحركة بذاتها من جهات محدودة، لا من أي جهة اتفقت[21]. فكل "ما هذا صفته، فهو حي ضرورة، أعني أنه إذا رأينا جسما محدود الكيفية والكمية يتحرك من قبل ذاته من جهة محدودة، لا من قبل شيء خارج عنه، ولا من أي جهة اتفقت، وأنه يتحرك معا إلى جهتين متقابلتين، قطعنا أنه حيوان"[22].
يقترب بنا هذا النص من أشكال وصور تقابل المعاني التي يحملها الخطاب الميتافيزيقي الأرسطي في حلله الرشدية الشارحة، حيث يقوم النظام العضوي الحي، كنموذج تمثيلي، بدعم البناء التأويلي الشامل لدى فيلسوف قرطبة. وهكذا تكون نسبة الحركات السماوية، بتعدد أفلاكها وأجرامها، إلى مبدئها الأول، هي من جنس نسبة النسق العضوي إلى مبدأ تنظيمه الحيوي الغائي. إن هذه الاستراتيجية الشارحة، باعتماد على منطق تماثلي يقابل بين أنظمة مفاهيمية متعددة، تحافظ على دورها في إنتاج معاني النص المشروح، وإلحاقها بمصادرها المتماثلة ذاتيا. فمن شأن هذا الاقتباس الدقيق للنظام الإشاري الذي تدل عليه البنيات الحية، أن يضيء جوانب دالة على عضوية العلاقة، بين السياقات المختلفة للحركات السماوية، وبين كليتها النسقية التي يؤسسها مبدؤها الأول. وهكذا فتوهم الجرم السماوي حيوانا واحدا بعينه، اقتضى له طبعه من جهة الضرورة أو من جهة الأفضل، أن يتحرك بجميع أجزائه حركة واحدة من المشرق إلى المغرب، وسائر الأفلاك اقتضت لها طبيعتها أن تتحرك بخلاف هذه الحركة، وذلك لأن الجهة التي اقتضتها طبيعة جرم الكل هي أفضل الجهات، لكون هذا الجرم هو أفضل الأجرام، والأفضل في المتحركات واجب أن يكون له الجهة الأفصل[23].
بهذا ينهار الاختلاف والتمايز أمام الحضور الحي للوحدة التي تترابط في إطارها أجزاء الكون، مشكلة دينامية طبيعية واحدة. إن صورة الكون الرشدية، بهذا المعنى، ترى في مادة الطبيعة بذرة الحياة المدبرة للحركة الكونية، دون أن تنزلق إلى مواقع السيكولوجيا الفيضية السينوية. ومن هنا لا مجال للشك في أنه، إن كان واجبا أن يكون في الحيوان الواحد قوة روحية سارية في جميع أجزائه، بها صارت الكثرة الموجودة فيه من القوى والأجسام واحدة، حتى قيل في الأجسام الموجودة فيه أنها جسم واحد، وقيل في القوى الموجودة فيه أنها قوة واحدة، وكانت نسبة أجزاء الموجودات في العالم كله نسبة أجزاء الحيوان الواحد، فباضطرار أن يكون حالها في أجزائه الحيوانية، وفي قواها النفسية والعقلية، هذه الحال. وهذا يؤكد أن فيها قوة واحدة "روحانية"، بها ارتبطت جميع القوى الروحانية والجسمانية، وهي سارية في الكل سريانا واحدا، ولولا ذلك لما كان هاهنا نظام ولا ترتيب[24].
تتبنى هذه الصورة التشبيهية التي يناظر فيها ابن رشد بين تكوين النظام العضوي وبين الجهاز السماوي، لغة جدلية بعيدة عن صيغة بناء العقل لحقائقه البرهانية. لكن مرماها الأساسي لا يتعدى تقريب المعنى وتجسيده في صورة مشخصة. وهي، وإن كانت تعيد إنتاج بعض ملامح التصور الكوني القديم، من حيث هو بنية منظمة ومعقولة، فإنها تحتفظ بخصوصيتها التعبيرية والدلالية كاملة في مواجهة أفلاطونية ابن سينا. ولنقل إن هذه القوى الطبيعية السارية في الكون، ليست، في مجازية معناها، شيئا أكثر من تلك الآليات الحركية للطبيعة، بما تأخذه من أشكال وصور في هيئتها التنظيمية. ولا علاقة لهذا المعنى المتولد عن التركيبة اللغوية المجازية بمقولة النفس الكلية لدى ابن سينا، والتي اتجهت نحو تأكيد محايثة النفس للوجود، دون أن تفك ارتباطها المنظومي بمبدأ مفارقة العقل الإلهي. فمن الجلي أن الكوسمولوجيا السينوية هي مجرد نسخة معدلة تتعايش مع أصلها الأفلاطوني، بعد أن بلوره أفلوطين حين استعار لمنظومته الثيولوجية الفيضية نفس المفاهيم التي حددها الأوائل وطعمتها الإلهيات الرواقية بتبنيها لنظرة كوسمولوجية إحيائية، ترى في الكون كائنا حيا منظما تستوطنه حركة النفس، الممتدة، والسارية في أجزائه ومفاصله العضوية، بشكل يؤمن تضافرا في الأداء، واختلافا في التخصص الوظيفي للحركات الكونية[25].
والحق أن أفلوطين، ومن بعده ابن سينا يعد وريثا شرعيا لهذه النزعة الحيوية ذات الاستلهام الرواقي، والتي تمتد بجذورها إلى النزعة الإحيائية البدائية، بما تنسبه من نفس حية مدبرة لكل الموجودات التي تحيط بنا. إنها ذات النزعة التي كانت تجد ترجمتها لدى الإغريق في تلك المقولة الشهيرة المنسوبة إلى طاليس، الذاهبة إلى أن "الكل مليء بالآلهة"، والتي كتب لها أن تهيمن من جديد على لحظة البعث الأفلاطوني، وأن يتردد صداها في كل الاتجاهات الفلسفية الانتقائية التي سادت العصر الروماني، تلك المقولة التي تقبلها أفلوطين دونما تحفظ حينما اعتبر الكون كائنا حيا منظما، تأتلف عناصره وأجزاؤه ضمن وحدة الكل الرابطة بينها بعلاقة عشق وتعاطف مشتركين[26]. ويظهر تمسك ابن سينا بهذه المرجعية النظرية اللاأرسطية حين ذهب إلى أن كل الجواهر الحيوانية والنباتية إنما تفعل أفاعيلها تشبها بالخير المطلق، وبما أثبته من سريان العشق الغريزي في البسائط اللاحية، مماثلا بينه وبين العشق الغريزي الذي يشير إلى الاندفاعات النزولية للنفس الإنسانية[27].
بهذا تنبثق خصوصية الطرح الرشدي من تصديه للتفسير النفسي الإحيائي، الوثيق الصلة بفيضية ابن سينا. على أن حقيقة هذه المماثلة البيولوجية، بمفهومها الفلسفي الدقيق، ليس لها أن تفي بشرائط البرهان، لجمعها بين الخيالي والواقعي في قول واحد، وهي لا تعدو أن تكون واردة في الشرح الرشدي على وجه تقديم "المقدمات المشهورة التي تستعمل بوجه ما في البرهان، ولا سيما في الأمور التي لا يمكن فيها غير ذلك، وهي الأشياء التي ليس بأيدينا فيها مبادئ إلا من هذا الجنس، وإن لم يفهم مذهب أرسطو حسب هذا القول، تلحق شكوك ليس يخلو منها، كما عرض لأبي نصر وغيره"[28].
يستبعد هذا البعد النقدي في فكر ابن رشد جملة المقدمات المشهورة والمستندة إلى المماهاة بين الحياة العضوية وبين نظام الكون من دائرة التأسيس البرهاني الصريح، فالبحث عن الحقيقة بلغة المجاز يتباعد في ذاته مع حاجتنا إلى تحصيل يقين معرفي بالعالم، يقين يستند إلى أوليات عقلية بسيطة تتطابق مع المعقولات الأول. لذا يتحفظ فيلسوف قرطبة من الخلط الذي يمكن أن يرافق نسيج الحقائق إذا ما اتخذت دعامتها الإبستمولوجية من بداهة المماثلة البيولوجية؛ "وبالجملة، فينبغي، كما يقول أرسطو، أن نقول في كل شيء بحسب الطاقة، وبحسب ما بأيدينا في ذلك الشيء من المقدمات. إذ كان تجوهر الإنسان، على ما تبين في علم النفس، إنما هو بأن تعلم الأشياء بأقصى ما في طباعها أن يعلمها الإنسان. والأشياء التي منها تكتسب المقدمات التي ينظر بها في كثير من أمور هذا الجرم السماوي… هي مأخوذة من أقرب الأشياء شبها به وهي الأجرام المتنفسة وبخاصة الإنسان. إذ كان قد تبين من أمر هذا الجرم أنه متنفس، وإن كان يظهر أن ذلك يقال فيها بتشكيك وتقديم وتأخير، ولذلك ضعف هذا النوع من التصور"[29].
إن هذا النقد القائم على تحدي إغراءات المجاز، يربط بين توظيف النموذج البيولوجي وبين مقتضيات الفعالية التفسيرية، معولا على ذلك في محور صور التمايز التي تبديها الكثرة الظاهرة في حركات الأجرام السماوية. فرغم اختلاف أجزاء الفلك، فإن حركاته الكثيرة تبقى، في نهاية التحليل، حركات جزئية للمتحرك الأعظم، أي للمتحرك الحركة العظمى. ولذلك فالأولى أن نتوهم أن الفلك كله بأسره حيوان واحد كروي الشكل، ومحدبه محدب الفلك المكوكب، أي الفلك المحيط، ومقعره المقعر المماس لكرة النار، وحركته واحدة كلية، والحركات الموجودة فيه لكوكب كوكب حركات جزئية، وأن الحركة العظمى تشبه حركة النقلة في المكان للحيوان[30].
تقترب هذه المماثلة بين العضوي والكوني من معنى المطابقة بينهما وذلك بتبيانها أن الكيفية التي توجد بها الجهات السماوية مختلفة بالطبع على غرار تنوع اتجاهات حركة الحيوان وتوزعها، بين فوق وأسفل، ويمين ويسار، وأمام وخلف. وذلك أن أرسطو يوجب أن يكون للجرم السماوي هذه الجهات الست لكونه متنفسا، ويرى أن جهة اليمين هي المشرق للموضع المسكون، وجهة اليسار المغرب للموضع المسكون بأسره، وجهة الفوق القطب الجنوبي، وجهة الأسفل القطب الشمالي، ويرى أن ذلك هو السبب في أن حركته من المشرق إلى المغرب، ولم تكن بخلاف ذلك[31].
وهكذا فإن بناء معنى الكون يقابل هذه السياقات الدلالية التي يؤشر عليها التكوين المورفولوجي للكائن العضوي، بنفس الكيفية التي تتوازى فيها وحدة الطبيعة بالوحدة الحية لهذا الكائن. بيد أن اكتشاف شفافية الدلالة التي ترتبط بهذه الحركات والاتجاهات المختلفة للجرم السماوي حسب نظام تقابلي تستوي فيه خصائص الكيان العضوي بخصائص الكون لا يعني انقلاب بعضها إلى بعض على نحو ما يظهر في الفلسفات الفيضية، وليس هناك ما يدعو إلى إلغاء فواصلهما وعلاماتهما، الفارقة، إذ ينبغي أن نميز حتما بين البنيات الثابتة التي توجه القوى الحركية في الطبيعة، وبين ما يسنده الذهن إليها من معان ودلالات تطال تفسير حركاتها الموضعية. ويتقرر نظم هذا المعنى لدى ابن رشد من مقدمتين ضروريتين: أولاهما أن الطبيعة إنما تفعل في جميع الأشياء الطبيعية الأفضل والأكرم في أحد الإمكانين، أو الإمكانات المختلفة، والمقدمة الثانية ذات بعد طوبولوجي إلى أفضلية اليمين على اليسار، والأمام من الخلف، والفوق من الأسفل[32]. وهكذا، فإذا تأكد ذلك، "وكانت حركة السماء، هي أولى الأشياء الطبيعية، وأحراها أن تتوخى فيها الطبيعة أبدا أفضل الإمكانات، وكان ابتداء الحركة من جهة اليمين أفضل من الحركة من اليسار في كل ما له يمين ويسار، وكانت السماء قد تبين أن لها يمينا ويسارا، وأماما وخلفا، وبالواجب ما كان ابتداء حركة السماء من اليمين لا من جهة اليسار، وإلى جهة الأمام لا إلى جهة الخلف. وليس لاختصاص الحركة اليومية بجهة المشرق علة غير هذه العلة، أعني العلة التي اختصت من أجلها جهة اليمين في الحيوان باليمين من جهة اليسار باليسار، وذلك لطلب الأفضل. والدليل على أن الطبيعة تتحرك في حركة السماء الأفضل والأكرم، ما صيرت عليه حركاتها من الدوام غير المنقطع، وذلك أنها تخيرت أفضل الوجودين من الحركة، أعني المنقطع والدائم، كذلك اختارت لها أفضل الناحيتين التي منها تكون الحركة"[33].
إذا كان لعالمنا أن يكون أفضل العوالم، فهذا يتوقف على الكيفية التي تتحرى بها طبائع الموجود جهتها الأفضل، بحيث لا يصير تعدد الحركات السماوية إلا لتحركها في اتجاه موقعها وجهتها الفضلى. فللكون مقصد وغاية يسير إليها، تلتقي فيها أداءات وظيفية متعددة، تتم مساوقة للإيقاعات الحركية للأجرام السماوية. وهكذا فكما تنحل البنيات العضوية من حيث مقوماتها الأولية، إلى أجهزة عضوية لها وظائفها التي تصب كلها في وحدة العضوية الحية، كذلك نصادف في هذه الأجرام السماوية مواضع هي أقطاب بالطبع، لا يصح أن تكون منها في غير ذلك الموضع، وذلك على نمط شبيه بما نراه هاهنا لدى الحيوانات من أعضاء مخصوصة، في مواضع مخصوصة من أجسامها، لأفعال مخصوصة ليس يصح أن تكون في موضع آخر منها. وبهذا فأقطاب الكون هي من الحيوان الكري الشكل بمنزلة الأعضاء، إذ أنها أعضاء الحركات، "ولا فرق بين الحيوان الكري الشكل في ذلك والغير كري، إلا أن هذه الأعضاء تختلف في الحيوان الغير كري بالشكل والقوة، وهي في الحيوان الكري تختلف بالقوة فقط"[34].
III – بلاغة الوجود وإشكالية المعنى:
إن هذا النمط الاستدلالي الذي يتابع احتمالات معاني ما بعد الطبيعة، عن طريق وصل فضائها الدلالي بنموذج التمثيل البيولوجي، يبلور، عند استنفاذ قدراته التوصيلية بنية احتمالية جديدة لإنتاج المعنى وتجسيده ضمن حدس حسي قائم على تشييد أنساق تخيلية من العلاقات، بين نظام الكون وبين النظام المدني. فاستنادا إلى واقع الممارسة الإنسانية يتبنى متن ما بعد الطبيعة، في تأويله الرشدي، خطابا تفسيريا جديدا يهدف إلى تأويل رمزية المنظومة الميتافيزيقية والإلهية بمنظور يماثلها بصورة ترابط القوى والمراتب التي تشير إليها القيم التأسيسية للسياسة المدنية. والهدف من ذلك هو استكشاف عقلانية التنظيم المشترك الذي يخط هذه الموازاة، بين النظام السياسي والاجتماعي، وبين صورة الكون الكلية.
وشروحات ابن رشد على ما بعد الطبيعة كلها دالة على هذا المعنى، إذ نلحظ فيها مصادقته على هذه المماثلة السوسيولوجية بعد وقوفه على سؤال أرسطو عما إذا كان الخير مبدأ مفارقا للكون، أم أنه حال فيه، أي في جوهر نظامه ينعكس تنظيم الأسرة والمدنية والعسكر، حيث يبقى الرئيس الأول هو مبدأ الخير الفاضل في كل هيكل تنظيمي من هذه الهياكل، ما دام خيرها يتفق عليه أولا. ولا شك أن التجربة التأويلية الرشدية تقف في عرضها لهذا المضمون، على محاور مجازية متعددة، سيكون عليها إعادة إنتاج بنياتها الاحتمالية. إذ يؤكد ابن رشد اندراج الموجودات المختلفة في عضوية النظام الكوني، حيث تصادف الموجودات خيرها العام الذي يوحد مبادئها الطبيعية المختلفة على أساس ما يظهر من تشابك ارتباطاتها بمبدإ واحد. وهذا المعنى في مرجعيته الأرسطية مفتوح إلى حد كبير على التعدد الدلالي وتنوع احتمالات التأويل، ما دام المعلم الأول لم يقطع برأي واضح فيما إذا كان المبدأ الأول داخليا أم خارجيا، محايثا أم مفارقا، وكل ما يتحصل لدينا من جوانب أرسطو هو عرض لنماذج، وانتقال بين مقارنات متعددة، حيث يشير نموذج "التنظيم العسكري" في ما بعد الطبيعة إلى اتصال الأشياء وترابطها السببي، وإلى تعلق بعضها ببعض على هيئة متسلسلة، تتصدر فيها الجواهر العالية الصور الدنيا للموجودات. هذا بينما تتمخض أوجه أخرى من رؤيته الكوسمولوجية، عن إقامة علاقات تناظرية بين بنية التنظيم الكوني، وبين النظام المنزلي، كوحدة سلطوية مستقلة وتابعة لسيدها، الذي يخضع حياته وحياة الكل لنظام وتخطيط صمم فيه مرامي كل هدف بعناية، دون أن يمتلك عبيده وحيواناته وعيا باندراجهم المسبق في أية خطة محددة لهم[35].
سوف تسهم هذه الرؤية الكونية العامة في توجيه إنتاجية الشرح الرشدي نحو احتمالات تأويلية أخرى تصب ممكناتها كلها في عملية إعادة تنظيم وترتيب مستجدين لسلم قيم الأنطولوجيا الأرسطية. بيد أنه كان للخطاب الشارح هنا توتراته المعرفية الراجعة، في بعض منها، إلى اختلاف الرصيد الاجتماعي والثقافي والرمزي الذي تحيل عليه كل من التجربة الفلسفية والسياسية اليونانية والإسلامية. فقد تمثل سؤال فلاسفة اليونان الأساسي في الفحص عن نوعية السلوك الفردي والسياسي و"الديني" الذي ينبغي للمواطن أن يتبعه لكي يتحقق النظام وتتكامل الحياة البشرية في إطار عقلاني هو صدى للتوافق بين الكوسموس والبوليس. إذ أنه بينما كانت المدينة اليونانية وحدة مثالية للحياة الاجتماعية، وإطارا مشتركا للمواطنية السياسية الغنية بمعانيها التشريعية والقانونية، ظلت المدينة الإسلامية ببعدها الاجتماعي والعقائدي التوحيدي، نموذجا سوسيولوجيا مستقلا عن سابقه اليوناني، حيث أنها أصبحت تمثل إطارا لجماعة سياسية أشمل، هي الأمة، كمفهوم لاهوتي المنطلق، يجسد نزوع الإرادة الإلهية نحو التحقق.
أصف إلى ذلك ما أحدثه الدين التوحيدي من ثورة في مجال الوعي الديني حيث حرر فكرة الألوهية من الرئاسة والملك والسلطة الملكية، وأرجع الملك إلى حجمه الطبيعي كإنسان، والارتفاع بفكرة القداسة والألوهية نحو مرتبة عليا، لم تلبث حتى وضعتها فوق الملوك والسلطات ومرشدة لهم. تلبث حتى وضعتها فوق الملوك والسلطات ومرشدة لهم. فحقيقة الأمر أن صورة الإله المفارق لم تكن لها أن تولد إلا في أحضان الدين التوحيدي، بينما استمر الوعي التقليدي كونائيا ولا يرى في فكرة الألوهية إلا تجسيدا لقوى الطبيعة أو تمثيلا لها، والحاكم كجزء من هذه القوى الطبيعية والكونية، ورمز الاتساق وانسجام العالم[36].
ورغم هذا فقد استمر التقليد الفلسفي في الإسلام في تجسيد وضع النظام الكوسمولوجي الأرسطي في صورة مدينة كونية، حيث دشن أبو نصر الفارابي هذا الميل إلى تنظيم مراتب الكون على غرار الشكل المدني. فقد أوضح في تمثله لصورة العالم، على أساس الموازاة بين الإلهيات والسياسة، علاقة الموجودة الأول بالكائنات الفيضية الدنيا التي تخضع كلها لمبدأ واحد يدبرها على شاكلة تدبير الرئيس للمدينة، وبذلك يكون المعلم الثاني قد رسخ نظاما ترتيبيا للقيم الأنطولوجية، يتصل فضاؤه العام بمفاهيم القدامى عن كلية النظام الكوني التي يكون فيها حضور الأشياء ووجودها ليس مجرد أمر عارض، بل على العكس من ذلك إن كل شيء يمتلك داخل هذا الكون مكانا ملائما لطبيعته، ولكل شيء مكان موضعه الخاص[37].
وغير بعيد عن محاولة الفارابي هذه يحضرنا هنا نموذج فريد لحميد الدين الكرماني[38]، الذي سعى في مدينته الكونية المتخيلة إلى مد جسور الصلة بين الإلهي والسياسي، ضمن رؤيته الهرمسية ذات المرتكزات المرجعية الباطنية؛ وهي رؤية تقول باشتراك ترتيب الموجودات والعقول المبدعة، وكذا مراتب التنزيل التي يقوم عليها عالم الدين، في نظام إشاري متجانس يماثل فيه بين عالم الصنعة الإلهية والطبيعية والتعليمية، مقسما بذلك نموذجه الهندسي التناسلي إلى سبع دوائر تسور مدينته، التي تبقى، هي الأخرى مفتوحة على البناء الباطني للموجودات من خلال سبعة مشارع.
إلا أن الشرح الرشدي، بمباشرته تصوير مضامين الأنطولوجيا الأرسطية بصور ورموز مستفادة من التجربة الإنسانية، يحتفظ بدلالة غنية ذات منحى خاص. فبدلالة التجربة المدنية والسياسية يقرأ ابن رشد علاقة المبدأ الأول بسائر المتحركات، وكأن لغة التمثلات المجازية هي اللغة التعبيرية الحاسمة في وصف تعالي الجوهر المطلق، والملجأ الوحيد المتاح للعقل الفلسفي، بعد أن بانت صعوبات تشغيل القياس المنطقي في الإحاطة بالبعد الماهوي للإله. إن هذا هو بالذات جوهر الدور الذي ستقوم به المماثلة الجديدة التي يعرض لها ابن رشد، بين نظام الكون، وبين التنظيم المدني.
يحدد ابن رشد مقاصد هذه الآلية التشبيهية ودورها في وصف دينامية العلاقة بين المحرك الأول والعالم بقوله: "ولما كان بينا بنفسه أن كل موجود له خير ما من أجله وجد، فهو يفحص هل الخير الذي في الموجودات هو شيء خارج متميز عنها، من غير أن يكون لها خير في موجود في الترتيب، أي من غير أن يكون بعضها مرتبا من أجل بعض، فالخير الموجود فيها إنما هو في الترتيب، أم الخير الموجود إنما هو في الترتيب فقط من غير أن يكون لها خير متميز عن الكل، أم هو في الأمرين جميعا أعني شيئا هو من أجله؟ مثال ذلك أن يسأل مسائل هل الخير الموجود في صنف صنف من أصناف الناس في مرتبة واحدة، أعني الغاية التي يقصدون بأفعالهم هو شيء متميز منهم، خارج عنهم، كأنك قلت الرئيس الأول، أم الخير الذي فيهم إنما هو من أجل تقدمة بعضهم لبعض، ومن أجل الرئيس الأول؟"[39].
تكشف القراءة الأولية لهذا النص عن تميز المنظور المنهجي الرشدي الذي يتابع به فيلسوف قرطبة رصد معاني متن ما بعد الطبيعة، لا من حيث هو تجميع لموضوعات مكرورة، بل كإحياء لإشكاليات نظرية لا زالت تتطلب من الخطاب الشارح بلورة حلول جديدة لها. وهذا يعني أن ابن رشد كان يتوفر هنا على مقاربة إشكالية دقيقة، أمكنها أن تلم إلماما جيدا بالقضايا الأنطولوجية الأرسطية، وكذا بحدود ميلها إلى المفارقة والتعالي، أو للمحايثة، وبمحدودية وصلها بين الكون وبين مبدئه الأول. فهل يقع هذا الخير في صلب الأشياء وينتشر في طبعها الكلي؟ أم أن الأشياء تنطوي هي الأخرى على تفاوتات أساسية تقتضي انشدادها نحو المفارق؟
إن اكتمال التنظيم المدني، وتناغم هندسته مع هندسة الكون العامة، هو الأفق الوحيد الذي يطل منه الإنسان على الإلهي، فربما كان الجانب المتعالي في الإنسان هو وحده الذي يؤهله لأن يعيش حياته العقلية والمدنية في نوع من التكامل بين متطلبات الفعل الخلقي وبين حاجات النظام المدني، ذلك أن المدينة تنظيم سياسي، وهي في الوقت نفسه معيارية خلقية غايتها حفظ الخير عبر تدبير حكيم يجمع بين التفاعل المجتمعي والتواصل عبر الخطاب[40].
هكذا يمكن للخير أن يكون موضوعا للعقل العملي، وأن يحافظ في نفس الوقت على مركز ثقله في مجال العقل النظري الخالص. وله كذلك أن يقيم أسس الوجود الموضوعي وينافس قوانينه المنطقية محولا إياها إلى معطيات قيمية. ولهذا لا بد أن يعم الخير الأسمى أجزاء الكون عبر خطة كونية محكمة، كما تعم إرادة الرئيس وتدبيره مراتب المدينة وحدودها. ولذلك لا تفهم خيرية المبدأ الأول إلا في بعدها الوظيفي الهادف إلى ضمان خير العالم وسيادة العدل المدني، ولهذا السبب أيضا يذهب ابن رشد إلى أن العدل هو مطلوب الحياة المدنية: "فمن أجل ذلك لا ندع أن يرأس إنسان بالكلية من أجل أن يفعل ذلك لذاته ويصير متغلبا، ويقتسم الخير لذاته أكثر… وإنما الرئيس حافظ العدل"[41].
إن هذه القاعدة التي تحفظ النظام المدني بالعدل هي نفسها القاعدة التي يترسخ على أساسها نظام الكون في علاقته بالإله الحافظ له. وهكذا يكون الله حافظا لنظام العالم وممسكا له بما يسري في الوجود من قوة واحدة سريانا واحدا على نظام وترتيب، ويكون هذا العالم، بالتالي، أشبه شيء "بالمدينة الواحدة. وذلك أنه كما أن المدينة تتقوم برئيس واحد ورئاسات كثيرة تحت الرئيس الأول، كذلك الأمر عندهم (أي الفلاسفة) في العالم. وذلك أنه كما أن سائر الرئاسات التي في المدينة إنما ارتبطت بالرئيس الأول من جهة أن الرئيس الأول هو الموقف لواحدة واحدة من تلك الرئاسات على الغايات التي من أجلها كانت تلك الرئاسات وعلى ترتيب الأفعال الموجبة لتلك الغايات، كذلك الأمر في الرئاسة الأولى التي في العالم مع سائر الرئاسات"[42].
بهذا تنتفي الإشكالات التي تطرحها الكثرة الظاهرة في الحركات السماوية من حيث علاقتها بمبادئها المفارقة، وخاصة بما يتضمنه هذا الموقف من فرض اتصال أنطولوجي وسببي، بين أجزاء الكون، وبين الوحدة الجوهرية الأولى، ولهذا يتبين أن الذي يعطي الغاية في الموجودات هو المبدأ الفاعل في سائر مبادئها[43]. غير هذا التوحيد الرشدي بين الفعل والغاية، وبين التحركات الطبيعية ومبدئها الصوري، بما يقره من حتمية الوصل بين السبب والنتيجة في المنظومات الطبيعية، لا بد وأن ينتهي حتما إلى إنكار المفارقة، والقول بتلاشي زخم هذه الغائية الإلهية في الماهية الجامعة بين طبائع الموجودات، على غرار ما يذهب إليه الإسكندر الأفروديسي في بعض شروحاته على أرسطو[44]. فإن هذا التدبير الإلهي للسياسة الكونية يسلمنا إلى مماهاة أكيدة، بين النظام الطبيعي، وبين مبادئه التأسيسية. بيد أنه لا ينبغي أن يغيب عن بالنا ذلك الدور الأنطولوجي والإبستيمولوجي الذي تقوم به ثيولوجيا العقل في إنقاذ المفارقة وإثبات تعالي المبدأ الأول. ففي صورية العقل الإلهي تنحل الصعوبات التي يطرحها الخلط الأنطولوجي، بين العقل المحرك على جهة الغاية، وبين المقام الطبيعي للمتحركات الأخرى، وخطأ التأويلات الفيضية للأنطولوجيا الأرسطية يتأتى من عدم قدرتها على التمييز الكامل، بين الأول، من حيث هو عقل نظري مستقل، وبين كونه مبدأ فياضا مبدعا للموجودات بحسب المخطط الفيضي المتداول لدى الإسلاميين، وخاصة منهم الفارابي وابن سينا.
يحارب ابن رشد التخريج التأويلي الفيضي الذي تنعدم فيه الفواصل بين المفارق والمحايث، انطلاقا من رؤية تعلن انتسابها إلى الممارسة العقلانية الأرسطية، وتحافظ على خط التصور الطبيعي البرهاني في تمثلها للمنظومة الكونية العاملة من خلال أبنية مادية وحركية. فبعيدا عن غنوصية ابن سينا، التي لم تجد في صلابة بنيات العالم الظاهر إلا تجليا لحركة الباطن النفسية، يتمسك ابن رشد بمفهوم مادي للكون يدمج تراتب "طبائع الكل" وتشتت قيمها ومكوناتها في وحدة الطبيعة، التي أصبحت تعني لدى فيلسوف قرطبة واقعا محددا يشكل أرضية لكل التغيرات الجارية في العالم، ويؤطرها في مجال كوني موحد، متصل ومتجانس. وبهذا فالطبيعة تحايث الطبائع الجزئية، وتدفعها إلى بلوغ كمالها الطبيعي، ولا يتحقق العلو والانفصال إلا في مستوى العقل الثيولوجي. ولعل لإلغاء ابن رشد التراتبات التقليدية اليونانية والوسيطية كفاية للتدليل على معالم "الحداثة" في عالمه القريب من مقدمات الكوسمولوجيات الحديثة، يقول جلبير دوران G.Durant: "إن أرسطية العصور الوسطى، والتي كان منطلقها من ابن رشد، ما هي إلا دفاع عن الفكر المباشر ضد كل أشكال تأثير الفكر غير المباشر. فالعالم المدرك المحسوس، لم يعد عالم وساطة أنطولوجية حيث يتجلى سر ما… إنه عالم مادي، عالم المكان الخالص، مفصول بمحرك لا متحرك غاية في التجريد…"[45].
هكذا تقيم الرشدية شرعية أسئلتها خارج الدائرة الفلسفية التقليدية للمشائية العربية، وما داوله أعلامها من مشاكل تمحورت، في جانبها الأنطولوجي، حول وصف هرمية الفيوضات، وترتيب درجاتها ومستوياتها، من حيث النبل والشرف، على أساس موقعها في حلقات المد الفيضي. وهذا بالذات ما أدى بالخطاب الفلسفي المشرقي إلى تفتيت وحدة الكون المادية، وتحويلها إلى طبائع وقوى تختلف من حيث انتماؤها إلى القوى النفسانية أو العنصرية. والحقيقة أن فيلسوف قرطبة قد أنضج في شروحاته على أرسطو ما يمهد لقلب موازين هذه المعادلة المغلوطة بين الطبيعة وما يفارقها، حين قصر التمايز الأنطولوجي للجوهر المطلق عند حدود المبدأ الحركي الأول الذي تلحقه المفارقة دون سواه. أما الطبيعة، حيث يسود الاتصال والتجانس، فلا مجال فيها للتراتب القيمي، بل إنها خاضعة لسلطة واحدة هي سلطة الوحدة المادية والحركية. وعلى هذا النحو من النظر، فإن ترتيب الموجودات لا ينبغي أن يكون بالشرف بإطلاق، بل إن الترتيب بالشرف مقطوع به فقط لمحرك الكل، نظرا لأسبقيته على سائر مراتب الأفلاك، ثم لكونه جوهرا مطلقا، متقدم عليها بالموضع والعظم، وهو ما يظهر من قبل[46] تقدم المتحرك عنه، وفي كثرة الكواكب، وفي سرعة الحركة.
إن الطبيعة، في مفهومها الرشدي، ليست واقعة أولية معطاة في غفلة عن معانيها، أو عن غاياتها الكبرى، بل هي صيرورة أنطولوجية تنتظم في وحدتها أنساق وجودية مختلفة تؤصل بها كياناتها الذاتية. إنها، في خطوطها العامة وتفاصيلها، تبقى رهينة بالمعنى الغائي الذي تؤول إليه الموجودات، في كليتها. فلا حقيقة للحركة بذاتها خارج الممارسة الكونية العامة التي تلحقها بحركتها الكونية العظمى، والتي هي فعل المحرك الأول ومبدأ سار أفعالها[47]. بيد أن غائية الطبيعة ليس لها أن تعكس صورة مفارقة مستقلة الذات، قد تنتهي بمضاعفة مثالية تشطر وجود العالم على أساس ثنائي، إذ تلازم طبائع الموجودات غاياتها حين تؤم فعلا مشتركا ونظاما واحدا لجميعها، لأنه "ليس هاهنا صورة، كالغاية المشتركة والكلية، إلا ما كان لها من فعل مشترك. وهذه هي حال الصورة التي تحرك السماء الأولى الحركة اليومية، وذلك أن الحال في تعاون الأجرام السماوية في تخليق ما هاهنا من الموجودات وحفظها، كالحال في ذوي السياسات الفاضلة اللذين يتعاونون على سياسة مدنية فاضلة واحدة بأن يقتدوا في أفعالهم بما يفعله الرئيس الأول، أعني أنهم يجعلون أفعالهم تابعة وخادمة لفعل الرئيس الأول. فكما أن الرئيس الأول في المدن لا بد له من فعل خاص به هو أشرف الأفعال، وإلا كان عاطلا وباطلا. وهذا الفعل هو الذي يؤمه بأفعاله كل من دون الرئيس الأول، فإنه كما أنه لا بد في هذه الرئاسات من رئاسة أولى، كذلك لا بد في أفعال الرؤساء من فعل أول"[48].
تتوقع الكتابة الفلسفية الرشدية أن ترفع بهذا النسق التخيلي الذي يرسم به ابن رشد ملامح مدينة الكون كل التوترات الدلالية التي تعتمل في قلب النسيج النصي لكتاب ما بعد الطبيعة، فههنا تتبدد الشكوك التي ألقت بظلالها على معاني كتاب الحروف، خاصة منها ما يظهر من ترددها بين الوحدة والكثرة في تقويمها للماهية المطلقة، لأنه من طبيعة الغائية الكونية أن توفر سياقا وظيفيا محددا تتآلف فيه جماعة المحركين المتعاونين على حركة كل واحد من الكواكب المتحيرة، حيث ترجع كل جماعة إلى محرك أول، وتؤم بحركاتها كلها، الحركة التي محركها ذلك المحرك الأول. فالظاهر أن الذي يشمل جميعها أنها كلها موجودة بسبب شيء واحد، وأن أفعالها متجهة نحو ذلك الواحد، كعلة أولى وغائية لأجلها كان وجود العالم، وبهذا انتظم في كيان موحد. ذلك أنه إذا لم ندخل مبدءا للعالم واحدا كالمحرك، وكل الأشياء التي فيه واحدا، لم يمكننا القول: لم كان العالم؟ ولم كانت فيه مركبات هي واحدة؟[49].
خاتمة:
وهكذا أيضا يتجه البشر بمختلف أوضاعهم إلى إدراك موقع ذواتهم بارتباط مع العقلانية الغائية التي تعم ملامح السلوك المدني، وتجعله مرادفا للغائية الكونية. فتوحيد الأفراد لأغراضهم بحسب الحركة الجدلية العامة للمجتمع، يشير إلى منطق ومعايير مستقاة من ترتيب بنيات المحيط الكوني للمدينة. وإذا ما نحن راعينا أن للمدينة بمواطنيها هدفا مشتركا هو تحقيق الفضيلة التي ينظمها القانون، به تصبح فاضلة وتحقق الفضيلة المدنية في شخص الرئيس، كانت سياسة الكون الغائية أقدر على تجسيد هذه الصلات الدلالية التي تتوحد في قيمة الخير والفضيلة العامة، وعلى امتلاك نشاط معياري موحد، يصل المنظومة الطبيعية بمملكة الغاياتn
[1] - انظر على سبيل المثال اعتراضه على ادعاء أرسطو بانفراد الإغريق بالحكمة من دون غيرهم من العالمين اعتمادا على ثنائية تقيم فصلا لا يرتفع بين المواطن اليوناني وبين الغير من البرابرة، حيث يبدي ابن رشد في تلخيص الآثار العلوية اعتداده المعهود بالأندلسيين منوها باستعدادهم بالطبع لقبول الحكمة والمشاركة في العلوم العقلية. ولقد سخر ابن رشد لتأكيد هذا المعنى نظرية "الأقاليم السبعة" التي هيمنت على الفكر الجغرافي القديم، والتي تبناها بطليموس فلكيا وأخذ بها الفكر الغربي في إنتاجه الجغرافي والفلكي، حيث يموضع قاضي قرطبة إقليم الأندلس في الموضع الفاصل جغرافيا وفلكيا ليتسنى له تفسير سبب اعتدال أمزجة الأندلسيين، واختصاصهم بالكثير من الفضائل، وتميز خصائصهم الفيزيونومية عن الأمم الأخرى: ابن رشد تلخيص الآثار العلوية، ص103-104، دار الغرب الإسلامي، لبنان، 1994، كذلك الضروري في السياسة، ص82-83.
[2] - الظاهر أن المغزى العميق لهذا القول هو توظيف السياسة المدنية لتفكيك أسس الشرعية التيوقراطية للخلافة الموحدية من أساسها، وانتقاد أساسها الكلامي وهالتها الأسطورية والخلاصية التي أضفاها المهدي بن تومرت على نفسه حين صدع "بالدعوة المهدية" في ما يشبه انقلابا على المالكية السياسية، بنكهتها الأندلسية، وخصائصها الاجتماعية والثقافية التي انحدر منها أبو الوليد بن رشد نفسه.
[3] - ابن رشد، الضروري في السياسة: مختصر كتاب السياسة لأفلاطون، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1998، ص117.
[4] - المرجع السابق، ص120.
[5] - Carlos Thibaut : (Cabe Aristoteles), Revista de Occidente, N° 79, pp51-52.
[6] - الإشارة هنا إلى الاعتراض الخلدوني الشهير على "السياسة المدنية" وخاصة في الفصل الحادي والعشرين من المقدمة، طبعة دار البيان العربي، بدون تاريخ، ص303-305.
[7] - انظر بهذا الصدد انتقاده للسياسات غير الفاضلة في المقالة الثالث من الضروري في السياسة.
[8] - يحدد ابن رشد شروط إمكان الكلام الشرعي من الناحية السوسيولوجية والثقافية في قدرة النظام الاجتماعي على تكريس التقليد وترسيخ العادة، إذ ترتبط لديه الإشكالية الدينية بوقائع ملموسة تتمثل في قدرة القداسة على أن تنحل في منطق الضرورة، حيث نتبين نظرية رشدية جديدة تؤسس استراتيجية الاعتقاد على سياقات تجمع بين الفردي والمجتمعي في نوع من التفاعل بين الأسباب وما يتولد عنها من نتائج. فعن طريق الترويض المجتمعي يتولد ما يسميه فيلسوف قرطبة "بالعادة"، حيث إنها نتيجة تاريخية لممارسة اجتماعية تنتج الذات وتبني قواعدها الأخلاقية وقيمها الاعتقادية بشكل يذكرنا بفرضية خضوع الفرد للحتمية السوسيولوجية لدى دوركايم، ذات الجذور الكانطية، التي لها نسبة معلومة إلى تصورات ابن رشد عن حدود "العقل العملي". والحال هنا أن من شأن تغلغل المجتمعي في الجسم أن يتولد الحضور الفعال للتقليد لدى الفرد فيقتدر نظامه القيمي المكتسب بالعادة على إنتاج المنطق النوعي للحقل الاجتماعي، ولا بديل عند ابن رشد عن تفسير المخيال الديني خارج مقتضيات "العادة. فكما أن المرء الذي اعتاد السم يمكنه تناوله من غير ضرر، فإن العادة يمكن أن تعمل على قبول أكثر الآراء غرابة. والواقع أن آراء العوام لا تتكون إلا بالعادة، ويعتقد العوام ما يسمعون تكراره من غير توقف، ولذا فهم أقوى من الفيلسوف إيمانا. والسبب في ذلك أنهم لم يعتادوا على سماع ما يخالف اعتقادهم. بالرغم من أنه من شأن ذلك أن يكون وقوعه على الأكثر، وكذلك مما يشاهد حدوثه في زمننا أن كثيرا من الرجال يتعاطون تدارس العلوم العقلية، فيفقدون في الحال اعتقادهم الديني الذي لم يستمسكوا به إلا بحكم العادة…، فصاروا زنادقة…". أورده رينان نقلا عن تفسير السماع الطبيعي:
E.Renan, Averoes et l’averoïsme, p165-166, Erankfirt, 1985.
[9] - ابن رشد: بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ج.1، ص79، طبعة المركز الثقافي السعودي، الرباط، 1996.
[10] - عن تناقض اللغة الأخلاقية الأرسطية وغموض مفهومها عن الفضيلة وعدم توازنها المعرفي الراجع إلى اضطراب أرسطو في تحديد أساسها المرجعي، هل هو طبيعي أم ثقافي، أشير هنا إلى مرجع هام استطاع مؤلفه أن يضع أيديه على مكمن الداء، وأن يشخص أزمة المعيارية الخلقية عند أرسطو:
Ilisdair Macintyre : After Virtue, pp84-115. University of Notre Dame Press, 1981.
[11] - د.منذور عياشي: قراءة الذات للقرآن، ضمن ترجمته لكتاب جاك بيرك: القرآن وعلم القراءة، ص16-21، مركز الإنماء الحضاري، بيروت، 1996.
[12] - M.Foucault, L’archéologie du savoir, pp172-173, Gallimard, Paris, 1969.
[13] - م.فوكو، الكلمات والأشياء، ص67-68، بيروت، 1990.
[14] - ابن رشد: تهافت التهافت، ص478، دار المشرق، بيروت، 1986.
[15] - المرجع السابق، ص413.
[16] - Pierre Aubenque, Le problème de l’être, p335, PUF, 1962.
[17] - R.Mugnier, La théorie du premier moteur et l’évolution de la pensée d’Aristote, pp1-2, Paris, 1936.
[18] - ابن رشد: تفسير ما بعد الطبيعة، ج.3، ص1710، بيروت، المطبعة الكاثوليكية، 1988.
[19] - تهافت التهافت، ص229.
[20] - المرجع السابق، ص229.
[21] - المرجع السابق، ص48.
[22] - المرجع السابق، نفس الصفحة.
[23] - المرجع السابق، ص50.
[24] - المرجع السابق، ص230.
[25] - Moreau Joseph, L’idée d’univers dans le monde antique, p10, Torino, 1953.
[26] - Ibid, p11.
[27] - ابن سينا، رسالة العشق، ضمن التفسير القرآني واللغة الصوفية في فلسفة ابن سينا: ص248-249، بيروت، 1983.
[28] - ابن رشد: تلخيص السماء والعالم، ص196.
[29] - جوامع السماء والعالم، ص42، حيدر آباد، 1947.
[30] - ابن رشد: جوامع ما بعد الطبيعة، ص136، حيدر آباد، 1947.
[31] - جوامع السماء والعالم، ص67 ضمن المرجع السابق.
[32] - تلخيص السماء والعالم، ص216-217، الدار البيضاء، 1984.
[33] - المرجع السابق، ص218.
[34] - تهافت التهافت، ص49.
[35] - انظر بهذا الصدد: (فصل في حرف اللام) لأرسطو، ضمن أرسطو عند العرب، ص11، د.ع.بدوي، الكويت، 1978
[36] - د.برهان غليون، الدين والدولة، ص35، بيروت، 1991.
[37] - روجيه أرنانديز، (ما بعد الطبيعة والسياسة في تفكير الفارابي)، مجلة المورد، ع،3، 1975، ص40-41.
[38] - نشير هنا إلى كتابه الهام رحلة العقل.
[39] - تفسير ما بعد الطبيعة، ج.3، ص1710-1711.
[40] - F.Wolff, Aristote et la politique, p30, PUF, 1991.
[41] - Averroes Middle Commentary on Nicomachean ethics, p50, Oriens, 1967.
ويصف ابن رشد اختلال هذا القانون الكوني والمدني المتمثل في العدل، عارضا لأحوال الطاغية بلغة تذكرنا بجدل العبد والسيد لدى هيجل.
أنظر الصفحات: 196-202، الضروري في السياسة.
[42] - ابن رشد: تهافت التهافت، ص231-232.
[43] - المرجع السابق، ص232.
[44] - انظر له: (مقالة الإسكندر في القول في مبادئ الكل بحسب رأي أرسطوطاليس) ضمن أرسطو عند العرب.
[45] - Gilbert Durant, L’imagination symbolique, pp25-26, PUF, 1964.
[46] - تفسير ما بعد الطبيعة، ج.3، ص1647.
[47] - المرجع السابق، ص1650.
[48] - المرجع السابق، ص1650-1651.
[49] - المرجع السابق، ص1653.