هل نحتاج فعلا للدين كي نلبي حاجاتنا الروحية؟ وهل يعتبر الدين بصفة عامة مقنعا بخصوص لغز تفسير الكون؟ هل للحيوانات دينها على غرار البشر؟ أم أن العقل الذي يتميز به الإنسان هو أكثر تقبلا للدين، بما أنه يتأسس على أرضية الإدراك والوعي والتمييز؟ عندما نتأمل هاته الأسئلة التي بين أيدينا، نجد أنها تدعونا مباشرة إلى فهم الدين، إلى الوقوف عند غايته، وإلى العمل على فك بنيته التي يتأسس عليها، لسبب بسيط هو أن الإنسان لم يستطع أولا أن يتفق على دين واحد، كما أن هناك من الناس من لم يقتنع بأية ديانة ولا أي اعتقاد، في مقابل ذلك نجد أن الدين الواحد ما يفتأ يتأسس على تفاسير مختلفة يكاد الواحد منها يقتل الآخر، مما يسبب تطاحنات داخلية بين أناس يقتلون باسم الدين، وإن كان هذا الأخير قد ظهر ليس من أجل القتل وإنما من أجل نبذه لا غير.
قبل أن يظهر الدين في العالم ظهر السحر، وبما أن الإنسان الأول عاش في أقصى شرق آسيا وإثيوبيا حاليا ثم الشرق الأوسط فلا غرابة أن نرى السحر لا زال يجثم بثقله ويلقي بظلاله على أهله وإن تغيرت الأمور كثيرا عكس الغرب طبعا، للسحر طقوسه الخاصة التي كانت تُوَجَّهُ نحو جبروت الطبيعة، لقد كان الإنسان محفوفا بهذا الجبروت من فيضانات وزلازل وبراكين وأعاصير وبعض الظواهر الطبيعية الأخرى كالكسوف والمذنبات... وبما أن نسبة تفوقه العقلي كانت في بداياتها الساذجة، فلا شك أن وعيه لم يكن يقل سذاجة عليه، من هنا كانت كلما جادت الطبيعة بما لها من جبروت، بدأ يقوم ببعض الطقوس، وبما أن الطبيعة تعيش دوراتها المنطقية، فقد كان يعتقد أنه بممارسته لتلك الطقوس يحد مباشرة من قوة الطبيعة، فتعود المياه لمجاريها بفضل طقوسه السحرية تلك، والتي لازال البعض يقوم بها لحد الساعة كلما ألفى نفسه تحت رحمة زلزال ما أو فيضان، أو على إيقاع صوت الرعد، أو ظاهرة الكسوف... من خلال أدعية ورجاءات نحو السماء أو نحو الأرض.
كلنا نعلم أن الطبيعة لا تخضع لمنطق التحكم، كما لا تقوم على مبدأ التوقع، لهذا وجد الإنسان قديما أن طقوسه لم تعد تجدي نفعا، وبفضل جنوح عقله نحو التجريد وانتقاله من مرحلة التفاسير الأمبريقية إلى ما هو ترُنْسُنْدُنْتالي، انتقل من وعيه الساذج إلى وعي تجريدي، بموجبه أصبح يعتقد بوجود قوة خفية تتحكم في الطبيعة، وبما أن لها اليد الكاملة على ذلك فلا شك أن هاته القوة هي من أوجدت الطبيعة مثلما أوجد أجدادنا الأوائل أدوات الصيد والطبخ والدفاع عن النفس، لقد تأسس الدين انطلاقا من هذا الفهم، صحيح أن الآلهة آنذاك لم تخرج من إطارها الطبيعي، أي أنها كانت جزءا لا يتجزأ من عناصر الطبيعة، كالشمس أو الإله رع، أو النيل في مصر، أو غايا عند الإغريق أي الأرض، أو النار عند المجوس... بيد أن الإنسان بتأمله لهذا الأمر خَلُصَ إلى أن هاته العناصر ليست بالعناصر المطلقة قوتها كي تكون لها القدرة على خلق العالم والتحكم فيه، فالشمس تختفي ليلا، والنيل يتوقف عن الفيضان عندما نرمي له حيوانا، وقد تكون أنثى في بعض الأحيان، أما النار فإنها تنطفئ عندما تسقط عليها الأمطار...
انتهت رحلة الإنسان إلى التأسيس لإله تجريدي محض ابتداءً من يهود مصر، هذا الإله واحد لا يشبهه شيء، إله متناه أزليا وأبديا، قواه الخارقة لا يمكن للعقل البشري تصورها، من هنا ومن هنا فقط بدأ التأسيس للأديان التي تستلهم أسسها الإبستيمولوجية والعقدية من السماء وليس من عناصر الطبيعة، هكذا عثر الإنسان على ملاذ من خلاله وجد تفسيرا روحانيا للكون مفاده أن الإله خالق كل هاته الأشياء من عدم، وهو المتفق عليه من طرف كل الديانات وفي كل كتبها المقدسة ابتداءً من سفر التكوين إلى القرآن الكريم، وعليه فالحق أنه لا بد أن نعطي انطلاقا مما سبق غاية الدين الأولى والتي ليست إلا فك وحل لغز الكون كالخلق والمصير والطرق المتبعة في ذلك، الدين إذن بمثابة تصور للعالم يريد إقناعه بالغاية من وجود الإنسان الذي ما ننفك نطرحه في كل آن وحين، إنه ترياق لهذا الهاجس وطمأنينة يجنح لها الإنسان بغاية التخلص من حيرته الكبيرة، والتي لا زال يفكر فيها حتى وإن كان من أشد المتدينين.
لقد كان للعقل أيضا كبير أثر في هذه المآلات التي اتبعها الإنسان بغاية إيجاده لحل جذري، بيد أن الأمور ستعرف منطقا لم يكن في حسبان أحد، فالعقل الذي أوجد الدين هو العقل الذي أوجد العلم، وهو العقل الذي خلق الفلسفة، للعلم أيضا وكما نعلم باعه الكبير في تفسير لغز الكون، صحيح أنه وإلى حدود القرن الرابع عشر كان العلم تحت رحمة الدين، لكنه بدأ يعرف استقلاليته من خلال التغريد خارج تخوم الدين، ومنه بدأ يؤسس هو الآخر تفسيراته للكون خارج الفهم الدين، الدين يقدم أجوبة مغلقة والعلم يكره الطمأنينة، من هنا بدأنا نعيش صراعا خفيا بين الإثنين، ومنه تحول العلم إلى دين جديد، مثلما كان الدين قديما علما هو الآخر، وبقدر ما أن للدين طقوسه من صلوات وكتب مقدسة وأمكنة للتعبد، فإنه للعلم أيضا نظرياته وتجاربه وكتبه أيضا ومختبراته، من ثمة فلا ريب أنه بقدر ما يؤمن البعض بالدين ويدافعون عنه بتعصب، فإن البعض الآخر يؤمن بالعلم ويتعصب له.
السياسة هي الأخرى لا يمكن فصلها عما نحن بصدد الخوض فيه، والحال أن فيلسوفا كبيرا والذي ليس إلا إيميليو جونتي، يؤكد في أكثر من معرض ما قلناه آنفا، أي أن السياسة دون هو الآخر، لقد غيرنا المعابد بقصور الحكم، وعوضنا النبي بالرئيس، وأناشيد التعبد ثم تعويضها بالأناشيد الوطنية... وبما أنه لكل دين كتابه الخاص، فإن للسياسة أيضا دستورها المقدس الذي له هو الآخر تعاليمه التي ما إن تُتَجاوز حتى يعاقب من سولت له نفسه لذلك، لقد أصبحت السياسة دينا جديدا، مثلما كان الدين ذات يوم سياسة.
عندما نعود لأزمنة الألفية الثالثة، نرى أنها تميزت هي الأخرى بظهور أديان جديدة، عرفت كيف تستقطب أتباعها من حيث لا يدرون، أتباع لهم طقوسهم الخاصة، وأفكارهم التي يتعصبون لها، وقوانينهم التي تجمعهم ... وبما أن الدين طقس روحي الغرض منه تفسير ما لم يستطع العقل تفسيره، فإن كرة القدم اليوم لم تعد تلك الرياضة العادية وقط، بقدر ما أنها تحولت إلى دين جديد تتأسس صلاته على ظاهرة الإلترات، حيث الملعب معبده، والأناشيد ابتهالاته، كما أنها أصبحت سياسة أيضا لها وزنها الكبير وقوتها الضاربة التي تنافس كبريات الدول.