على الفلاسفة أن يعيدوا ترتيب العالم بعد أن وصل إلى ما وصل إليه اليوم، مثلما أعادوا ترتيبه في عديد الحقب مانحين للإنسان نفسا آخر، وروحا أخرى، ومنهجا جديدا لإدراك الوجود وتفسيره وتأويله أيضا، ربما أصبح سؤال : إلى أين يسير العالم؟ سؤالا ملحا وبكثير من الحذر في الخوض فيه، فلنتأمل مآلات الإنسان على أصعدة عدة، كي نجد أنفسنا أمام الانخراط في هاته الدعوة، ولنعد لبنية العالم أيضا كي نلمس هذا التغيير السريع، بناء على جملة من مظاهر ذلك، كالتعصب الديني، والحروب فارغة المغزى، والثلوث الذي يصيب كوكبنا في كل آن وحين، ناهيك عن التقلبات المناخية، وأزمة القيم، ونذرة الماء...
بعودتنا إلى ما سبق ذكره نحاول البحث عن عِلَّةِ هذا الأمر، إذ يمكن إرجاعه أولا إلى طبيعة الإنسان التي تميل إلى الهيمنة والسيطرة وتطويع كل شيء حيث للفلسفة الديكارتية كبير تأثير على ذلك، أما من الجهة الثانية فإنه لا مراء من أن روح الأزمنة الحديثة قد تميزت وبفضل اكتساح التقنية للمعيش اليومي للإنسان، تميزت بتغييرها لسيرورة الوجود أو قُلْ لسيرورة كينونة الإنسان، مما جعلنا بلغة هايدغر نفرط في نسياننا لسؤال الوجود من ثمة ابتعادنا بالمطلق عن الحياة في شكلها الطبيعي.
أغلب الفلاسفة الذين حاولوا قراءة العالم وما يحذوه من انقلابات جذرية على جميع الأصعدة، اتفقوا على فكرة أن عالمنا هذا أصبحت جد معقدة أنماط سيره، وإن كان هناك اختلاف في السبب، بين من يرجعه طبعا إلى ما قلناه آنفا، بيد أن من بين القراءات الحالية التي وجب التوقف عندها طويلا، هي قراءة الفيلسوف الأمريكي الشهير مايكل صانديل (1953ـ...) لمآلات العالم انطلاقا من مؤلفه المثير للضجة "ما لا يمكن شراؤه بالمال"، حيث وجه سهام نقده للمال وكيف أنه أصبح له كبير تأثير على حياة الإنسان اليومية، بل إن النقود أحدثت تغيرا جوهريا في المنطق الأخلاقي للإنسان، كما في علاقاته مع الآخرين، بالتالي كان لا بد من إعادة قراءة العالم على ضوء سؤال المال.
إن لفلسفة الأخلاق كبير حضور في حياة الإنسان ووجوده على حد سواء، لكن عندما نقرأ روح الأزمنة الحاضرة، هل يمكن الحديث عن الخير وعن الإحساس بدواخل الآخر والتضامن معه بدون مقابل؟ ألم يتمكن المال من اكتساح ما كنا نراه نبيلا قبل اليوم كالتعليم والدين والعمل الخيري والعدالة والسياسة؟ من ثمة يمكن القول وبكثير من الحذر أن كل شيء أصبح خاضعا لنظام السوق ومنطقه، والذي لا يؤمن إلا بالربح بمعزل عن الطرق المتاحة وغير المتاحة في ذلك، بما أن الرأسمال لا أخلاقي وليس له من قيم الفضيلة من شيء.
تاريخ النقود هو بداية تاريخ التجريد، تجريد العالم والقيم والإنسان والمعاملات والعلاقات كذلك، فلنعقد المقارنة بين المعاملات بالنقود كما هي عليه اليوم، وبين نظام المقايضة كما كان عليه الأمر سابقا، كي نتمكن من استخلاص أولى النتائج في هذا الأمر، حيث كان التبادل قديما تبادلا عينيا يتأسس على منطق الحاجة وليس الربح، أي على حاجتي لهذا الشيء وليس لتكديسه والاستحواذ عليه بمنطق السيطرة لا غير، لكن وبظهور النقود تغير منطق تصور العالم، أقدم لك خذمة ما كي تعطيني مقابلا، والذي ليس إلا عبارة عن أوراق لها قيمة معنوية، لكن عندما نضع هاته الأوراق أمام الخدمة المقدمة سَتُسْتَعْصَى المقارنة، حيث العبث بعينه والعدمية في أرقى درجاتها، من ثمة وبسيادة النقود كقيمة تجرد العالم وبتجرده هذا، كان لا بد من الأخلاق أن تعرف هي الأخرى تغيرا بنيويا وإبستيمولوجيا أيضا.
إن أهم تغير لحق بالأخلاق هو الإيمان بمنطق المقابل، صحيح أن الأخلاق القديمة هي الأخرى كانت تؤمن بذلك، بيد أن وجه الاختلاف يكمن في طبيعة هذا المقابل، حيث كان الخير على سيبل المثال، كقيمة القيم خيرا في ذاته وليس خيرا من أجل مقابل مادي، لسبب بسيط يكمن في طبيعة الإنسان، حيث نتألم بمجرد تألم الغير ونفرح عند فرحه، هل تغيرت طبيعة الإنسان اليوم بما أنه لم يعد يؤمن إلا بمقابل جراء عمل يقوم به؟ إن أهم شيء تغير والذي أثر على قيمة الخير وباقي القيم، هو هيمنة التعامل بالنقود وليس طبيعة الإنسان، حيث تتغير بتغير الحالة التي يتواجد فيها.
في هذا السياق يدعونا مايكل صانديل إلى تأمل بعض المظاهر في هذا الشأن، كي نعرف مدى تأثير النقود أو المقابل على الأخلاق المعاصرة، والتي رصدها في عديد الأمثلة، كتعويض العاطلين عن العمل عندما يأخذون دور شخص ما في الطابور، أو مكافأة التلاميذ المتفوقين ماديا، أو ما يحصل في السجون حيث ينزل السجين في أحسن الزنازن عندما يقدم مقابلا لذلك، في ضرب صارخ لقيمة العدالة وأيضا لمنطق العقاب الذي لا يجب أن يكون عقابا ساديا وإنما عقابا عادلا مهما كانت الأحوال، نفس الشيء نجده مثلا في قارعة الطريق، عندما نقدم قطعة نقدية لمتسول ما، نرى أن دعواته إليك تطول بطول ما قدمته له، كل هذا الذي تم ذكره إذن لا يمكن قراءته إلا تحت مجهر هيمنة نظام السوق الذي يتأسس على المقابل لا غير، بل إن الأمر يزداد غرابة عندما نعود لمفهوم الدعيرة أو الغرامة المالية التي تقدم عند ارتكاب جريمة ما، بالتالي وجب عليك أن تشتغل كي تحصل على النقود كي تقدمها كغرامة تخفف عليك مدة العقوبة، الحرية هنا كقيمة أساسية في الأخلاق أصبحت تباع وأصبح لها ثمنا ماديا وليس معنويا كما كان عليه الامر في السابق.
بعودتنا إلى ما أصبح يتأسس عليه العالم اليوم، سنجد أن التقنية ليست هي من تتحمل المسؤولية الكبيرة في هذا التحول الذي أصابنا والذي لم نعد من خلاله بقادرين على الانفلات منه، ولا بمتمكنين من العيش بدونه، بقدر ما أن كل الأشياء التي تحرك العالم اليوم لن تكون سوى النقود ولا شيء غيرها، فلنعد للحروب اليوم، أو القرارات السياسية، أو ثقافة المتعة، أو الموضة... كي نقف جيدا عند سببها، إذ بالمال يسمع صوتي سياسيا، وبالمال أشتري السعادة، وبالمال أيضا أقتل وهلم جرا، فلنتخيل شخصا ما أسديت له خدمة من طرف شخص آخر، لكن وبدل أن يقدم له مقابلا ماديا تمنى له حظا سعيدا في الحياة، كيف سيكون رد الشخص الذي قدم الخدمة؟